موسوعة الآداب الشرعية

تاسعًا: الخُشوعُ في الصَّلاةِ


مِن آكَدِ آدابِ الصَّلاةِ [602] قال أبو العَبَّاسِ ابنُ قُدامةَ: (أمَّا الصَّلاةُ فإنَّها عِمادُ الدِّينِ وغُرَّةُ الطَّاعاتِ، وقد ورَدَ في فضائِلِ الصَّلاةِ أخبارٌ كَثيرةٌ مَشهورةٌ، ومِن أحسَنِ آدابِها الخُشوُع). ((مختصر منهاج القاصدين)) (ص: 28، 29). : الخُشوعُ فيها [603] قال الفيُّوميُّ: (خَشَعَ خُشوعًا: إذا خَضَعَ، وخَشَعَ في صَلاتِه ودُعائِه: أقبَلَ بقَلبِه على ذلك، وهو مَأخوذٌ مِن خَشَعَتِ الأرضُ: إذا سَكَنَت واطمَأنَّت). ((المصباح المنير)) (1/ 170). وقال ابنُ القَيِّمِ: (الخُشوعُ في أصلِ اللُّغةِ: الانخِفاضُ، والذُّلُّ، والسُّكونُ... والخُشوعُ: قيامُ القَلبِ بَينَ يَدَيِ الرَّبِّ بالخُضوعِ والذُّلِّ، والجَمعيَّة عليه... وقال الجُنَيدُ: الخُشوعُ تَذَلُّلُ القُلوبِ لعَلَّامِ الغُيوبِ. وأجمَعَ العارِفونَ على أنَّ الخُشوعَ مَحَلُّه القَلبُ، وثَمَرَتُه على الجَوارِحِ، وهيَ تُظهِرُه... قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «التَّقوى هاهنا» وأشارَ إلى صَدرِه ثَلاثَ مَرَّاتٍ. وقال بَعضُ العارِفينَ: حُسنُ أدَبِ الظَّاهرِ عُنوانُ أدَبِ الباطِنِ). ((مدارج السالكين)) (1/ 516، 517). وقال عنِ السَّكينةِ عِندَ القيامِ بوظائِفِ العُبوديَّةِ: (هيَ التي تورِثُ الخُضوعَ والخُشوعَ وغَضَّ الطَّرْفِ وجَمعيَّةَ القَلبِ على اللهِ تعالى، بحَيثُ يُؤَدِّي عُبوديَّتَه بقَلبِه وبَدَنِه، والخُشوعُ نَتيجةُ هذه السَّكينةِ وثَمَرَتُها، وخُشوعُ الجَوارِحِ نَتيجةُ خُشوعِ القَلبِ). ((إعلام الموقعين)) (4/ 155). وقال السَّعديُّ: (أمَّا الخُشوعُ فهو حُضورُ القَلبِ وَقتَ تَلبُّسِه بطاعةِ اللهِ، وسُكونُ ظاهِرِه وباطِنِه، فهذا خُشوعٌ خاصٌّ، وأمَّا الخُشوعُ الدَّائِمُ الذي هو وَصفُ خَواصِّ المُؤمِنينَ فيَنشَأُ مِن كَمالِ مَعرِفةِ العَبدِ برَبِّه ومُراقبَتِه، فيَستَولي ذلك على القَلبِ كما تَستَولي المحَبَّةُ). ((تيسير اللطيف المنان)) (2/ 362). ، وحُكيَ الإجماعُ على استِحبابِ الخُشوعِ فيها [604] قال النَّوويُّ: (أجمَعَ العُلماءُ على استِحبابِ الخُشوعِ والخُضوعِ في الصَّلاةِ، وغَضِّ البَصَرِ عَمَّا يُلهي، وكَراهةِ الالتِفاتِ في الصَّلاةِ). ((المجموع)) (3/314). وهو سُنَّةٌ مُؤَكَّدةٌ باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ. يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/15)، ((الذخيرة)) للقرافي (2/235)، ((المجموع)) للنووي (3/314)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/392). لكِن قال ابنُ تَيميَّةَ: (قال اللهُ تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة: 45] ، وهذا يَقتَضي ذَمَّ غَيرِ الخاشِعينَ، كقَولِه تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [البقرة: 143] وقَولِه تعالى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى: 13] فقد دَلَّ كِتابُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ على مَن كَبُرَ عليه ما يُحِبُّه اللهُ، وأنَّه مَذمومٌ بذلك في الدِّينِ مَسخوطٌ مِنه ذلك، والذَّمُّ أوِ السُّخطُ لا يَكونُ إلَّا لتَركِ واجِبٍ أو فِعلِ مُحَرَّمٍ، وإذا كان غَيرُ الخاشِعينَ مَذمومينَ، دَلَّ ذلك على وُجوبِ الخُشوعِ. فمِنَ المَعلومِ أنَّ الخُشوعَ المَذكورَ في قَولِه تعالى: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ لا بُدَّ أن يَتَضَمَّنَ الخُشوعَ في الصَّلاةِ؛ فإنَّه لو كان المُرادُ الخُشوعَ خارِجَ الصَّلاةِ لفسَدَ المَعنى؛ إذ لو قيل: إنَّ الصَّلاةَ لكَبيرةٌ إلَّا على مَن خَشَعَ خارِجَها ولم يَخشَعْ فيها، كان يَقتَضي أنَّها لا تَكبُرُ على مَن لم يَخشَعْ فيها، وتَكبُرُ على مَن خَشَعَ فيها. وقدِ انتَفى مَدلولُ الآيةِ؛ فثَبَتَ أنَّ الخُشوعَ واجِبٌ في الصَّلاةِ، ويَدُلُّ على وُجوبِ الخُشوعِ فيها أيضًا قَولُه تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ إلى قَولِه: الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون: 1 - 11] أخبَرَ سُبحانَه وتعالى أنَّ هؤلاء همُ الذينَ يَرِثونَ فِردَوسَ الجَنَّةِ، وذلك يَقتَضي أنَّه لا يَرِثُها غَيرُهم، وقد دَلَّ هذا على وُجوبِ هذه الخِصالِ؛ إذ لو كان فيها ما هو مُستَحَبٌّ لكانت جَنَّةُ الفِردَوسِ تورَثُ بدونِها؛ لأنَّ الجَنَّةَ تُنالُ بفِعلِ الواجِباتِ دونَ المُستَحَبَّاتِ؛ ولهذا لم يُذكَرْ في هذه الخِصالِ إلَّا ما هو واجِبٌ، وإذا كان الخُشوعُ في الصَّلاةِ واجِبًا فالخُشوعُ يَتَضَمَّنُ السَّكينةَ والتَّواضُعَ جَميعًا... وإذا كان الخُشوعُ في الصَّلاةِ واجِبًا وهو مُتَضَمِّنٌ للسُّكونِ والخُشوعِ، فمَن نَقَر نَقْرَ الغُرابِ لم يَخشَعْ في سُجودِه، وكذلك مَن لم يَرفَعْ رَأسَه مِنَ الرُّكوعِ ويَستَقِرَّ قَبل أن يَنخَفِضَ لم يَسكُنْ؛ لأنَّ السُّكونَ هو الطُّمَأنينةُ بعَينِها، فمَن لم يَطمَئِنَّ لم يَسكُنْ، ومَن لم يَسكُنْ لم يَخشَعْ في رُكوعِه ولا في سُجودِه، ومَن لم يَخشَعْ كان آثِمًا عاصيًا، وهو الذي بَيَّنَّاه. ويَدُلُّ على وُجوبِ الخُشوعِ في الصَّلاةِ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَوعَّدَ تارِكيه كالذي يَرفعُ بَصَرَه إلى السَّماءِ فإنَّه حَرَكَتُه ورَفعُه، وهو ضِدُّ حالِ الخاشِعِ... فلمَّا كان رَفعُ البَصَرِ إلى السَّماءِ يُنافي الخُشوعَ حَرَّمَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتَوعَّدَ عليه. وأمَّا الالتِفاتُ لغَيرِ حاجةٍ فهو يَنقُصُ الخُشوعَ ولا يُنافيه؛ فلهذا كان يَنقُصُ الصَّلاةَ). ((مجموع الفتاوى)) (22/ 553-559). ويُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/ 521). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكتابِ:
قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون: 1-2] .
قال ابنُ رَجَبٍ: (وصَف اللهُ المُؤمِنينَ بالخُشوعِ له في أشرَفِ عِباداتهمُ التي هم عليها يُحافِظونَ، فقال: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) [605] ((مجموع رسائل ابن رجب)) (1/ 290). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (عَلَّقَ اللَّهُ سُبحانَه الفلاحَ بخُشوعِ المُصَلِّي في صَلاتِه، فمَن فاتَه خُشوعُ الصَّلاةِ لم يَكُنْ مِن أهلِ الفَلاحِ) [606] ((الصلاة وأحكام تاركها)) (ص: 140، 141). .
وقال السُّيوطيُّ: (قَولُه تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الآيةُ فيها مِن شُعَبِ الإيمانِ الخُشوعُ في الصَّلاةِ) [607] ((الإكليل في استنباط التنزيل)) (ص: 186). .
ب-مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عُثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه دَعا بطَهورٍ وقال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((ما مِنِ امرِئٍ مُسلمٍ تَحضُرُه صَلاةٌ مَكتوبةٌ فيُحسِنُ وضَوءَها وخُشوعَها ورُكوعَها، إلَّا كانت كَفَّارةً لِما قَبلَها مِنَ الذُّنوبِ ما لم يُؤتِ كَبيرةً، وذلك الدَّهرَ كُلَّه)) [608] أخرجه مسلم (228). .
وفي رِوايةٍ عن حُمرانَ مَولى عُثمانَ، أنَّ عُثمانَ بنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عنه دَعا بوَضوءٍ فتَوضَّأ فغَسَل كَفَّيه ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ مَضمَضَ واستَنثَرَ، ثُمَّ غَسَل وجهَه ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَل يَدَه اليُمنى إلى المِرفَقِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَل يَدَه اليُسرى مِثلَ ذلك، ثُمَّ مَسَحَ رَأسَه، ثُمَّ غَسَل رِجلَه اليُمنى إلى الكَعبَينِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَل اليُسرى مِثلَ ذلك، ثُمَّ قال: رَأيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَوضَّأ نَحوَ وُضوئي هذا، ثُمَّ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن تَوضَّأ نَحوَ وُضوئي هذا ثُمَّ قامَ فرَكَعَ رَكعَتَينِ لا يُحَدِّثُ فيهما نَفسَه، غُفِرَ له ما تَقدَّمَ مِن ذَنبِه)) [609] أخرجه البخاري (159)، ومسلم (226) واللفظ له. .
2- عن عَمرِو بنِ عَبَسةَ السُّلَميِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (... قُلتُ: يا نَبيَّ اللهِ فالوُضوءُ حَدَّثَني عنه، قال: ما مِنكُم رَجُلٌ يَقرُبُ وضَوءَه فيَتَمَضمَضُ ويَستَنشِقُ فيَنتَثِرُ إلَّا خَرَّت خَطايا وَجهِه وفيه وخَياشيمِه، ثُمَّ إذا غَسَل وَجهَه كَما أمَرَه اللهُ إلَّا خَرَّت خَطايا وَجهِه مِن أطرافِ لحيَتِه مَعَ الماءِ، ثُمَّ يَغسِلُ يَدَيه إلى المِرفَقَينِ، إلَّا خَرَّت خَطايا يَدَيه مِن أنامِلِه مَعَ الماءِ، ثُمَّ يَمسَحُ رَأسَه، إلَّا خَرَّت خَطايا رَأسِه مِن أطرافِ شَعرِه مَعَ الماءِ، ثُمَّ يَغسِلُ قدَمَيه إلى الكَعبَينِ، إلَّا خَرَّت خَطايا رِجلَيه مِن أنامِلِه مَعَ الماءِ، فإن هو قامَ فصَلَّى، فحَمِدَ اللَّهَ وأثنى عليه ومَجَّده بالذي هو له أهلٌ، وفرَّغَ قَلبَه للَّهِ، إلَّا انصَرَف مِن خَطيئَتِه كَهَيئَتِه يَومَ وَلَدَته أُمُّه)) [610] أخرجه مسلم (832). .
قال المظهَريُّ: («وفرَّغَ قَلبَه للَّهِ» يَعني: وجَعَل قَلبَه حاضِرًا للَّهِ، وجَعَله خاليًا عنِ الأشغالِ الدُّنيَويَّةِ) [611] ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (2/ 212). وقال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (قَولُه: «وفرَّغَ قَلبَه للَّهِ» أي: مِمَّا يَشغَلُه عنِ الصَّلاةِ، كَما قال: «لا يُحَدِّثُ فيها نَفسَه»). ((المفهم)) (2/ 464). .
3- عن عُقبةَ بنِ عامِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما مِن مُسلمٍ يَتَوضَّأُ فيُحسِنُ وُضوءَه، ثُمَّ يَقومُ فيُصَلِّي رَكعَتَينِ، مُقبِلٌ عليهما بقَلبِه ووَجهِه، إلَّا وجَبَت له الجَنَّةُ)) [612] أخرجه مسلم (234). .
فوائِدُ:
قال ابنُ رَجَبٍ: (أصلُ الخُشوعِ هو: لِينُ القَلبِ ورِقَّتُه وسُكونُه وخُضوعُه وانكِسارُه وحُرقتُه، فإذا خَشَعَ القَلبُ تَبِعَه خُشوعُ جَميعِ الجَوارِحِ والأعضاءِ؛ لأنَّها تابعةٌ له، كَما قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ألا إنَّ في الجَسَدِ مُضغةً إذا صَلَحَت صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّه، وإذا فسَدَت فسَدَ الجَسَدُ كُلُّه، ألا وهيَ القَلبُ» [613] أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599) من حديثِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
فإذا خَشَعَ القَلبُ خَشَعَ السَّمعُ والبَصَرُ والرَّأسُ والوَجهُ، وسائِرُ الأعضاءِ وما يَنشَأُ مِنها حتَّى الكَلامُ؛ لهذا كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ في رُكوعِه في الصَّلاةِ: «خَشَعَ لك سَمعي وبَصَري ومُخِّي وعَظمي» [614] أخرجه مسلم (771) من حديثِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُه: عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ: ((عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه كان إذا قامَ إلى الصَّلاةِ ... وإذا رَكَعَ قال: اللهُمَّ لكَ رَكَعتُ، وبكَ آمَنتُ، ولكَ أسلمتُ، خَشَعَ لكَ سَمعي وبَصَري ومُخِّي، وعَظمي وعَصَبي ...)). ، ... ورَأى بَعضُ السَّلفِ رَجُلًا يَعبَثُ بيَدِه في الصَّلاةِ، فقال: لو خَشَعَ قَلبُ هذا لخَشَعَت جَوارِحُه) [615] ((مجموع رسائل ابن رجب)) (1/ 290). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (يَستَحيلُ حُصولُ الخُشوعِ مَعَ العَجَلةِ والنَّقرِ قَطعًا، بَل لا يَحصُلُ الخُشوعُ قَطُّ إلَّا مَعَ الطُّمَأنينةِ، وكُلَّما زادَ طُمَأنينةً ازدادَ خُشوعًا، وكُلَّما قَلَّ خُشوعًا اشتَدَّت عَجَلتُه حتَّى تَصيرَ حَرَكةُ يَدَيه بمَنزِلةِ العَبَثِ الذي لا يَصحَبُه خُشوعٌ ولا إقبالٌ على العُبوديَّةِ، ولا مَعرِفةُ حَقيقةِ العُبوديَّةِ... فليسَ مَن عَمَد إلى أفضَلِ ما يَقدِرُ عليه فيُزَيِّنُه ويُحَسِّنُه ما استَطاعَ ثُمَّ يَتَقَرَّبُ به إلى مَن يَرجوه ويَخافُه كَمَن يَعمِدُ إلى أسقَطِ ما عِندَه وأهوَنِه عليه فيَستَريحُ مِنه ويَبعَثُه إلى مَن لا يَقَعُ عِندَه بمَوقِعٍ، وليسَ مَن كانتِ الصَّلاةُ رَبيعًا لقَلبِه وحَياةً له وراحةً وقُرَّةً لعَينِه، وجَلاءً لحُزنِه وذَهابًا لهَمِّه وغَمِّه، ومَفزَعًا له إليه في نَوائِبِه ونوازِلِه، كَمَن هيَ سُحتٌ لجَوارِحِه، وتَكليفٌ له وثِقلٌ عليه، فهيَ كَبيرةٌ على هذا، وقُرَّةُ عَينٍ وراحةٌ لذلك، وقال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، فإنَّما كَبُرَت على غَيرِ هَؤُلاءِ لخُلوِّ قُلوبِهم مِن مَحَبَّةِ اللهِ تعالى وتَكبيرِه وتَعظيمِه والخُشوعِ له، وقِلَّةِ رَغبَتِهم فيه؛ فإنَّ حُضورَ العَبدِ في الصَّلاةِ وخُشوعَه فيها وتَكميلَه لها واستِفراغَه وُسْعَه في إقامَتِها وإتمامِها- على قَدرِ رَغبَتِه في اللهِ تعالى) [616] ((الصلاة وأحكام تاركها)) (ص: 140، 141). .

انظر أيضا: