موسوعة الآداب الشرعية

ثانيًا: الاغتسالُ


يُسنُّ الغُسلُ يومَ الجُمُعةِ [990] وهذا باتِّفاقِ المذاهبِ الفقهيَّةِ الأربعةِ: ينظر: ((الهداية)) للمرغيناني (1/17)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/ 543)، ((المجموع)) للنووي (4/535)، ((الإنصاف)) للمرداوي (1/181). قال ابنُ قُدامةَ: ("يُستحَبُّ لِمَن أتى الجُمُعةَ أن يَغتسلَ، ويَلبَسَ ثوبين نظيفين، ويتطيَّبَ" لا خِلافَ في استحبابِ ذلك، وفيه آثارٌ كثيرةٌ صحيحةٌ... وليس ذلك بواجبٍ في قولِ أكثرِ أهلِ العلمِ. قال التِّرمذيُّ: "العملُ على هذا عندَ أهل العِلمِ مِن أصحاب النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومَن بعدَهم". وهو قولُ الأوزاعيِّ، والثَّوريِّ، ومالكٍ، والشَّافعيِّ، وابنِ المنذرِ، وأصحابِ الرَّأيِ. وقيل: إنَّ هذا إجماعٌ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: أجمَع علماءُ المسلمين قديمًا وحديثًا على أنَّ غُسلَ الجمعةِ ليس بفَرْضٍ واجبٍ). ((المغني)) (2/256). ويُنظر: ((سنن الترمذي)) (2/ 370)، ((التمهيد)) لابن عبد البر (10/ 79). وقال النَّوويُّ: (مذاهب العلماءِ في غسلِ الجمعةِ: مذهبُنا: أنَّه سُنَّةٌ ليس بواجبٍ يَعصي بتركِه، بل له حُكمُ سائرِ المندوباتِ، وبهذا قال مالكٌ، وأبو حنيفةَ، وأحمدُ، وجماهيرُ العلماءِ مِن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ ومَن بعدَهم). ((المجموع)) (4/535). ، وحُكيَ الإجماعُ على ذلك [991] قال ابنُ عبدِ البَرِّ: (قد أجمَع المسلمون قديمًا وحديثًا على أنَّ غُسلَ الجمعةِ ليس بفرضٍ واجبٍ، وفي ذلك ما يَكفي ويُغْني عن الإكثارِ... إلَّا أنَّ العلماءَ مع إجماعِهم على أنَّ غُسلَ الجمعةِ ليس بفرضٍ واجبٍ، اختلفوا فيه؛ هل هو سُنَّةٌ مسنونةٌ للأمَّةِ؟ أم هو استحبابٌ وفضلٌ؟ أو كان لعلَّةٍ فارتفعتْ؟...). ((التمهيد)) (10/79). وقال ابنُ رُشدٍ: (ذهب الجمهورُ إلى أنَّه سُنَّةٌ، وذهَب أهلُ الظَّاهرِ إلى أنَّه فرضٌ، ولا خلافَ -فيما أعلَمُ- أنَّه ليس شرطًا في صحَّةِ الصَّلاةِ). ((بداية المجتهد)) (1/164). وقال ابنُ قُدامةَ: ("يُستحبُّ لِمَن أتى الجمعة أن يَغتسلَ، ويَلبَس ثوبين نظيفين، ويتطيَّبَ" لا خِلافَ في استحبابِ ذلك، وفيه آثارٌ كثيرةٌ صحيحةٌ). ((المغني)) (2/256). وقال أيضًا: (فإنَّه إجماعٌ، حيثُ قال عُمرُ لعثمانَ: أيَّةُ ساعةٍ هذه؟ فقال: إنِّي شُغِلتُ اليومَ فلم أنقلبْ إلى أهلي حتَّى سمِعتُ النِّداءَ، فلم أزِدْ على الوُضوءِ، فقال له عُمرُ: والوضوءُ أيضًا وقد علِمتَ أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يأمُرُ بالغسلِ؟! ولو كان واجبًا لردَّه، ولم يَخْفَ على عثمانَ وعلى مَن حَضَر مِن الصَّحابةِ). ((المغني)) (2/256). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ والآثارِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة: 9] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ سياقَ الآيةِ يُشيرُ إشارةً خفيَّةً إلى عدمِ وُجوبِ الغُسلِ; وذلك لأنَّه لم يُذكَرْ نوعُ طهارةٍ عندَ السَّعيِ بعدَ الأذانِ، ومعلومٌ أنَّه لا بدَّ من طُهرٍ لها، فيكون إحالةً على الآيةِ الثَّانيةِ العامَّةِ في كلِّ الصَّلواتِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة: 6] ؛ فيُكتَفَى بالوُضوءِ، وتَحصُلُ الفضيلةُ بالغُسلِ [992] ((تتمَّة أضواء البيان للشنقيطي)) لعطية سالم (8/185). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أبي هُرَيرَة رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن تَوضَّأَ فأَحْسَنَ الوُضوءَ، ثمَّ أتى الجُمُعةَ فاستمَعَ وأَنْصَتَ؛ غُفِرَ له ما بَيْنَه وبيْنَ الجُمُعةِ وزيادةُ ثلاثةِ أيَّامٍ، ومَنْ مَسَّ الحَصَى فقدْ لغَا [993] لغا: أي: تَكَلَّم، وقيل: لغا عنِ الصَّوابِ، أي: مالَ عنه، وقيل: أي: خابَ، يُقالُ: ألغَيتُه: خَيَّبتُه، واللَّغوُ: الشَّيءُ السَّقطُ المُلغى، وقيل: اللَّغوُ واللَّغا: ما لا يَنبَغي مِنَ الكَلامِ، ورَديئُه وباطِلُه، وما لا خَيرَ فيه. يُنظر: ((الغريبين)) للهروي (5/ 1694)، ((إكمال المعلم)) لعياض (3/ 242). ) [994] أخرجه مسلم (857). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
فيه دليلٌ على أنَّ الوضوءَ كافٍ للجُمُعةِ، وأنَّ المقتصِرَ عليه غيرُ آثمٍ ولا عاصٍ؛ فدلَّ على أنَّ الأمْرَ بالغُسلِ محمولٌ على الاستحبابِ [995] ((فتح الباري)) لابن رجب (5/342). .
2- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((كان النَّاسُ يَنتابونَ [996] ينتابون الجُمُعةَ: أي: يَحضُرونَها بالنَّوبةِ، وهو مِنَ الانتيابِ مِنَ النَّوبةِ، وهو المَجيءُ نوبًا، يُقالُ: انتابَ فلانٌ القَومَ: إذا أتاهم مَرَّةً بَعدَ مَرَّةٍ، والانتيابُ أيضًا: القَصدُ والمَجيءُ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (5/ 665) و(7/ 329)، ((فتح الباري)) لابن حجر (2/ 386)، ((عمدة القاري)) للعيني (6/ 197). يومَ الجُمُعةِ مِن منازلِهم والعوالي [997] العَوالي: جمعُ عاليةٍ، وهيَ مَواضِعُ وقُرًى قُربَ المَدينةِ مِن جِهةِ الشَّرقِ مِن ميلينِ إلى ثَمانيةٍ، وكُلُّ ما كان مِن جِهةِ نَجدٍ مِنَ المَدينةِ مِن قُراها وعَمائِرِها فهيَ العاليةُ، وما كان دونَ ذلك مِن جِهةِ تِهامةَ فهيَ السَّافِلةُ. يُنظر: ((مشارق الأنوار)) لعياض (2/ 108)، ((اللامع الصبيح)) للبرماوي (4/ 278). ، فيأتون في الغُبارِ، يُصيبُهم الغبارُ والعَرَقُ، فيخرجُ منهم العرقُ، فأتى رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنسانٌ منهم وهو عندي، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لو أنَّكم تَطهَّرتُم ليومِكم هذا)) [998] أخرجه البخاري (902) واللفظ له، ومسلم (847). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
قولُه: ((لو أنَّكم تَطهَّرتم ليومِكم هذا)) يدُلُّ على أنَّ غُسلَ الجُمُعةِ ليس بواجبٍ، حتَّى ولا على مَن له رِيحٌ تَخرُجُ منه، وإنَّما يُؤمَرُ به ندبًا واستحبابًا [999] ((فتح الباري)) لابن رجب (5/409). .
3- عن أبي سَعيدٍ الخدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: أَشهدُ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((الغُسلُ يومَ الجُمُعةِ واجبٌ على كلِّ محتلمٍ، وأنْ يَستنَّ، وأن يمسَّ طِيبًا إنْ وَجَد)) [1000] أخرجه البخاري (880) واللفظ له، ومسلم (846). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ غُسلِ الجُمُعة ذُكِر في سِياق السِّواكِ، ومسِّ الطِّيب، وهما لا يَجبانِ [1001] ((المغني)) لابن قدامة (2/257). .
وقوله: ((واجبٌ)) أي: مُتأكِّدٌ [1002] ((فتح الباري)) لابن رجب (5/373)، ((المغني)) لابن قدامة (2/257). .
ج- مِنَ الآثارِ
عن ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: (أنَّ عُمرَ بن الخطَّابِ بَيْنَما هو قائمٌ في الخُطبةِ يومَ الجُمُعةِ إذ دخَلَ رجُلٌ مِن المهاجِرينَ الأوَّلينَ مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فناداه عمرُ: أيَّةُ ساعةٍ هذه؟ قال: إنِّي شُغِلتُ فلم أنقلِبْ إلى أهلي حتَّى سمِعتُ التَّأذينَ، فلم أزِدْ أن توضَّأتُ. فقال: والوضوءُ أيضًا، وقد علِمتَ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يأمُرُ بالغُسلِ؟!) [1003] أخرجه البخاري (878) واللفظ له، ومسلم (845). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنه لم يأمُرْ هذا الصَّحابيَّ -وهو عثمانُ بنُ عفَّانَ على ما جاءَ في الرِّواياتِ الأُخرى- بالانصرافِ للغُسلِ، ولا انصرَفَ عثمانُ حينَ ذَكَّره عُمرُ بذلك، ولو كان الغسلُ واجبًا فرضًا للجُمُعةِ ما أَجزأَتِ الجُمُعةُ إلَّا به، كما لا تُجزئُ الصَّلاةُ إلَّا بوُضوءٍ للمُحدِثِ، أو بالغُسلِ للجُنُبِ، ولو كان كذلك ما جَهِلَه عمرُ ولا عثمانُ، وقد حضَر ذلك الجمُّ الغفيرُ مِن الصَّحابةِ [1004] ((التمهيد)) لابن عبد البر (10/78)، ((إكمال المعلم)) لعياض (3/130). .
وأمَّا التَّعليلُ: فلأنَّه غُسلٌ يُقصَدُ به النَّظافةُ؛ مِن أجْلِ اجتماعِ النَّاسِ في الصَّلاةِ المشروعِ لها الاجتماعُ العامُّ في مجامِعِ المناسِكِ، وهذا شأنُ الأغْسالِ المُستحَبَّةِ [1005] ((شرح العمدة)) (1/361). .

انظر أيضا: