موسوعة الآداب الشرعية

تاسعًا: عدَمُ تخطِّي الرِّقابِ


يَحرُمُ تخطِّي الرِّقابِ حالَ الخُطبةِ [1039] وهذا مذهبُ الحَنَفيَّةِ، والمالِكيَّةِ، واختارَه ابنُ المنذرِ، والنَّوَويُّ، وابنُ تيميَّةَ، وابنُ عُثيمينَ، وعليه فتوى اللَّجنةِ الدَّائمةِ. ينظر: ((حاشية ابن عابدين)) (2/164)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/545)، ((الأوسط)) (4/ 94)، ((روضة الطالبين)) (11/224)، ((الفتاوى الكبرى)) (5/356)، ((الشرح الممتع)) (5/95، 96)، ((فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الثانية)) (7/102). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
عَن أبي الزَّاهريَّةِ قالَ: كُنتُ جالسًا معَ عبدِ اللَّهِ بنِ بُسرٍ يومَ الجمعةِ، فَما زالَ يحدِّثُنا حتَّى خرجَ الإمامُ، فجاءَ رجلٌ يتخطَّى رِقابَ النَّاسِ، فقالَ لي: جاءَ رَجلٌ يتخَطَّى رقابَ النَّاسِ ورسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يخطبُ، فقالَ لَهُ: اجلِس، فقَد آذَيتَ وآنَيتَ [1040] آذَيْت وآَنْيت: أَيْ آذَيْتَ النَّاسَ بتَخَطِّيك، وأخَّرتَ المجيءَ وأَبْطأْتَ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/78). ) [1041] أخرجه أبو داود (1118)، والنسائي (1399)، وابن خزيمة (1811) واللفظ له. صححه ابن خزيمة، وابن حبان في ((صحيحه)) (2790)، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (1075)، وأحمد شاكر في تخريج ((المحلى)) (5/70)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1118). وأخرجه أحمد (17697)، والضياء في ((الأحاديث المختارة)) (25) من حديث أبي الزاهرية الحضرمي ولفظه: عن أبي الزاهِريَّةِ، قال: ((كُنْتُ جالِسًا مع عبدِ اللهِ بنِ بُسْرٍ يومَ الجُمُعةِ، فجاءَ رَجلٌ يَتخطَّى رِقابَ النَّاسِ، ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يخطُبُ، فقال: اجلِسْ؛ فقد آذَيْتَ وآنَيْتَ)). صحح إسناده على شرط مسلم شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17697). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ في قولِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للمُتخطِّي يومَ الجُمُعةِ: ((آذَيْتَ وآنَيْتَ))- بيانًا أنَّ التَّخطِّي أذًى، وأنَّه لا يحِلُّ أذَى مسلمٍ بحالٍ في الجُمُعةِ وغيرِ الجُمُعةِ [1042] ((التمهيد)) لابن عبد البر (1/316). .
وأمَّا التَّعليلُ: فلأنَّ في تَخطِّيه للرِّقابِ أذيَّةً للنَّاسِ، وإشغالًا لهم عن استماعِ الخُطبةِ؛ إشغالًا لِمَن باشَر تخطِّي رقبتِه، وإشغالًا لِمَن يَراه ويُشاهِدُه؛ فتكونُ المضرَّةُ به واسعةً [1043] ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (5/95، 96). .
فَوائِدُ ومَسائِلُ:
التَّخطِّي إذا وَجَدَ فُرجةً لا يَصِلُ إليها إلَّا بالتَّخطِّي
يجوزُ التَّخطِّي إذا وجَدَ فُرجةً لا يَصِلُ إليها إلَّا بالتَّخطِّي [1044] نصَّ عليه المالِكيَّةُ، والشَّافعيَّةُ، والحَنابِلةُ. ينظر: ((مواهب الجليل) للحطاب (2/545) ((المجموع)) للنووي (4/545)، ((الإنصاف)) للمرداوي (2/288). لكن منَع المالكية مِن ذلك عندَ جُلوسِ الإمامِ على المنبرِ ولو لفُرجةٍ، ففي ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/85): (وجاز تخطٍّ قبلَ جلوسِ الخطيبِ. "ش": يعني أنَّه يجوزُ للدَّاخلِ يومَ الجُمعةِ إلى الجامعِ تخطِّي رقابِ الجالِسينَ فيه قبلَ جلوسِ الخطيبِ على المنبرِ لفُرجةٍ، ويُكرهُ لغيرِها، وأمَّا بعدَه فيَحرُمُ ولو لفُرجةٍ). وقال الشافعية: يجوزُ أن يتخطَّى الرَّجُلَ أو الرَّجُلَينِ، أمَّا إنْ كان بيْن يديه خَلقٌ كثيرٌ، فإنْ رجَا إذا قاموا إلى الصَّلاةِ أن يتقدَّموا جلس حتَّى يقوموا، وإن لم يَرجُ أن يتقدَّموا جاز أن يتخطَّى؛ ليَصِلَ إلى الفُرجةِ. يُنظر: ((البيان)) للعمراني (2/591). قال ابن رجب: (فإنْ وجد فرجةً لا يصِلُ إليها إلَّا بالتَّخطِّي، ففيه قولان؛ أحدُهما: يجوزُ له التَّخطي حينَئذٍ، وهو قولُ الحسَنِ، وقَتادةَ، والأَوزاعيِّ، والشَّافِعيِّ، وكذا قال مالكٌ في التَّخطِّي قبلَ خروجِ الإمامِ، وكذا روَى مَعْمَرٌ عن الحسَنِ وقَتادةَ). ((فتح الباري)) (5/441). .
وذلك للآتي:
1- لأنَّه لا حُرمةَ لِمَن ترَك بيْن يديه موضعًا خاليًا وقعَدَ في غيرِه [1045] ((المغني)) لابن قدامة (2/260). .
2- ولأنَّ تَخطِّيَهم لحاجةٍ؛ فجازَ لذلِك [1046] ((المغني)) لابن قدامة (2/260). .
3- ولأنَّ الجالسِينَ وراءَها مُفرِّطينَ بتَرْكِها [1047] ((المجموع)) للنووي (4/546). .
التَّفريقُ بَينَ الاثنَينِ
عن سَلْمانَ الفارِسيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَنِ اغتَسَل يَومَ الجُمُعةِ، وتطَهَّر بما استَطاعَ من طُهرٍ، ثُمَّ ادَّهَنَ أو مَسَّ مِن طيبٍ، ثُمَّ راحَ فلم يُفرِّقْ بَينَ اثنَينِ، فصَلَّى ما كُتِبَ له، ثُمَّ إذا خَرَجَ الإمامُ أنصَتَ؛ غُفِرَ له ما بَينَه وبَينَ الجُمُعةِ الأُخرى)) [1048] أخرجه البخاري (910). .
قال ابنُ رَجَبٍ: (التَّفريقُ بَينَ اثنَينِ يَدخُلُ فيه شَيئانِ؛ أحَدُهما: أن يَتَخَطَّاهما ويَتَجاوزَهما إلى صَفٍّ مُتَقدِّمٍ.
... الثَّاني -مِمَّا يَدخُلُ في التَّفريقِ بَينَ اثنَينِ-: الجُلوسُ بَينَهما إن كانا جالسَينِ، أوِ القيامُ بَينَهما إن كانا قائِمَينِ في صَلاةٍ.
فإن كان ذلك مِن غَيرِ تَضييقٍ عليهما ولا دَفعٍ ولا أذًى، مِثلُ أن يَكونَ بَينَهما فُرجةٌ، فإنَّه يَجوزُ، بَل يُستَحَبُّ؛ لأنَّه مأمورٌ بسَدِّ الخَلَلِ في الصَّفِّ، وإلَّا فهو مَنهيٌّ عنه، إلَّا أن يأذنا في ذلك. ورَوى عَمرُو بنُ شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لا يَحِلُّ للرَّجُلِ أن يُفرِّقَ بَينَ اثنَينِ إلَّا بإذنِهما» [1049] أخرجه أبو داود (4845)، والترمذي (2752) واللفظ له، وأحمد (6999). قال الترمذي، والألباني في ((صحيح الترمذي)) (2752): حسن صحيح، وصحَّح إسناده أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (6999)، وحسَّنه ابن باز في ((الفوائد العلمية)) (6/29)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4845). .
فإن كان الجالِسانِ بَينَهما قَرابةٌ، أو كانا يَتَحَدَّثانِ فيما يُباحُ، كان أشَدَّ كَراهةً... قال الإمامُ أحمَدُ في الرَّجُلِ يَنتَهي إلى الصَّفِّ وقد تَمَّ، فيَدخُلُ بَينَ رَجُلينِ: إن عَلِم أنَّه لا يَشُقُّ عليهم.
قال القاضي أبو يَعلى: إن شَقَّ عليهم لم يَجُزْ؛ لأنَّ فيه أذيَّةً لهم، وشَغلًا لقُلوبِهم) [1050] ((فتح الباري)) (8/ 201-207). .

انظر أيضا: