موسوعة الآداب الشرعية

عاشرًا: لا يُقيمُ شَخصًا مِن مَكانِه ليَجلِسَ فيه


لا يَجوزُ أن يُقيمَ شَخصًا مِن مَكانِه ليَجلِسَ فيه.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((لا يُقِيمَنَّ أحَدُكُم أخاه يَومَ الجُمُعةِ، ثُمَّ ليُخالِفْ إلى مَقعَدِه فيَقعُدَ فيه، ولكِنْ يَقولُ: افسَحوا)) [1051] أخرجه مسلم (2178). .
2- عن ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يُقِيمَنَّ أحَدُكُم أخاه، ثُمَّ يَجلِسُ في مَجلِسِه))، وكان ابنُ عُمَرَ إذا قامَ له رَجُلٌ عن مَجلسِه، لم يَجلِسْ فيه [1052] أخرجه البخاري (6269)، مسلم (2177) واللفظ له. .
وفي رِوايةٍ عن ابنِ جُرَيجٍ، قال: سَمِعتُ نافِعًا يَقولُ: سَمِعتُ ابنَ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما يَقولُ: ((نَهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُقيمَ الرَّجُلُ أخاه مِن مَقعَدِه، ويَجلِسَ فيه))، قُلتُ لنافِعٍ: الجُمُعةَ؟ قال: الجُمُعةَ وغَيرَها [1053] أخرجها البخاري (911). .
وفي رِوايةٍ: ((لا يُقيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِن مَقعَدِه، ثُمَّ يَجلسُ فيه، ولكِنْ تَفَسَّحوا وتوَسَّعوا)) [1054] أخرجها مسلم (2177). .
قال النَّوويُّ: (هذا النَّهيُ للتَّحريمِ، فمَن سَبَقَ إلى مَوضِعٍ مُباحٍ في المَسجِد وغَيرِه يَومَ الجُمُعةِ أو غَيرِه لصَلاةٍ أو غَيرِها، فهو أحَقُّ به، ويَحرُمُ على غَيرِه إقامَتُه؛ لهذا الحَديثِ...
وأمَّا قَولُه: "وكان ابنُ عُمَرَ إذا قامَ له رَجُلٌ عن مَجلِسِه لم يَجلِسْ فيه" فهذا ورَعٌ مِنه، وليسَ قُعودُه فيه حَرامًا إذا قامَ برِضاه، لكِنَّه تَورَّعَ عنه لوجهَينِ؛ أحَدُهما: أنَّه رُبَّما استَحى مِنه إنسانٌ فقامَ له مِن مَجلسِه مِن غَيرِ طيبِ قَلبِه، فسَدَّ ابنُ عُمَرَ البابَ ليَسلَمَ مِن هذا.
والثَّاني: أنَّ الإيثارَ بالقُرَبِ مَكروهٌ أو خِلافُ الأَولى، فكان ابنُ عُمَرَ يَمتَنِعُ مِن ذلك؛ لئَلَّا يَرتَكِبَ أحَدٌ بسَبَبِه مَكروهًا أو خِلافَ الأولى بأن يَتَأخَّرَ عن مَوضِعِه مِنَ الصَّفِّ الأوَّلِ ويُؤثِرَه به، وشِبهَ ذلك قال أصحابُنا، وإنَّما يُحمَدُ الإيثارُ بحُظوظِ النُّفوسِ وأُمورِ الدُّنيا دونَ القُرَبِ) [1055] ((شرح مسلم)) (14/ 160، 161). ويُنظر: ((المجموع)) (4/ 547). .
وقال ابنُ أبي جَمرةَ: (لفظُ الحَديثِ عامٌّ في المَجالسِ، ولكِنَّه مَخصوصٌ بالمَجالسِ المُباحةِ إمَّا على العُمومِ، كالمَساجِدِ ومَجالسِ الحُكَّامِ والعِلمِ، وإمَّا على الخُصوصِ، كَمَن يَدعو قَومًا بأعيانِهم إلى مَنزِلِه لوليمةٍ ونَحوِها، وأمَّا المَجالسُ التي ليسَ للشَّخصِ فيها مِلكٌ ولا إذنَ له فيها، فإنَّه يُقامُ ويُخرَجُ مِنها، ثُمَّ هو في المَجالِسِ العامَّةِ، وليسَ عامًّا في النَّاسِ، بَل هو خاصٌّ بغَيرِ المَجانينِ ومَن يَحصُلُ مِنه الأذى، كآكِلِ الثُّومِ النِّيءِ إذا دَخَل المَسجِدَ، والسَّفيهِ إذا دَخَل مَجلِسَ العِلمِ أوِ الحُكمِ، قال: والحِكمةُ في هذا النَّهيِ مَنعُ استِنقاصِ حَقِّ المُسلِمِ، المُقتَضي للضَّغائِنِ، والحَثُّ على التَّواضُعِ المُقتَضي للموادَدةِ، وأيضًا فالنَّاسُ في المُباحِ كُلُّهم سَواءٌ، فمَن سَبَقَ إلى شَيءٍ استَحَقَّه، ومَنِ استَحَقَّ شَيئًا فأُخِذ مِنه بغَيرِ حَقٍّ فهو غَصبٌ، والغَصبُ حَرامٌ، فعلى هذا قد يَكونُ بَعضُ ذلك على سَبيلِ الكَراهةِ، وبَعضُه على سَبيلِ التَّحريمِ.
فأمَّا قَولُه: «تَفَسَّحوا وتَوسَّعوا» فمَعنى الأوَّلِ: أن يَتَوسَّعوا فيما بَينَهم، ومَعنى الثَّاني: أن يَنضَمَّ بَعضُهم إلى بَعضٍ حتَّى يَفضُلَ مِنَ الجَمعِ مَجلِسٌ للدَّاخِلِ) [1056] يُنظر: ((بهجة النفوس)) (4/ 194، 195)، ((فتح الباري)) لابن حجر (11/ 63). .

انظر أيضا: