موسوعة الآداب الشرعية

تمهيدٌ في التعريفِ بالعيدِ، ومقاصدِه ومغزاه الاجتماعيِّ


(العيدُ هو مَوسِمُ الفَرَحِ والسُّرورِ، وأفراحُ المُؤمِنينَ وسُرورُهم في الدُّنيا إنَّما هو بمَولاهم إذا فازوا بإكمالِ طاعَتِه وحازوا ثَوابَ أعمالِهم بوُثوقِهم بوَعدِه لهم عليها بفَضلِه ومَغفِرَتِه، كَما قال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 58] ) [1165] ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 274). .
قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ لكُلِّ قَومٍ عيدًا، وهذا عيدُنا)) [1166] أخرجه البخاري (952)، ومسلم (892) من حديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. .
وفي رِوايةٍ عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: ((أنَّ أبا بَكرٍ دَخَل عليها وعِندَها جاريَتانِ في أيَّامِ مِنًى، تُغَنِّيانِ وتَضرِبانِ، ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُسَجًّى بثَوبِه، فانتَهَرَهما أبو بَكرٍ، فكَشَف رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنه، وقال: دَعْهما يا أبا بَكرٍ؛ فإنَّها أيَّامُ عيدٍ.
وقالت: رَأيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَستُرُني برِدائِه، وأنا أنظُرُ إلى الحَبَشةِ، وهم يَلعَبونَ وأنا جاريةٌ، فاقدُروا قَدْرَ الجاريةِ العَرِبةِ الحَديثةِ السِّنِّ))
[1167] أخرجها مسلم (892). .
وعن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قَدِم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المَدينةَ ولهم يَومانِ يَلعَبونَ فيهما، فقال: ما هذان اليَومانِ؟ قالوا: كُنَّا نَلعَبُ فيهما في الجاهليَّةِ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ اللَّهَ قد أبدَلكُم بهما خَيرًا مِنهما: يَومَ الأضحى، ويَومَ الفِطرِ)) [1168] أخرجه أبو داود (1134) واللَّفظُ له، والنسائي (1556)، وأحمد (12006). صححه الحاكم في ((المستدرك)) (1105) وقال: على شرط مسلم، والبغوي في ((شرح السنة)) (2/598)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1134)، وصَحَّح إسنادَه النووي في ((خلاصة الأحكام)) (2/819)، وابن حجر في ((فتح الباري)) (2/513)، وقال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/485): إسناده على شرط مسلم. .
(فأبدَلَهما بيَومَينِ فيهما تَنويهٌ بشَعائِرِ المِلَّةِ الحَنيفيَّةِ، وضَمَّ مَعَ التَّجميلِ فيهما ذِكرَ اللهِ وأبوابًا مِنَ الطَّاعةِ؛ لئَلَّا يَكونَ اجتِماعُ المُسلمينَ بمَحضِ اللَّعِبِ، ولئَلَّا يَخلوَ اجتِماعٌ مِنهم من إعلاءِ كَلمةِ اللهِ.
أحَدُهما: يَومُ فِطرِ صيامِهِم وأداءِ نَوعٍ مِن زَكاتِهم، فاجتَمَعَ الفرَحُ الطَّبيعيُّ مِن قِبَلِ تَفرُّغِهم عَمَّا يَشُقُّ عليهم، وأخَذِ الفَقيرِ الصَّدَقاتِ، والعَقليُّ مِن قِبَلِ الابتِهاجِ مِمَّا أنعَمَ اللهُ عليهم مِن تَوفيقِ أداءِ ما افتَرَضَ عليهم، وأسبَلَ عليهم مِن إبقاءِ رُؤوسِ الأهلِ والوَلَدِ إلى سَنةٍ أُخرى.
والثَّاني: يَومُ ذَبحِ إبراهيمَ وَلَدَه إسماعيلَ عليهما السَّلامُ، وإنعامِ اللهِ عليهما بأن فداه بذِبحٍ عَظيمٍ؛ إذ فيه تَذَكُّرُ حالِ أئِمَّةِ المِلَّةِ الحَنيفيَّةِ والاعتِبارُ بهم في بَذلِ المُهَجِ والأموالِ في طاعةِ اللهِ وقوَّةِ الصَّبرِ، وفيه تَشَبُّهٌ بالحاجِّ، وتَنويهٌ بهم وشَوقٌ لِما هم فيه؛ ولذلك سَنَّ التَّكبيرَ، وهو قَولُه تعالى: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [البقرة: 185] يَعني: شُكرًا لِما وفَّقَكُم للصِّيامِ، ولذلك سَنَّ الأُضحيَّةَ والجَهرَ بالتَّكبيرِ أيَّامَ مِنًى، واستُحِبَّ تَركُ الحَلقِ لمَن قَصدَ التَّضحيةَ، وسَنَّ الصَّلاةَ والخُطبةَ؛ لئَلَّا يَكونَ شَيءٌ مِنِ اجتِماعِهم بغَيرِ ذِكرِ اللهِ وتَنويهِ شَعائِرِ الدِّينِ.
وضَمَّ مَعَه مَقصودًا آخَرَ مِن مَقاصِدِ الشَّريعةِ، وهو أنَّ كُلَّ مِلَّةٍ لا بُدَّ لها مِن عَرضةٍ يَجتَمِعُ فيها أهلُها؛ لتَظهَرَ شَوكَتُهم، وتُعلَمَ كَثرَتُهم؛ ولذلك استُحِبَّ خُروجُ الجَميعِ حتَّى الصِّبيانِ والنِّساءِ وذَواتِ الخُدورِ والحُيَّضِ، ويَعتَزِلنَ المُصَلَّى، ويَشهَدنَ دَعوةَ المُسلمينَ؛ ولذلك كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُخالفُ في الطَّريقِ ذَهابًا وإيابًا؛ ليَطَّلِعَ أهلُ كِلتا الطَّريقَينِ على شَوكةِ المُسلِمينَ) [1169] ((حجة الله البالغة)) للدهلوي (2/ 48). .
 (أمَّا مَغزاه الاجتِماعيُّ فهو ما يُضفيه على القُلوبِ مِن أُنسٍ، وعلى النُّفوسِ مِن بَهجةٍ، وعلى الأجسامِ مِن راحةٍ، وهو ما يَدعو إليه مِن تَجديدِ أواصِرِ الحُبِّ بَينَ الأصدِقاءِ، والتَّراحُمِ بَينَ الأقرِباءِ، والتَّعاوُنِ بَينَ النَّاسِ جَميعًا.
ففي العيدِ تَتَقارَبُ القُلوبُ على الوُدِّ، وتَجتَمِعُ على الأُلفةِ، وفي العيدِ يَتَناسى ذَوو النُّفوسِ الطَّيِّبةِ أضغانَهم، فيَجتَمِعونَ بَعدَ افتِراقٍ، ويَتَصافَونَ بَعدَ كَدَرٍ، ويَتَصافَحونَ بَعدَ انقِباضٍ، وفي ذلك كُلِّه تَجديدٌ للصِّلةِ الاجتِماعيَّةِ بَينَ النَّاسِ على أقوى ما تَكونُ حُبًّا ووفاءً وإخاءً.
وفي العيدِ مِنَ المَغزى الاجتِماعيِّ تَذكيرُ أبناءِ المُجتَمَعِ بحَقِّ الضُّعَفاءِ والعاجِزينَ عليهم حتَّى تَشمَلَ الفرحةُ بالعيدِ كُلَّ بَيتٍ، وتَعُمُّ النِّعمةُ كُلَّ أُسرةٍ، وإلى هذا المَغزى الاجتِماعيِّ العَظيمِ يَرمُزُ تَشريعُ «صَدَقة الفِطرِ» في عيدِ الفِطرِ، ونَحرُ «الأضاحيِّ» في عيدِ الأضحى؛ فإنَّ في تَقديمِ ذلك قَبلَ العيدِ أو أيَّامِه إطلاقًا للأيدي الخَيِّرةِ في مَجالِ الخَيرِ، فلا تُشرِقُ شَمسُ العيدِ إلَّا والبَسمةُ تَعلو شِفاهَ النَّاسِ جَميعًا، والبَهجةُ تَغمُرُ قُلوبَ أبناءِ المُجتَمَعِ قاطِبةً.
أمَّا المَعنى الإنسانيُّ في العيدِ فهو أنَّه يُشرِكُ أعدادًا لا حَصرَ لها مِن أبناءِ الشَّرقِ والغَربِ بالفرَحِ والسُّرورِ في وقتٍ واحِدٍ، فإذا بالإنسانيَّةِ تَلتَقي على الشُّعورِ المُشتَرَكِ بالغِبطةِ، وإذا بأبناءِ الأُمَّةِ الواحِدةِ على اختِلافِ ديارِهم يَشتَرِكونَ في السَّرَّاءِ كَما يَشتَرِكونَ في الضَّرَّاءِ، ففي العيدِ تَقويةٌ لهذه الرَّوابطِ الفِكريَّةِ والرُّوحيَّةِ التي يَعقِدُها الدِّينُ بَينَ أبناءٍ مِن مُختَلِفِ اللُّغاتِ والأقوامِ.
تلك هيَ بَعضُ المَعاني الاجتِماعيَّةِ والإنسانيَّةِ في العيدِ، ومِن ثَمَّ كانتِ الأعيادُ مَظهَرًا واضِحًا لهذه المَعاني في كُلِّ مُجتَمَعٍ، ومَن أرادَ مَعرِفةَ أخلاقِ الأُمَّةِ فليُراقِبْها في أعيادِها؛ إذ تَنطَلقُ فيها السَّجايا على فِطرَتِها، وتَبرُزُ العَواطِفُ والمُيولُ والعاداتُ على حَقيقَتِها، والمُجتَمَعُ السَّعيدُ هو الذي تَسمو أخلاقُه في العيدِ إلى أرفَعِ ذِروةٍ، ويَمتَدُّ شُعورُه الإنسانيُّ إلى أبعَدِ مَدًى، وذلك حينَ يَبدو في العيدِ مُتَماسِكًا مُتَعاوِنًا مُتَراحِمًا، حتَّى ليَخفُقُ فيه كُلُّ قَلبٍ بالحُبِّ والبرِّ والوُدِّ، ويَذكُرُ فيه أبناؤُه مَصائِبَ إخوانِهم في الأقطارِ الأُخرى حينَ تَنزِلُ بهمُ الكَوارِثُ والنَّكَباتُ) [1170] ((أحكام الصيام وفلسفته في ضوء القرآن والسنة)) للسباعي (ص: 92، 93). وقال الرَّافِعيُّ: (جاءَ يَومُ العيدِ، يَومُ الخُروجِ مِنَ الزَّمَنِ إلى زَمَنٍ وحدَه لا يَستَمِرُّ أكثَرَ مِن يَومٍ. زَمَنٌ قَصيرٌ ظَريفٌ ضاحِكٌ، تَفرِضُه الأديانُ على النَّاسِ؛ ليَكونَ لهم بَينَ الحينِ والحينِ، يَومٌ طَبيعيٌّ في هذه الحَياةِ التي انتَقَلت عن طَبيعَتِها. يَومُ السَّلامِ والبِشرِ والضَّحِكِ، والوفاءِ والإخاءِ، وقَولِ الإنسانِ للإنسانِ: وأنتُم بخَيرٍ. يَومُ الثِّيابِ الجَديدةِ على الكُلِّ؛ إشعارًا لهم بأنَّ الوَجهَ الإنسانيَّ جَديدٌ في هذا اليَومِ. يَومُ الزِّينةِ التي لا يُرادُ مِنها إلَّا إظهارُ أثَرِها على النَّفسِ ليَكونَ النَّاسُ جَميعًا في يَومِ حُبٍّ. يَومُ العيدِ، يَومُ تَقديمِ الحَلوى إلى كُلِّ فمٍ لتَحلوَ الكَلماتُ فيه. يَومٌ تَعُمُّ فيه النَّاسَ ألفاظُ الدُّعاءِ والتَّهنِئةِ مُرتَفِعةً بقوَّةٍ إلهيَّةٍ فوقَ مُنازَعاتِ الحَياةِ. ذلك اليَومُ الذي يَنظُرُ فيه الإنسانُ إلى نَفسِه نَظرةً تَلمَحُ السَّعادةَ، وإلى أهلِه نَظرةً تُبصِرُ الإعزازَ، وإلى دارِه نَظرةً تُدرِكُ الجَمالَ، وإلى النَّاسِ نَظرةً تَرى الصَّداقةَ. ومِن كُلِّ هذه النَّظَراتِ تَستَوي له النَّظرةُ الجَميلةُ إلى الحَياةِ والعالمِ؛ فتَبتَهجُ نَفسُه بالعالمِ والحَياةِ. وما أسماها نَظرةً تَكشِفُ للإنسانِ أنَّ الكُلَّ جَمالُه في الكُلِّ!). ((وحي القلم)) (1/ 26). .
هذا، وللعيدِ آدابٌ يَنبَغي مُراعاتُها، وفيما يَلي بَيانُ أهَمِّ هذه الآدابِ:

انظر أيضا: