موسوعة الآداب الشرعية

سابعًا: تقديمُ ذوي الرَّحِمِ


يُستَحَبُّ البَدءُ بذَوي الرَّحِمِ في التَّصَدُّقِ، والصَّدَقةُ على فقيرِهم أفضَلُ مِنَ الصَّدَقةِ على غَيرِه وأعظَمُ أجرًا؛ إذ هيَ ثِنتانِ: صَدَقةٌ، وصِلةٌ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن جابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ابدأْ بنَفسِك فتصدَّقْ عليها، فإن فضَل شيءٌ فلأهلِك، فإن فضَل عن أهلِك شيءٌ فلذي قَرابتِك، فإنْ فضَل عن ذي قرابتِك شيءٌ فهكذا وهكذا، يقولُ: فبَينَ يدَيك، وعن يمينِك، وعن شِمالِك)) [1425] أخرجه مسلم (997). .
2- عن طارِقِ بنِ عَبدِ اللهِ المُحارِبيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((... قَدِمْنا المَدينةَ فإذا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائِمٌ يَخطُبُ النَّاسَ على المِنبَرِ، فسَمِعتُه يَقولُ: يَدُ المُعطي العُليا، وابدَأْ بمَن تَعولُ: أمَّك وأباك، وأختَك وأخاك، وأدناك أدناك)) [1426] أخرجه النسائي (2532)، وابن حبان (6562) باختلافٍ يسيرٍ، والحاكم (4271) واللفظ له. صحَّحه ابنُ حِبَّانَ، والدَّارَقُطنيُّ كما في ((بلوغ المرام)) لابن حجر (342)، وابن حزم في ((المحلى)) (9/112، 10/105)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (2532). .
3- عن أبي رِمْثةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أتيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يَخطُبُ ويَقولُ: يَدُ المُعطي العُليا، أمَّك وأباك، وأختَك وأخاك، وأدناك فأدناك)) [1427] أخرجه أحمد (17495) واللفظ له، والطبراني (22/283) (725)، والحاكم (7451). صحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) (8067)، وشعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17495)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (12/58). .
4- عن سَلمانَ بنِ عامِرٍ الضَّبِّيِّ، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الصَّدَقةُ على المِسكينِ صَدَقةٌ، وعلى ذي القَرابةِ اثنَتانِ: صَدَقةٌ، وصِلةٌ)) [1428] أخرجه الترمذي (658)، والنسائي (2582)، وابن ماجه (1844) واللَّفظُ له. صحَّحه ابن خزيمة في ((صحيحه)) (4/131)، وابنُ حبان في ((صحيحه)) (3344)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (7/411) والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (1844)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (3344). .
5- عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان أبو طَلْحةَ أكثَرَ الأنصارِ بالمدينةِ مالًا مِن نَخلٍ، وكان أحبُّ أموالِه إليه بَيْرُحَاءَ، وكانت مُستَقبِلةَ المسجِدِ، وكان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يدخُلُها ويَشرَبُ من ماءٍ فيها طيِّبٍ، قال أنَسٌ: فلمَّا أُنزِلَت هذه الآيةُ: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] قام أبو طَلحةَ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: إنَّ اللهَ يقولُ في كِتابِه: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، وإنَّ أحبَّ أموالي إليَّ بَيْرُحَاءُ، وإنَّها صَدَقةٌ للهِ، أرجو بِرَّها وذُخْرَها عندَ اللهِ، فضَعْها يا رسولَ اللهِ حيثُ أراك اللهُ. قال: فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: بَخْ! ذلك مالٌ رابحٌ، ذلك مالٌ رابِحٌ! وقد سَمِعْتُ ما قُلتَ، وإنِّي أرى أن تجعَلَها في الأقرَبينَ. فقال أبو طلحةَ: أفعَلُ يا رسولَ اللهِ. فقسَمها أبو طلحةَ في أقارِبِه وبني عَمِّه)) [1429] أخرجه البخاري (2769) واللفظ له، ومسلم (998). .
وفي رِوايةٍ عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((لمَّا نَزَلت هذه الآيةُ: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] ، قال أبو طَلحةَ: أرى رَبَّنا يَسألُنا مِن أموالِنا، فأُشهِدُك يا رَسولَ اللهِ أنِّي قَد جَعَلتُ أرضي بَرِيحَا للَّهِ، قال: فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اجعَلْها في قَرابَتِك. قال: فجَعَلها في حَسَّانَ بنِ ثابتٍ وأُبَيِّ بنِ كَعبٍ)) [1430] أخرجها مسلم (998). .
6- عن كُرَيبٍ مَولى ابنِ عَبَّاسٍ، أنَّ ميمونةَ بنتَ الحارِثِ رَضِيَ اللهُ عنها أخبَرَته ((أنَّها أعتَقَت وليدةً [1431] الوليدةُ: الجاريةُ، وجَمعُها ولائِدُ، وقد تُطلَقُ الوليدةُ على الجاريةِ والأَمَةِ وإن كانت كَبيرةً. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (4/ 433)، ((النهاية)) لابن الأثير (5/ 225). ولم تَستَأذِنِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا كان يَومُها الذي يَدورُ عليها فيه، قالت: أشعَرتَ يا رَسولَ اللهِ أنِّي أعتَقتُ وليدَتي؟ قال: أوَفعَلتِ؟! قالت: نَعَم، قال: أمَا إنَّكِ لو أعطيتِيها أخوالَكِ كان أعظَمَ لأجرِكِ)) [1432] أخرجه البخاري (2592) واللفظ له، ومسلم (999). .
وفي رِوايةٍ: ((لو وصَلتِ بَعضَ أخوالِك كان أعظَمَ لأجرِك)) [1433] أخرجها البخاري (2594). .
7- عن زينَبَ امرَأةِ عَبدِ اللَّهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قالت: ((قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: تَصَدَّقْنَ يا مَعشَرَ النِّساءِ ولو مِن حُلِيِّكُنَّ. قالت: فرَجَعتُ إلى عَبدِ اللَّهِ، فقُلتُ: إنَّك رَجُلٌ خَفيفُ ذاتِ اليَدِ، وإنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَد أمَرَنا بالصَّدَقةِ، فأْتِه فاسأَلْه، فإن كان ذلك يُجزي عَنِّي وإلَّا صَرَفتُها إلى غيرِكُم، قالت: فقال لي عَبدُ اللَّهِ: بَل ائتِيه أنتِ، قالت: فانطَلقتُ، فإذا امرَأةٌ مِنَ الأنصارِ ببابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حاجَتي حاجَتُها، قالت: وكان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَد أُلقِيَت عليه المَهابةُ، قالت: فخَرَجَ علينا بلالٌ فقُلْنا له: ائتِ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأخبِرْه أنَّ امرَأتينِ بالبابِ تَسألانِك: أتُجزئُ الصَّدَقةُ عَنهما على أزواجِهما وعلى أيتامٍ في حُجورِهما؟ ولا تُخبرْه مَن نَحنُ، قالت: فدَخَل بلالٌ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فسَأله، فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَن هما؟ فقال: امرَأةٌ مِنَ الأنصارِ وزينَبُ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّ الزَّيانِبِ؟ قال: امرَأةُ عَبدِ اللَّهِ، فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لهما أجرانِ: أجرُ القَرابةِ، وأجرُ الصَّدَقةِ)) [1434] أخرجه البخاري (1466)، ومسلم (1000) واللفظ له. .
8- عَنِ البَراءِ بنِ عازِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((جاءَ أعرابيٌّ فقال: يا نَبيَّ اللهِ، عَلِّمْني عَمَلًا يُدخِلُني الجَنَّةَ، قال: لئِنْ كُنتَ أقصَرتَ الخُطبةَ لقَد أعرَضتَ المَسألةَ! أعتِقِ النَّسَمةَ، وفُكَّ الرَّقَبةَ. قال: أوَليستا واحِدًا؟ قال: لا؛ عِتقُ النَّسَمةِ أن تُعتِقَ النَّسَمةَ، وفَكُّ الرَّقَبةِ أن تُعينَ على الرَّقَبةِ، والمَنيحةُ الرَّغوبُ، والفَيءُ على ذي الرَّحِمِ، فإنْ لم تُطِقْ ذلك فأْمُرْ بالمَعروفِ، وانْهَ عَنِ المُنكَرِ، فإنْ لم تُطِقْ ذلك فكُفَّ لسانَك إلَّا مِن خيرٍ)) [1435] أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (69). صحَّحه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (50). .
وفي رِوايةٍ: ((جاء أعْرابيٌّ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال: يا رسولَ اللهِ، عَلِّمْني عملًا يُدخِلُني الجنَّةَ؟ فقال: لئِن كنتَ أقصَرتَ الخُطبةَ، لقد أعرَضتَ المَسألةَ، أعتِقِ النَّسَمةَ، وفُكَّ الرَّقبةَ، فقال: يا رسولَ اللهِ، أوَليستا بواحدةٍ؟! قال: لا؛ إنَّ عِتقَ النَّسَمةِ أنْ تَفرَّدَ بعِتقِها، وفَكُّ الرَّقبةِ أنْ تُعينَ في عِتقِها، والمِنحةُ الوَكوفُ، والفَيءُ على ذي الرَّحِمِ الظَّالمِ، فإنْ لم تُطِقْ ذلك، فأطعِمِ الجائعَ، واسْقَ الظَّمآنَ، وأْمُرْ بالمَعروفِ، وانْهَ عن المُنكَرِ، فإنْ لم تُطِقْ ذلك، فكُفَّ لِسانَكَ إلَّا مِن الخيرِ)) [1436] أخرجها أحمد (18647) واللفظ له، وابن حبان (374)، والحاكم (2901). صحَّحها ابنُ حبان، وابنُ حجر في ((فتح الباري)) (5/174)، والألباني في ((صحيح الموارد)) (1017)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (132). .
قال البَغويُّ: (قَولُه: «أعتِقِ النَّسَمة»، النَّسَمُ: الرُّوحُ، أي: أعتِقْ ذا نَسَمةٍ، وكُلُّ دابَّةٍ فيها روحٌ فهي نَسَمةٌ. «والمِنحةُ الوَكوفُ»، أي: غَزيرةُ اللَّبَنِ، ومِنه: وكَفَ البَيتُ والدَّمعُ) [1437] ((شرح السنة)) (9/ 355). .
يَعني: مِن جُملةِ الأعمالِ المُؤَدِّيةِ صاحِبَها إلى الجَنَّةِ: إعطاءُ المِنحةِ الفُقَراءَ؛ ليَنتَفِعوا بلبَنِها وصوفِها ووبَرِها مُدَّةً، ثُمَّ يَرُدُّها على صاحِبِها، وكذلك الرُّجوعُ إلى ذي الرَّحِمِ الظَّالمِ عليك بالإحسانِ والشَّفقةِ والصِّلةِ [1438] يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (4/ 155). وقال الخطَّابيُّ: (الفَيءُ على ذي الرَّحِمِ الكاشِحِ: العَطفُ عليه والرُّجوعُ إلى بِرِّه). ((غريب الحديث)) (1/ 707). .

انظر أيضا: