موسوعة الآداب الشرعية

تمهيدٌ في مكانةِ الزكاةِ وبعضِ فضائلِها، والحثِّ على صدقةِ التَّطوعِ وفوائدِها


للزَّكاةِ ثوابٌ عظيمٌ، وفَضائِلُ جليلةٌ؛ منها:
1- اقترانُها بالصَّلاةِ في كتابِ الله تعالى؛ فحيثما ورَدَ الأمرُ بالصَّلاةِ اقترن به الأمرُ بالزَّكاةِ، من ذلك قولُه تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ [البقرة: 110] .
2- أنَّها ثالثُ أركانِ الإسلامِ الخمسةِ؛ لِمَا في الحديثِ: ((بُنِيَ الإسلامُ على خمسٍ: شهادةِ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ محمَّدًا رسولُ الله، وإقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، والحجِّ، وصومِ رمضانَ)) [1347] أخرجه البخاري (8) واللفظ له، ومسلم (16) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
3- أنَّها علامةٌ مِن علاماتِ التَّقْوى، وسببٌ مِن أسبابِ دخولِ الجنَّةِ، كما قال سُبحانَه وتعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات: 15-19].
4- أنها تُطهِّرُ المالَ والبَدَنَ؛ لقَولِ اللهِ تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا التوبة: 103.
وعن أبي أيُّوبَ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رَجُلًا قال: يا رَسولَ اللهِ، أخبِرْني بعَمَلٍ يُدخِلُني الجَنَّةَ. فقال القَومُ: ما لَه؟ ما لَه؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أَرَبٌ ما لَه [1348] قال ابنُ الأثيرِ: في هذه اللَّفظةِ ثَلاثُ رِواياتٍ: إحداها «أَرِبَ» بوزنِ عَلِمَ، ومَعناها الدُّعاءُ عليه، أي: أُصيبَت آرابُه وسَقَطَت، وهيَ كَلمةٌ لا يُرادُ بها وُقوعُ الأمرِ، كَما يُقالُ: تَرِبَت يَداك، وقاتَلَك اللَّهُ، وإنَّما تُذكَرُ في مَعرِضِ التَّعَجُّبِ... وقيل: مَعناه احتاجَ فسَأل، مِن أَرِبَ الرَّجُلُ يَأرَبُ: إذا احتاجَ، ثُمَّ قال ما له؟ أي: أيُّ شَيءٍ به؟ وما يُريدُ؟ والرِّوايةُ الثَّانيةُ «أَرَبٌ ما له»، بوزنِ جَمَلٍ، أي: حاجةٌ له، وما زائِدةٌ للتَّقليلِ، أي: له حاجةٌ يَسيرةٌ. وقيل: مَعناه حاجةٌ جاءَت به، فحَذَف، ثُمَّ سَأل فقال: ما له؟ والرِّوايةُ الثَّالثةُ: «أَرِبٌ» بوَزنِ كَتِفٍ، والأَرِبُ: الحاذِقُ الكامِلُ، أي: هو أَرِبٌ، فحَذَف المُبتَدَأَ ثُمَّ سَأل فقال: ما له، أي: ما شَأنُه... يُقالُ: أَرُبَ الرَّجُلُ -بالضَّمِّ- فهو أريبٌ، أي: صارَ ذا فِطنةٍ. ورَواه الهَرَويُّ «إِرْبٌ ما له» بوَزنِ حِملٍ، أي: أنَّه ذو إِربٍ: خِبرةٍ وعِلمٍ). ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) (1/ 35). ويُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (1/ 728)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (1/ 62). . فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: تَعبُدُ اللَّهَ لا تُشرِكُ به شَيئًا، وتُقيمُ الصَّلاةَ، وتُؤتي الزَّكاةَ، وتَصِلُ الرَّحِمَ، ذَرْها)) [1349] أخرجه البخاري (5983) واللفظ له، ومسلم (13). .
5- أنَّ المحافظةَ عليها سببٌ مِن أسبابِ بلوغِ العبدِ منزلةَ الصِّدِّيقينَ والشُّهداءِ؛ فعن عَمرِو بنِ مُرَّةَ الجُهَنيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((جاء رَجُلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ فقال: يا رسولَ اللهِ، شَهِدتُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّكَ رسولُ اللهِ، وصلَّيتُ الخَمْسَ، وأدَّيتُ زَكاةَ مالي، وصُمتُ شَهرَ رمضانَ. فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ: مَن ماتَ على هذا كان مع النَّبيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهداءِ يومَ القِيامةِ، هكذا -ونَصَبَ إصبَعَيه- ما لم يَعُقَّ والِدَيه)) [1350] أخرجه أحمد (../81) واللفظ له، وابن خزيمة (2212)، وابن حبان (3438). صَحَّحه ابن خزيمة، وابن حبان، والألباني في ((صحيح الترغيب)) (2515)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1017)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (../81). .
6- أنَّ مَن أدَّاها طيِّبةً بها نفْسُه ذاق طعْمَ الإيمانِ؛ فعن عبدِ اللهِ بنِ مُعاويةَ الغاضريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ثلاثٌ مَن فَعَلَهنَّ فقد طَعِمَ طعمَ الإيمانِ: مَن عبَدَ اللهَ وحْدَه، وعَلِمَ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأعطى زكاةَ مالِه طيِّبةً بها نفْسُه، رافِدةً عليه كلَّ عامٍ، ولم يُعطِ الهَرِمةَ ولا الدَّرِنةَ ولا المريضةَ ولا الشَّرَطَ اللَّئيمةَ  [1351] قال الخَطَّابيُّ: (رافِدةً عليه، أي: مُعينةً، وأصلُ الرَّفدِ: الإعانةُ، والرِّفدُ: المَعونةُ. والدَّرِنةُ: الجَرباءُ، وأصلُ الدَّرَنِ: الوَسَخُ. والشَّرَطُ: رذالةُ المالِ). ((معالم السنن)) (2/ 37). ، ولكنْ مِن وسَطِ أموالِكم؛ فإنَّ اللهَ لم يسألْكم خَيرَه ولم يأمُرْكم بشَرِّه)) [1352] أخرجه أبو داود (1582) واللفظ له، والطبراني في ((المعجم الصغير)) (555)، والبيهقي (7525). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1582)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (1582)، وجوَّد إسنادَه الطبراني كما في ((التلخيص الحبير)) لابن حجر (2/729)، والشوكاني في ((السيل الجرار)) (2/37). .
وحَثَّ الإسلامُ على صَدَقةِ التَّطَوُّعِ ورَغَّبَ فيها [1353] ونَقَل الإجماعَ على استِحبابِ الصَّدَقةِ، ومِمَّن نَقَله: النَّوَويُّ، وابنُ حَجَرٍ الهَيتَميُّ، والبُهوتيُّ. قال النَّوويُّ: (قال المُصَنِّفُ والأصحابُ والعُلماءُ كافَّةً: يُستَحَبُّ لمَن فضَل عن كِفايَتِه وما يَلزَمُه شَيءٌ أن يَتَصَدَّقَ؛ لِما ذَكَرَه المُصَنِّفُ، ودَلائِلُه مَشهورةٌ في القُرآنِ والسُّنَّةِ والإجماعِ). ((المجموع)) (6/237). قال ابنُ حَجَرٍ الهَيتميُّ: (أمَّا التَّصَدُّقُ ببَعضِ الفاضِلِ -أي: عن حاجةِ نَفسِه ومن يَمونُه- عن ذلك؛ فيُسَنُّ اتِّفاقًا). ((تحفة المحتاج)) (7/182). قال البُهوتيُّ: (صَدَقةُ التَّطَوُّعِ مُستَحَبَّةٌ كُلَّ وقتٍ إجماعًا). ((كشاف القناع)) (2/295). ، وأثنى على باذِليها.
قال اللهُ تبارك وتعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران: 92] .
وقال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 245] .
وقال سُبحانه: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكاة وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المزمل: 20] .
وقال عز وجل: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن: 16] .
وقال جَلَّ ثناؤه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 254] .
وقال تعالى ذِكرُه: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة: 276] .
وقال جَلَّت عَظَمَتُه: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ: 39] .
وقال تقَدَّسَت أسماؤُه: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ * لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 261 - 274] .
وعن المُنذِر بنِ جَريرٍ، عن أبيه رضيَ الله عنه، قال: ((كنَّا عند رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم في صَدرِ النَّهارِ، قال: فجاءَه قومٌ حُفاةٌ عُراةٌ مُجتابي النِّمارِ أو العَباءِ [1354] النِّمارُ: جَمعُ نَمِرةٍ: وهيَ كِساءٌ مِن صوفٍ مُلوَّنٍ مُخَطَّطٍ. واجتابوها: قَطَعوها وخَرَّقوها وقَوَّروا وسَطَها فلَبِسوها، وأصلُ الجَوبِ القَطعُ، ومِنه: جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ [الفجر: 9] ، واجتابَ فلانٌ ثَوبًا: إذا لَبِسَه. والعَباءُ: جَمعٌ، واحِدُه عَباءةٍ وعَبايةٍ: وهيَ ضَربٌ مِنَ الأكسيةِ. يُنظر: ((تهذيب اللغة)) لأبي منصور الأزهري (15/ 158)، ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (1/ 433)، ((شرح مسلم)) للنووي (7/ 102). ، مُتقلِّدي السُّيوفِ، عامَّتُهم مِن مُضَرَ، بل كلُّهم مِن مُضَرَ، فتمَعَّرَ [1355] تَمَعَّرَ: تَغَيَّر مِمَّا شَقَّ عليه مِن أمرِهم، يُقالُ: تَمَعَّرَ وجهُه: إذا تَغَيَّرَ وتَلوَّنَ مِنَ الغَضَبِ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (1/ 433)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (6/ 458). وَجهُ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم لِمَا رأى بهم مِنَ الفاقةِ [1356] الفاقةُ: الفَقرُ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (1/ 433). ، فدخل ثمَّ خرَجَ، فأمَرَ بلالًا، فأذَّنَ وأقام فصلَّى، ثم خطَبَ، فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ إلى آخِرِ الآية إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1] ، والآيةَ التي في الحَشرِ: اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحشر: 18] ، تصدَّق رجلٌ مِن دينارِه، مِن دِرهَمِه، مِن ثَوبِه، مِن صاعِ بُرِّه، مِن صاعِ تَمرِه -حتَّى قال- ولو بشقِّ تمرةٍ. قال: فجاء رجلٌ مِنَ الأنصارِ بصُرَّةٍ كادت كفُّه تَعجِزُ عنها، بل قد عَجَزَت، قال: ثمَّ تتابَعَ النَّاسُ حتَّى رأيتُ كَومينِ مِن طعامٍ وثيابٍ، حتى رأيتُ وَجهَ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يتهلَّلُ [1357] يتهَلَّلُ، أي: يستنيرُ فَرَحًا وسُرورًا. يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (7/ 103) كأنَّه مُذهَبَةٌ [1358] مُذهَبةٌ -بالذَّالِ المُعجَمةِ والباءِ- إشارةٌ إلى لونِ الذَّهَبِ وإشراقِه، كأنَّ المَعنى: كَأنَّه مِرآةٌ مُذهَبةٌ: أي: مَطليَّةٌ بالذَّهَبِ، أو مَعناه: فِضَّةٌ مُذهَبةٌ؛ فهو أبلغُ في حُسنِ الوَجهِ وإشراقِه، أو شَبَّهَه في حُسنِه ونورِه بالمُذهَبةِ مِنَ الجُلودِ، وجَمعُها مَذاهِبُ، وهيَ شَيءٌ كانتِ العَرَبُ تَصنَعُه مِن جُلودٍ، وتَجعَلُ فيها خُطوطًا مُذهَبةً يُرى بَعضُها إثرَ بَعضٍ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (1/ 434)، ((شرح مسلم)) للنووي (7/ 103). ! فقال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: مَن سنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حسَنةً فله أجرُها وأجرُ مَن عَمِلَ بها بَعدَه، مِن غَيرِ أن يَنقُصَ مِن أجُورِهم شيءٌ، ومَن سنَّ في الإسلامِ سُنَّةً سيِّئةً كان عليه وِزرُها ووِزرُ مَن عَمِلَ بها مِن بَعدِه، مِن غَيرِ أن ينقُصَ مِن أوزارِهم شَيءٌ)) [1359] أخرجه مسلم (1017). .
وعن أبي أُمامةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((يا ابنَ آدَمَ، إنَّك أن تَبذُلَ الفَضلَ خيرٌ لك، وأن تُمسِكَه شرٌّ لك، ولا تُلامُ على كَفافٍ، وابدأْ بمن تَعولُ، واليدُ العُليا خَيرٌ مِنَ اليَدِ السُّفلى)) [1360] أخرجه مسلم (1036). .
وعن مُطَرِّفٍ، عن أبيه رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أتَيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يَقرَأُ: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، قال: يَقولُ ابنُ آدَمَ: مالي، مالي، قال: وهَل لك يا ابنَ آدَمَ مِن مالِك إلَّا ما أكَلتَ فأفنَيتَ، أو لَبِستَ فأبلَيتَ، أو تَصَدَّقتَ فأمضَيتَ؟)) [1361] أخرجه مسلم (2958). .
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما مِن يَومٍ يُصبحُ العِبادُ فيه إلَّا مَلَكانِ يَنزِلانِ، فيَقولُ أحَدُهما: اللهُمَّ أعطِ مُنفِقًا خَلَفًا، ويَقولُ الآخَرُ: اللهُمَّ أعطِ مُمسِكًا تَلَفًا)) [1362] أخرجه البخاري (1442)، ومسلم (1010).
وعنِ الحارِثِ الأشعَريِّ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّ نَبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ اللَّهَ أمَر يَحيى بنَ زَكَريَّا بخَمسِ كَلِماتٍ أن يَعمَلَ بهنَّ، وأن يَأمُرَ بَني إسرائيلَ أن يَعمَلوا بهنَّ، فكادَ أن يُبطِئَ، فقال له عيسى: إنَّك قد أُمِرتَ بخَمسِ كَلِماتٍ أن تَعمَلَ بهنَّ، وأن تَأمُرَ بَني إسرائيلَ أن يَعمَلوا بهنَّ، فإمَّا أن تُبَلِّغَهنَّ وإمَّا أُبَلِّغَهنَّ، فقال له: يا أخي، إنِّي أخشى إن سَبَقتَني أن أُعَذَّبَ، أو يُخسَفَ بي، قال: فجَمَعَ يَحيى بَني إسرائيلَ في بَيتِ المَقدِسِ، حَتَّى امتَلَأ المَسجِدُ، وقُعِدَ على الشُّرَفِ، فحَمِدَ اللَّهَ، وأثنى عليه، ثُمَّ قال: إنَّ اللَّهَ أمَرَني بخَمسِ كَلِماتٍ أن أعمَلَ بهنَّ، وآمُرَكُم أن تَعمَلوا بهنَّ...)). وفيه: ((وآمُرُكُم بالصَّدَقةِ؛ فإنَّ مَثَلَ ذلك كمَثَلِ رَجُلٍ أسَرَه العَدُوُّ، فشَدُّوا يَدَيه إلى عُنُقِه، وقَرَّبوه ليَضرِبوا عُنُقَه، فقال: هَل لَكم أن أفتَديَ نَفسي مِنكم؟ فجَعَلَ يَفتَدي نَفسَه مِنهم بالقَليلِ والكَثيرِ، حَتَّى فَكَّ نَفسَه...)) [1363] أخرجه الترمذي (2863)، وأحمد (17800) واللفظ له. صحَّحه ابنُ خزيمة في ((صحيحه)) (483)، وابن حبان في ((صحيحه)) (6233)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (1554)، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (8/6)، والعراقي في ((المستخرج على المستدرك)) (89). وقَولُه: ((وإنَّ خُلوفَ فَمِ الصَّائِمِ أطيَبُ عِندَ اللهِ مِن ريحِ المِسكِ)) أخرجه البخاري (1894)، ومسلم (1151) باختِلافٍ يَسيرٍ مِن حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه. .
وعن كَعبِ بنِ عُجرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال لي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أُعيذُك باللهِ يا كَعبُ بنَ عُجرةَ مِن أُمَراءَ يَكونونَ مِن بَعدي، فمِن غَشيَ أبوابَهم فصَدَّقَهم في كَذِبِهم، وأعانَهم على ظُلمِهم، فليسَ مِنِّي ولستُ مِنه، ولا يَرِدُ عليَّ الحَوضَ، ومَن غَشِيَ أبوابَهم أو لم يَغْشَ ولم يُصَدِّقْهم في كَذِبِهم، ولم يُعِنْهم على ظُلمِهم، فهو مِنِّي وأنا مِنه، وسَيَرِدُ عليَّ الحَوضَ، يا كَعبُ بنَ عُجرةَ، الصَّلاةُ بُرهانٌ، والصَّومُ جُنَّةٌ حَصينةٌ، والصَّدَقةُ تُطفِئُ الخَطيئةَ كما يُطفِئُ الماءُ النَّارَ، يا كَعبُ بنَ عُجرةَ، إنَّه لا يَربو لحمٌ نَبَتَ مِن سُحتٍ إلَّا كانتِ النَّارُ أَولى به)) [1364] أخرجه مِن طُرُقٍ: الترمذي (614) واللَّفظُ له، والنسائي (4208) مُختَصَرًا. صَحَّحه ابنُ حَجَرٍ في ((الأمالي المطلقة)) (215)، وأحمد شاكر في ((شرح سنن الترمذي)) (2/513)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (614). .
وعن حُذَيفةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فِتنةُ الرَّجُلِ في أهلِه ومالِه ووَلَدِه وجارِه تُكَفِّرُها الصَّلاةُ والصَّومُ والصَّدَقةُ، والأمرُ والنَّهيُ)) [1365] أخرجه البخاري (525) واللفظ له، ومسلم (144). .
وعن عَدِيِّ بنِ حاتِمٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما مِنكُم أحَدٌ إلَّا سَيُكَلِّمُه رَبُّه ليسَ بَينَه وبَينَه تُرجُمانٌ، فيَنظُرُ أيمَنَ مِنه فلا يَرى إلَّا ما قَدَّمَ مِن عَمَلِه، ويَنظُرُ أشأمَ مِنه فلا يَرى إلَّا ما قدَّمَ، ويَنظُرُ بَينَ يَدَيه فلا يَرى إلَّا النَّارَ تِلقاءَ وَجهِه؛ فاتَّقوا النَّارَ ولو بشِقِّ تَمرةٍ)) [1366] أخرجه البخاري (7512) واللفظ له، ومسلم (1016). .
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن تصَدَّق بعَدلِ تَمرةٍ مِن كَسبٍ طَيِّبٍ -ولا يَقبَلُ اللهُ إلَّا الطَّيِّبَ- وإنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُها بيَمينِه، ثُمَّ يُرَبِّيها لصاحِبِه كَما يُرَبِّي أحَدُكُم فَلُوَّه [1367] الفَلُوُّ: المُهرُ، سُمِّيَ بذلك لأنَّه فُلِيَ عن أُمِّه، أي: فُصِل وعُزِل. يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (7/ 99). ، حتَّى تَكونَ مِثلَ الجَبَلِ)) [1368] أخرجه البخاري (1410). .
وفي رِوايةٍ: ((ما تَصدَّق أحَدٌ بصَدَقةٍ مِن طَيِّبٍ -ولا يَقبَلُ اللهُ إلَّا الطَّيِّبَ- إلَّا أخَذها الرَّحمَنُ بيَمينِه، وإن كانت تَمرةً، فتَربو في كَفِّ الرَّحمَنِ حتَّى تَكونَ أعظَمَ مِنَ الجَبَلِ، كَما يُرَبِّي أحَدُكُم فَلُوَّه أو فَصيلَه [1369] الفَلُوُّ: المُهرُ، سُمِّيَ بذلك لأنَّه فُلِيَ عن أُمِّه، أي: فُصِل وعُزِل، والفَصيلُ: وَلَدُ النَّاقةِ إذا فُصِل مِن إرضاعِ أُمِّه، فَعيلٌ بمَعنى مَفعول، كجَريحٍ وقَتيلٍ، بمَعنى مَجروحٍ ومَقتولٍ. يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (7/ 99). ) [1370] أخرجها مسلم (1014). .
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((ما نَقَصَت صَدَقةٌ مِن مالٍ، وما زادَ اللهُ عَبدًا بعَفوٍ إلَّا عِزًّا، وما تَواضَعَ أحَدٌ للهِ إلَّا رَفعَه اللهُ)) [1371] أخرجه مسلم (2588). .
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((سَبعةٌ يُظِلُّهمُ اللهُ في ظِلِّه يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه: الإمامُ العادِلُ، وشابٌّ نَشَأ في عِبادةِ رَبِّه، ورَجُلٌ قَلبُه مُعَلَّقٌ في المَساجِدِ، ورَجُلانِ تَحابَّا في الله اجتَمَعا عليه وتَفَرَّقا عليه، ورَجُلٌ طَلَبَتْه امرَأةٌ ذاتُ مَنصِبٍ وجَمالٍ فقال: إنِّي أخافُ اللهَ، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ أخفى حَتَّى لا تَعلَمَ شِمالُه ما تُنفِقُ يَمينُه، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خاليًا ففاضَت عَيناه)) [1372] أخرجه البخاري (660) واللفظ له، ومسلم (1031). .
وعن يَزيدَ بنِ أبي حَبيبٍ، أنَّ أبا الخَيرِ حَدَّثَه، أنَّه سَمِعَ عُقبةَ بنَ عامِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه يَقولُ: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((كُلُّ امرِئٍ في ظِلِّ صَدَقَتِه حتَّى يُفصَلَ بَينَ النَّاسِ. أو قال: يُحكَمَ بَينَ النَّاسِ)). قال يَزيدُ: وكان أبو الخَيرِ لا يُخطِئُه يَومٌ إلَّا تَصَدَّق فيه بشَيءٍ ولو كَعكةً أو بَصَلةً أو كَذا [1373] أخرجه أحمد (17333) واللفظ له، وابن خزيمة (2431)، وابن حبان (3310). صَحَّحه ابنُ خزيمة، وابن حبان، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (1537)، والألباني في ((صحيح الترغيب)) (872). .
وفي رِوايةٍ عن يَزيدَ بنِ أبي حَبيبٍ، قال: كان مَرثَدُ بنُ عَبدِ اللَّهِ لا يَجيءُ إلى المَسجِدِ إلَّا ومَعَه شَيءٌ يَتَصَدَّقُ به، قال: فجاءَ ذاتَ يَومٍ إلى المَسجِدِ ومَعَه بَصَلٌ، فقُلتُ له: أبا الخَيرِ، ما تُريدُ إلى هذا، يُنتِنُ عليك ثَوبَك؟! قال: يا ابنَ أخي، إنَّه واللهِ ما كان في مَنزِلي شَيءٌ أتصَدَّقُ به غَيرُه، إنَّه حَدَّثَني رَجُلٌ مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((ظِلُّ المُؤمِنِ يَومَ القيامةِ صَدَقتُه)) [1374] أخرجها أحمد (23490) واللفظ له، وابن خزيمة (2432)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (3837). صَحَّحها ابنُ خزيمة، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (23490)، وحَسَّن إسنادَها الألباني في ((صحيح ابن خزيمة)) (2432). .
وفي الصَّدَقةِ فوائِدُ لا يَعلَمُها إلَّا اللهُ عَزَّ وجَلَّ؛ مِنها يُنظر: ((تنبيه الغافلين)) للسمرقندي (ص: 311، 312)، ((الترغيب والترهيب)) لليافعي (ص: 80-82). :
- تَطهيرُ المالِ والبَدَنِ فعن قَيسِ بنِ أبي غَرزةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كُنَّا نُسَمَّى السَّماسِرةَ، فأتانا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونَحنُ نَبيعُ، فسَمَّانا باسمٍ هو خَيرٌ مِنِ اسمِنا، فقال: يا مَعشَرَ التُّجَّارِ، إنَّ هذا البَيعَ يَحضُرُه الحَلِفُ والكَذِبُ؛ فشُوبوا فشُوبوا: أي: اخلِطوا، والشَّوبُ: الخَلطُ. وإنَّما أمَرَهم فيه بالصَّدَقةِ، وأرادَ: صَدَقةً غَيرَ مُعَيَّنةٍ في تَضاعيفِ الأيَّامِ، لتَكونَ كَفَّارةً لِما يَجري بَينَهم مِنَ اللَّغوِ والحَلِفِ وغَيرِ ذلك، وليسَت بالصَّدَقةِ الواجِبةِ التي هيَ الزَّكاةُ. يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (3/ 54)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (1/ 434)، ((النهاية)) لابن الأثير (2/ 508). بَيعَكُم بالصَّدَقةِ)) أخرجه أبو داود (3327)، والنسائي (3797) واللَّفظُ له. صَحَّحه الجورقاني في ((الأباطيل والمناكير)) (2/145)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (3797)، وقال الوادعي في ((الإلزامات والتتبع)) (106): على شَرطِ الشَّيخَينِ وفي لفظٍ: عن قَيسِ بنِ أبي غرزةَ، قال: خَرَجَ علينا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونَحنُ نُسَمِّي السَّماسِرةَ، فقال: يا مَعشَر التُّجَّارِ، إنَّ الشَّيطانَ والإثمَ يَحضُرانِ البَيعَ؛ فشُوبوا بَيعَكُم بالصَّدَقةِ. أخرجه الترمذي (1208) واللفظ له، وابن أبي خيثمة في ((التاريخ)) (1/505)، والطبراني (18/357) (913). صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (1208)، وقال الترمذي: حَسَنٌ صحيحٌ. .
وفي رِوايةٍ: ((إنَّه يَشهَدُ بَيعَكُمُ الحَلِفُ واللَّغوُ؛ فشُوبوه بالصَّدَقةِ)) أخرجها أبو داود (3326)، والنسائي (4463) واللَّفظُ له، وابن ماجه (2145). صَحَّحها ابنُ دقيق العيد في ((الاقتراح)) (99)، وابن الملقن في ((شرح البخاري)) (14/182)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (4463)، والوادعي على شرط الشيخين في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1089). .
وقال بَعضُ السَّلفِ لوَلَدِه: يا بُنَيَّ، إذا أخطَأتَ خَطيئةً فتَصَدَّقْ بصَدَقةٍ؛ فإنَّ اللَّهَ تعالى يَقولُ: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا التوبة: 103.، فالصَّدَقةُ تُطَهِّرُ البَدَنَ والمالَ.
- ومِنها: أنَّها تَرفعُ البَلاءَ والأمراضَ عنِ الإنسانِ.
- ومِنها: إدخالُ السُّرورِ على قُلوبِ الفُقَراءِ والمَساكينِ، ومِن أفضَلِ الأعمالِ إدخالُ السُّرورِ على المُؤمِنينَ.
- ومِنها: أنَّ فيها رِضا الرَّحمَنِ، وإرغامَ الشَّيطانِ؛ لأنَّه يَكرَهُ الصَّدَقةَ. إلى غيرِ ذلك.
وقد حَذَّرَ الإسلامُ مِنَ الشُّحِّ والبُخلِ:
قال تعالى: هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد: 38] .
وقال جَلَّ ثناؤه: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران: 180] .
وقال سُبحانَه: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء: 36-37] .
وقال عَزَّ وجَلَّ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الحديد: 24] .
وقال سُبحانه: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [الليل: 5 - 11] .
وقال سُبحانَه: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [الليل: 5 - 11] .
وعن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((اتَّقوا الظُّلمَ؛ فإنَّ الظُّلمَ ظُلُماتٌ يَومَ القيامةِ، واتَّقوا الشُّحَّ؛ فإنَّ الشُّحَّ أهلَكَ مَن كان قَبلَكُم، حَمَلهم على أن سَفكوا دِماءَهم، واستَحَلُّوا مَحارِمَهم)) [1379] أخرجه مسلم (2578). .
 وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((مَثَلُ البَخيلِ والمُنفِقِ كَمَثَلِ رَجُلينِ عليهما جُبَّتانِ مِن حَديدٍ مِن ثُدِيِّهما إلى تَراقيهما، فأمَّا المُنفِقُ فلا يُنفِقُ إلَّا سَبَغَت أو وفَرَت على جِلدِه، حتَّى تُخفيَ بَنانَه وتَعفوَ أثَرَه، وأمَّا البَخيلُ فلا يُريدُ أن يُنفِقَ شَيئًا إلَّا لزِقَت كُلُّ حَلقةٍ مَكانَها، فهو يوسِّعُها ولا تَتَّسِعُ)) [1380] أخرجه البخاري (1443) واللفظ له، ومسلم (1021). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (لمَّا كان البخيلُ محبوسًا عن الإحسانِ، ممنوعًا عن البِرِّ والخيرِ، وكان جزاؤه من جِنسِ عَمَلِه؛ فهو ضَيِّقُ الصَّدرِ، ممنوعٌ من الانشراحِ، ضَيِّقُ العَطَنِ، صغيرُ النَّفسِ، قليلُ الفَرَحِ، كثيرُ الهَمِّ والغَمِّ والحُزنِ، لا يكادُ تُقضى له حاجةٌ، ولا يُعانُ على مطلوبٍ؛ فهو كرجُلٍ عليه جُبَّةٌ من حديدٍ قد جُمِعَت يداه إلى عنُقِه، بحيث لا يتمكَّنُ من إخراجِها ولا حركتِها، وكلَّما أراد إخراجَها أو توسيعَ تلك الجُبَّةِ لَزِمَت كُلُّ حلقةٍ من حِلَقِها مَوضِعَها، وهكذا البخيلُ كُلَّما أراد أن يتصدَّقَ منعَه بُخلُه فبَقِيَ قلبُه في سِجنِه كما هو، والمُتَصَدِّقُ كُلَّما تَصَدَّقَ بصَدَقةٍ انشَرَحَ لها قَلبُه وانفسَحَ بها صَدَرُه، فهو بمَنزِلةِ اتِّساعِ تلك الجُبَّةِ عليه، فكُلَّما تصَدَّق اتَّسَعَ وانفسَحَ وانشَرَحَ، وقَويَ فرَحُه وعَظُمَ سُرورُه، ولو لم يَكُنْ في الصَّدَقةِ إلَّا هذه الفائِدةُ وحدَها لكان العَبدُ حَقيقًا بالاستِكثارِ مِنها والمُبادَرةِ إليها...) [1381] ((الوابل الصيب)) (ص: 33-35). .
وفيما يَلي نَذكُرُ أهَمَّ آدابِ الزَّكاةِ والصَّدَقاتِ:

انظر أيضا: