موسوعة الآداب الشرعية

تاسعًا: التَّلبيةُ


تُسنُّ التَّلبِيةُ [1543] التَّلبِيةُ لُغةً: إجابةُ المنادي، وتُطلَقُ على الإقامةِ على الطَّاعةِ. يُنظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (1/730). قال ابنُ القَيِّم: (في معنى التَّلبِيةِ ثمانيةُ أقوالٍ: أحَدُها: إجابةً لك بعدَ إجابةٍ؛ ولهذا المعنى كُرِّرَت التَّلبِيةُ إيذانًا بتكريرِ الإجابةِ. الثَّاني: أنَّه انقيادٌ؛ مِن قَولِهم: لبَّبتُ الرَّجُلَ: إذا قَبَضتَ على تلابِيبِه، ومنه: لبَّبتُه بردائِه. والمعنى: انقَدتُ لك وَسَعَتْ نفْسي لك خاضعةً ذليلةً؛ كما يُفعَلُ بمن لُبِّبَ بردائِه وقُبِضَ على تلابِيبِه. الثَّالِثُ: أنَّه مِنْ لَبَّ بالمكانِ: إذا قام به ولَزِمَه، والمعنى: أنا مُقيمٌ على طاعَتِك ملازِمٌ لها؛ اختاره صاحِبُ "الصَّحاحِ". الرَّابعُ: أنَّه مِن قَولِهم: داري تَلبُّ دارَك، أي: تواجِهُها وتُقابِلُها، أي مُواجَهَتُك بما تُحِبُّ مُتَوَجِّهٌ إليك، حكاه في "الصَّحاحِ" عن الخليلِ. الخامِسُ: معناه: حبًّا لك بعدَ حُبٍّ؛ مِن قولِهم: امرأةٌ لَبَّةٌ: إذا كانت مُحِبَّةً لولَدِها. السَّادِسُ: أنَّه مأخوذٌ مِن لُبِّ الشَّيءِ، وهو خالِصُه، ومنه لُبُّ الطَّعامِ، ولُبُّ الرَّجُلِ: عَقلُه وقَلبُه، ومعناه: أخلصْتُ لُبِّي وقلبي لك، وجعلتُ لك لُبِّي وخالِصَتي. السَّابعُ: أنَّه مِن قولِهم: فلانٌ رَخِيُّ اللَّبَبِ. وفي لُبٍّ رَخِيٍّ، أي: في حالٍ واسعةٍ مُنشَرِحُ الصَّدرِ، ومعناه: أنا منشَرِحُ الصَّدرِ متَّسِعُ القَلبِ لِقَبولِ دَعوتِك وإجابتِها، مُتَوَجِّهٌ إليك بلبَبٍ رَخِيٍّ، يوجِدُ المُحِبَّ إلى محبوبِه لا بِكُرْهٍ ولا تكَلُّفٍ. الثَّامِنُ: أنَّه مِن الإلبابِ، وهو الاقترابُ، أي: اقترابًا إليك بعدَ اقترابٍ، كما يتقرَّبُ المحِبُّ من محبوبِه). ((حاشية ابن القيم على السنن)) (5/175). وقال ابنُ فارسٍ: (اللَّامُ والباءُ أصلٌ يدُلُّ على لزومٍ وثباتٍ، وعلى خُلوصٍ وجَوْدةٍ). ((مقاييس اللغة)) (5/ 199). والتَّلبِيةُ اصطلاحًا: هي قولُ المُحرِمِ: لبَّيكَ اللَّهُمَّ لبَّيكَ، لبَّيك لا شريكَ لك لبَّيك؛ إنَّ الحمدَ والنِّعمةَ لك والمُلكَ، لا شريكَ لك. فعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما ((أنَّ تلبيةَ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: لبَّيكَ اللَّهمَّ لبَّيكَ، لبَّيكَ لا شريكَ لك لبَّيكَ؛ إنَّ الحمدَ والنِّعمةَ لك والمُلْكَ، لا شريكَ لك)). أخرجه البخاري (1549)، ومسلم (1184). بعدَ الإحرامِ  [1544]  وهذا مَذهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، والحَنابِلةِ، واختارَه ابنُ بازٍ، وابنُ عُثيمين. يُنظر: ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/481)، ((الإنصاف)) للمرداوي (3/320)، ((مجموع فتاوى ابن باز)) (17/76)، ((مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين)) (22/ 101). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن سالمِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، عن أبيه رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((سَمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهِ عليه وسَلَّم يُهِلُّ مُلَبِّدًا [1545] التَّلبيدُ: هو أن يُسَرِّحَ شَعرَه، ويَجعَلَ فيه شَيئًا مِن صَمغٍ ليَلتَزِقَ، ولا يَتَشَعَّثَ في الإحرامِ. ((جامع الأصول)) لابن الأثير (3/ 44). ، يقولُ: لبَّيك اللَّهُمَّ لبَّيك، لبَّيك لا شَريكَ لك لبَّيك، إنَّ الحمدَ والنِّعمةَ لك والمُلْكَ، لا شريكَ لك. لا يَزيدُ على هؤلاءِ الكَلِماتِ. وإنَّ عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما كان يقولُ: كان رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم يركَعُ بذي الحُلَيفةِ ركعتَينِ، ثمَّ إذا استَوَت به النَّاقةُ قائمةً عندَ مَسجِدِ ذي الحُلَيفةِ أهَلَّ بهؤلاءِ الكَلِماتِ)) [1546] أخرجه البخاري (1514) مختصرًا، ومسلم (1184) واللفظ له. .
2- عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه قال بجَمْعٍ [1547] جَمعٌ: هو مَكانٌ مَعروفٌ بالمُزدَلِفةِ، وهو اسمُ المَشعَرِ الحَرامِ، وقيل: هو المُزدَلِفةُ نَفسُها، ويُقالُ لمُزدَلِفةَ: جَمعٌ؛ إمَّا لأنَّ النَّاسَ يَجتَمِعونَ بها، وإمَّا لأنَّ آدَم عليه السَّلامُ وحَوَّاءَ لمَّا أُهبِطا اجتَمَعا بها. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (3/ 1198)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (3/ 242)، ((النهاية)) لابن الأثير (1/ 296)، ((المصباح المنير)) للفيومي (1/ 108)، ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 99). : ((سمِعتُ الَّذي أُنزِلَتْ عليه سورةُ البَقَرةِ هاهنا يقولُ: لبَّيك اللَّهُمَّ لبَّيك...)) [1548] أخرجه مسلم (1283). .
وَجهُ الدَّلالة مِنَ الحديثَينِ:
أنَّ هذا فِعلُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم، وهو يفيدُ الاستحبابَ [1549] ((المغني)) لابن قُدامة ((3/270). .
وأما التعليل فللآتي:
1- لأنَّ التَّلبِيةَ ذِكرٌ، فلم تَجِبْ في الحَجِّ والعُمرةِ كسائِرِ الأذكارِ فيهما [1550] ((المغني)) لابن قُدامة (3/270)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/419). قال النَّوَويُّ: (اتَّفَقَ العُلَماءُ على استحبابِ التَّلبيةِ). ((المجموع)) (7/245). وقال ابنُ عبدِ البرِّ: (والذِّكْرُ والدُّعاءُ في ذلك الموضِعِ وغيرِه من سائِرِ مواقِفِ الحَجِّ مندوبٌ إليه مستحَبٌّ؛ لِمَا فيه من الفَضلِ ورجاءِ الإجابةِ، وليس بفَرضٍ عندَ الجميعِ). ((التمهيد)) (2/91). .
2- لأنَّها عبادةٌ لا يجِبُ النُّطقُ في آخِرِها؛ فلم يجِبِ النُّطقُ في أوَّلِها كالصَّومِ [1551] ((المهذب)) للشيرازي (1/375). .

انظر أيضا: