موسوعة الآداب الشرعية

تمهيدٌ في أهميَّةِ الحجِّ والحكمةِ مِن مشروعيَّتِه، وبعضِ فضائلِ الحجِّ والعُمرةِ


الحَجُّ أحَدُ أركانِ الإسلامِ وفَرضٌ مِن فُروضِه، وهو مَن أعظَمِ شَعائِرِه، فرَضَه اللهُ في العُمرِ مَرَّةً عِندَ تَحَقُّقِ شُروطِه.
قال تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران: 96-97] .
وقال سُبحانَه: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة: 196] .
وعن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((بُنِيَ الإسلامُ على خمسٍ: شهادةِ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ محمَّدًا رسولُ الله، وإقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، والحجِّ، وصومِ رمضانَ)) [1465] أخرجه البخاري (8) واللفظ له، ومسلم (16). .
وعن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: حَدَّثَني أبي عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، قال: ((بَينَما نَحنُ عِندَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذاتَ يَومٍ إذ طَلعَ علينا رَجُلٌ شَديدٌ بَياضِ الثِّيابِ، شَديدُ سَوادِ الشَّعَرِ، لا يَرى عليه أثَرُ السَّفَرِ، ولا يَعرِفُه مِنَّا أحَدٌ، حتَّى جَلسَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأسنَدَ رُكبَتَيه إلى رُكبَتَيه، ووضَعَ كَفَّيه على فَخِذَيه، وقال: يا مُحَمَّدُ، أخبِرْني عنِ الإسلامِ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: الإسلامُ أن تَشهَدَ أنْ لا إلهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتُقيمَ الصَّلاةَ، وتُؤتيَ الزَّكاةَ، وتَصومَ رَمَضانَ، وتَحُجَّ البَيتَ إنِ استَطَعتَ إليه سَبيلًا، قال: صَدَقتَ...)) الحَديثَ [1466] أخرجه مسلم (8). .
وعن أبي هُريرةَ رضِي الله عنه قال: ((خَطَبنا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم، فقالَ: أَيُّها النَّاسُ قدْ فَرَض اللَّهُ عَلَيْكم الحَجَّ، فحُجُّوا، فقالَ رَجُلٌ: أكُلَّ عامٍ يا رَسولَ اللهِ؟ فسَكَت حتَّى قالَها ثَلاثًا، فقالَ رسولُ الله صَلَّى اللَّه عليه وسلَّم: لو قُلتُ: نَعمْ لوَجَبتْ، ولَما استَطَعْتُم)) [1467] أخرجه مسلم (1337). .
وللحجِّ وللعُمرةِ فضائِلُ كَثيرةٌ، فمِن ذلك:
عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُئِل: أيُّ العَمَلِ أفضَلُ؟ فقال: إيمانٌ باللهِ ورَسولِه. قيل: ثُمَّ ماذا؟ قال: الجِهادُ في سَبيلِ اللهِ. قيل: ثُمَّ ماذا؟ قال: حَجٌّ مَبرورٌ [1468] الحَجُّ المَبرورُ، قيل: المَقبولُ. وقيل: الذي لم يُخالِطْه إثمٌ. وقيل: الخالصُ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/85). ) [1469] أخرجه البخاري (26) واللَّفظُ له، ومسلم (83). .
وعن عائِشةَ أُمِّ المُؤمِنينَ رَضِيَ اللهُ عنها، أنَّها قالت: ((يا رَسولَ اللهِ، نَرى الجِهادَ أفضَلَ العَمَلِ، أفلا نُجاهِدُ؟ قال: لا، لكِنَّ أفضَلَ الجِهادِ حَجٌّ مَبرورٌ)) [1470] أخرجه البخاري (1520). .
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((مَن حَجَّ للهِ فلم يَرفُثْ [1471] الرَّفَثُ: الجِماعُ، أو الفُحشُ في القَولِ، أو خِطابُ الرَّجُلِ المرأةَ فيما يتعلَّقُ بالجِماعِ. يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (3/97). ، ولم يَفسُقْ [1472] ((ولم يَفسُقْ)): أي: لم يأتِ بسَيِّئةٍ ولا معصيةٍ. يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (3/97). ، رَجَعَ كَيَومَ وَلَدَته أُمُّه)) [1473] أخرجه البخاري (1521) واللَّفظُ له، ومسلم (1350). .
وعن عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((لَمَّا جَعَل اللَّهُ الإسلامَ في قَلبِي أتَيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَقُلتُ: ابسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبايِعْك، فَبَسَطَ يَمِينَه، قالَ: فَقَبَضتُ يَدِي، قال: ما لكَ يا عَمرُو؟! قال: قُلتُ: أرَدتُ أن أشتَرِطَ، قال: تَشتَرِطُ بماذا؟ قُلتُ: أن يُغفَرَ لِي، قال: أما عَلِمتَ أنَّ الإسلامَ يَهدِمُ ما كانَ قَبلَه؟ وأنَّ الهِجرَةَ تَهدِمُ ما كانَ قَبلَها؟ وأنَّ الحَجَّ يَهدِمُ ما كانَ قَبلَه؟)) [1474] أخرجه مسلم (121). .
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((العُمرةُ إلى العُمرةِ كَفَّارةٌ لِما بَينَهما، والحَجُّ المَبرورُ ليسَ له جَزاءٌ إلَّا الجَنَّةُ)) [1475] أخرجه البخاري (1773)، ومسلم (1349). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((تابِعوا بَينَ الحَجِّ والعُمرةِ؛ فإنَّهما يَنفيانِ الفَقرَ والذُّنوبَ كَما يَنفي الكِيرُ خَبَثَ الحَديدِ والذَّهَبِ والفِضَّةِ، وليسَ للحَجَّةِ المبرورةِ ثَوابٌ دونَ الجَنَّةِ)) [1476] أخرجه الترمذي (810)، والنسائي (2631)، وأحمد (3669) واللفظ له. صَحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (3669)، وحَسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (875)، وصحح إسناده أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (5/244)، وابن باز في ((حاشية بلوغ المرام)) (431). وذهب إلى تصحيحه ابن خزيمة في ((صحيحه)) (4/222)، وابن حبان في ((صحيحه)) (3693). .
ومن حِكَم مشروعيَّةِ الحَجِّ:
1- تحقيقُ توحيدِ اللهِ تعالى:
قال تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج: 26-27] .
وعن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه قال في بَيانِ حَجَّتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((فأهَلَّ بالتَّوحيدِ [1477] قال النَّوويُّ: (فيه إشارةٌ إلى مُخالفةِ ما كانتِ الجاهليَّةُ تَقولُه في تَلبيَتِها مِن لفظِ الشِّركِ). ((شرح مسلم)) (8/174). : لبَّيكَ اللهُمَّ لبَّيكَ، لبَّيكَ لا شَريكَ لك لبَّيكَ؛ إنَّ الحَمدَ والنِّعمةَ لك والمُلكَ، لا شَريكَ لك)) [1478] أخرجه مسلم (1218). .
2- إظهارُ الافتقارِ إلى اللهِ سُبحانَه:
فالحاجُّ يَبتَعِدُ عنِ التَّرَفُّهِ والتَّزَيُّنِ، ويَلبَسُ ثيابَ الإحرامِ، مُتَجَرِّدًا عنِ الدُّنيا وزينَتِها، فيُظهرُ عَجزَه ومَسكَنَتَه، ويَكونُ في أثناءِ المَناسِكِ ضارِعًا لرَبِّه عَزَّ وجَلَّ، مُفتَقِرًا إليه، ذَليلًا بَينَ يَدَيه، مُنقادًا بطَواعيةٍ لأوامِرِه، مُجتَنِبًا لنَواهيه سُبحانَه، سَواءٌ عَلِمَ حِكمَتَها أم لم يَعلَمْ.
3- تحقيقُ التقوَى لله تعالى:
قال تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [البقرة: 197] .
ومِمَّا تَتَحَقَّقُ به التَّقوى في الحَجِّ الابتِعادُ عن مَحظوراتِ الإحرامِ.
4- إقامَةُ ذِكْرِ اللهِ عزَّ وجَلَّ:
قال تعالى: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة: 198–200].
5- تهذيبُ النَّفْسِ البشريَّةِ:
قال تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [البقرة: 197] .
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((مَن حَجَّ للَّهِ فلم يَرفُثْ [1479] الرَّفَثُ: الجِماعُ، أو الفُحشُ في القَولِ، أو خِطابُ الرَّجُلِ المرأةَ فيما يتعلَّقُ بالجِماعِ. يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (3/97). ، ولم يَفسُقْ [1480] ((ولم يَفسُقْ)): أي: لم يأتِ بسَيِّئةٍ ولا معصيةٍ. يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (3/97). ، رَجَعَ كَيَومَ وَلَدَته أُمُّه)) [1481] أخرجه البخاري (1521) واللَّفظُ له، ومسلم (1350). .
6- في الحَجِّ تذكيرٌ بالآخِرَة ووقوفِ العبادِ بين يَدَيِ اللهِ تعالى يومَ القيامَةِ:
فالمَشاعِرُ تَجمَعُ النَّاسَ مِن مُختَلِفِ الأجناسِ في زيٍّ واحِدٍ مَكشوفيِ الرُّؤوسِ، يُلبُّونَ دَعوةَ الخالقِ عَزَّ وجَلَّ، وهذا المَشهَدُ يُشبِهُ وُقوفَهم بَينَ يَدَيه سُبحانَه يَومَ القيامةِ في صَعيدٍ واحِدٍ حُفاةً عُراةً غُرْلًا خائِفينَ وَجِلينَ مُشفِقينَ؛ وذلك مِمَّا يَبعَثُ في نَفسِ الحاجِّ خَوفَ اللهِ ومُراقَبَتَه والإخلاصَ له في العَمَلِ [1482] ((مَجموع فتاوى ابن باز)) (16/246، 247). .
7- تربيةُ الأُمَّةِ على معاني الوَحْدَةِ الصَّحيحةِ:
ففي الحَجِّ تَختَفي الفوارِقُ بَينَ النَّاسِ مِنَ الغِنى والفقرِ، والجِنسِ واللَّونِ، وغَيرِ ذلك، وتَتَوحَّدُ وِجهَتُهم نَحوَ خالقٍ واحِدٍ، وبلباسٍ واحِدٍ، يُؤَدُّونَ نَفسَ الأعمالِ في زَمَنٍ واحِدٍ ومَكانٍ واحِدٍ، بالإضافةِ إلى ما يَكونُ بَينَ الحَجيجِ مِن مَظاهرِ التَّعاوُنِ على البرِّ والتَّقوى، والتَّواصي بالحَقِّ، والتَّواصي بالصَّبرِ.
8- أنَّ أداءَ فريضةِ الحَجِّ فيه شكرٌ لنِعْمَةِ المالِ وسلامَةِ البَدَنِ:
ففي الحَجِّ شُكرُ هاتَينِ النِّعمَتَينِ العَظيمَتَينِ؛ حَيثُ يُجهدُ الإنسانُ نَفسَه، ويُنفِقُ مالَه في التَّقَرُّبِ إلى اللهِ تَبارَكَ وتعالى [1483] ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (17/26، 27). .
إلى غَيرِ ذلك مِنَ الحِكَمِ والفوائِدِ والمَنافِعِ [1484] ((مجموع ورسائل العثيمين)) (24/239-241)، ((ملخص فقه العبادات)) بإشراف علوي السقاف (ص: 666). .
هذا وللحجِّ والعُمرةِ آدابٌ ينبغي مراعاتُها، وفيما يلي نَذكُرُ أهمَّ هذه الآدابِ:

انظر أيضا: