سابعًا: مَظاهِرُ وصُوَرُ الحَياءِ
- من مَظاهِرِ وصُوَرِ الحَياءِ المحمودِ:- الحَياءُ من اللهِ: وذلك بالخَوفِ منه ومُراقبتِه، وفِعلِ ما أمَر واجتنابِ ما نهى عنه، وأن يستحيَ المؤمِنُ أن يراه اللهُ حيثُ نهاه، وهذا الحَياءُ يمنَعُ صاحِبَه من ارتكابِ المعاصي والآثامِ؛ لأنَّه مرتَبِطٌ باللهِ، يراقِبُه في حِلِّه وتَرْحالِه.
وهو أعلى صُوَرِ الحَياءِ مكانةً، وبه يَصِلُ الإنسانُ إلى مرتبةِ الإحسانِ التي دلَّ عليها قولُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عندما سأله جبريلُ عن الإحسانِ، فقال:
((أن تعبُدَ اللهَ كأنَّك تراه، فإنْ لم تكُنْ تراه فإنَّه يراك)) [3916] أخرجه البخاري (50) واللفظ له، ومسلم (9) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. وأخرجه مسلم (8) من حديثِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وقال
أبو عبدِ اللهِ المَرْوَزيُّ: (ينبغي للعاقِلِ أن يستحيَ من اللهِ تعالى أن يراه كثيرَ الحَياءِ من الخَلقِ، قليلَ الحَياءِ من اللهِ تعالى، فلْيَكُنِ الغالِبُ عليه الحَياءَ من اللهِ)
[3917] ((تعظيم قدر الصلاة)) للمروزي (2/855). .
وقال عُبَيدُ بنُ عُمَيرٍ: (آثِروا الحَياءَ من اللهِ على الحَياءِ من النَّاسِ)
[3918] ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (3/268). .
- الحَياءُ من الملائكةِ: وذلك عندَما يَستشعِرُ المؤمِنُ أنَّ الملائكةَ معه يُرافِقونه في كُلِّ أوقاتِه، ولا يُفارِقونه إلَّا عندَما يأتي الغائِطَ، وعندما يأتي أهلَه.
قال تعالى:
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار: 10 - 13].
و(الحِكمةُ في كتابةِ الأعمالِ وحِفظِها على العامِلين أنَّ المكَلَّفَ إذا عَلِم أنَّ أعمالَه تُحفَظُ عليه، وتُعرَضُ على رؤوسِ الأشهادِ، كان ذلك أزجَرَ له عن الفواحِشِ والمُنكَراتِ، وأبعَثَ له على عَمَلِ الصَّالحاتِ، فإن لم يَصِلْ إلى مقامِ العلمِ الرَّاسِخِ الذي يُثمِرُ الخشيةَ للهِ، والمعرفةِ الكاملةِ التي تُثمِرُ الحَياءَ؛ رُبَّما غَلَب عليه الغُرورُ بالكَرَمِ الإلهيِّ، والرَّجاءُ في المغفرةِ والرَّحمةِ، فلا يكونُ لديه من الخشيةِ والحَياءِ ما يَزجُرُه عن المعصيةِ، كما يَزجُرُه توقُّعُ الفضيحةِ في موقِفِ الحسابِ على أعيُنِ الخلائِقِ وأسماعِهم)
[3919] ((تفسير حدائق الروح والريحان)) لمحمد الأمين الهرري (8/ 379). .
- الحَياءُ من النَّاسِ: وهو دليلٌ على مروءةِ الإنسانِ؛ فالمؤمِنُ يستحي أن يؤذيَ الآخَرينَ، سواءٌ بلِسانِه أو بيَدِه، فلا يقولُ القبيحَ ولا يتلفَّظُ بالسُّوءِ، ولا يطعَنُ أو يغتابُ أو يَنمُّ، وكذلك يستحي من أن تنكَشِفَ عوراتُه فيطَّلِعَ عليها النَّاسُ.
فهذه مريمُ عليها السَّلامُ تتمنَّى الموتَ من فَرطِ حيائِها من النَّاسِ؛ قال تعالى:
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا [مريم: 22-23] .
قال الثَّعالبيُّ: (فلمَّا أحسَّت بذلك وخافت تعنيفَ النَّاسِ، وأن يُظَنَّ بها الشَّرُّ انتبَذَت، أي: تنَحَّت مكانًا بعيدًا؛ حَياءً وفِرارًا على وَجهِها)
[3920] ((الجواهر الحسان في تفسير القرآن)) (4/ 12). .
فمريمُ (تمنَّت أنْ لو كانت ماتت قبلَ هذا الوقتِ الذي لَقِيَت فيه ما لَقِيَت؛ حَياءً من النَّاسِ وخوفًا من لائمَتِهم، أو كانت شيئًا لا يُعتَدُّ به ولا يخطُرُ ببالِ أحدٍ من النَّاسِ)
[3921] ((تفسير المراغي)) (16/44). .
- الحَياءُ من النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهذا الحَياءُ يتحقَّقُ باتِّباعِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالفِعلِ، وليس بمجَرَّدِ القولِ.
قال بعضُ السَّلَفِ: (ادَّعى قومٌ محبَّةَ اللهِ، فأنزل اللهُ آيةَ المحبَّةِ
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُوِني [آل عمران:31] )
[3922] ((المواهب اللدنية)) للقسطلاني (2/583). .
-حَياءُ المرأةِ، وذلك بالتِزامِها بالهيئةِ التي تصونُها عن أن يتعَرَّضَ لها أحدٌ بأذًى، فالمرأةُ المُسلِمةُ ملتَزِمةٌ بالحِجابِ الشَّرعيِّ الذي فرَضَه اللهُ سُبحانَه عليها.
-حَياءُ الفقيرِ والمحتاجِ من سُؤالِ النَّاسِ مع حاجتِه وفاقتِه؛ لتعفُّفِه وصَونِ نَفسِه عن السُّؤالِ
قال تعالى:
وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ للسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات: 19].
قال النَّيسابوريُّ: (المحرومُ: الذي لا يَسألُ حَياءً)
[3923] ((إيجاز البيان عن معاني القرآن)) للنيسابوري (2/765). .
ولذلك كان من كمالِ الكَرَمِ والسَّخاءِ تحَرِّي الفقيرِ المتعَفِّفِ الذي لا يسأَلُ النَّاسَ؛ لشِدَّةِ الحَياءِ.
-حَياءُ المرأةِ إذا تقدَّم إليها من يخطُبُها، لا سيَّما إن كانت بِكرًا، فهي تستحي من الإفصاحِ عن رغبتِها في النِّكاحِ.
عن
عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّها قالت:
((يا رسولَ اللهِ، إنَّ البِكرَ تَستحي؟ قال: رِضاها صَمْتُها)) [3924] أخرجه البخاري (5137) واللفظ له، ومسلم (1420) بمعناه .
- الحَياءُ في الكلامِ: (فالحَياءُ في الكلامِ يتطَلَّبُ من المسلِمِ أن يُطَهِّرَ فمَه من الفُحشِ، وأن يُنَزِّهَ لسانَه عن العَيبِ، وأن يخجَلَ من ذِكرِ العَوراتِ، فإنَّ من سوءِ الأدَبِ أن تُفلِتَ الألفاظُ البذيئةُ من المرءِ غيرَ عابئٍ بمواقِعِها وآثارِها...، ومن الحَياءِ في الكلامِ أن يقتَصِدَ المسلِمُ في تحدُّثِه بالمجالِسِ)
[3925] ((خلق المسلم)) لمحمد الغزالي (ص: 151). .
- من صُوَرِ الحَياءِ أن يخجَلَ الإنسانُ من أن يُؤثَرَ عنه سوءٌ، وأن يحرِصَ على بقاءِ سُمعتِه نقيَّةً من الشَّوائِبِ، بعيدةً عن الإشاعاتِ السَّيِّئةِ
[3926] ((خلق المسلم)) لمحمد الغزالي (ص: 152). .
- من مظاهِرِ وصُوَرِ الحَياءِ المذمومِ:- الحَياءُ في طَلَبِ العِلمِ:إذا تعَلَّقَ الحَياءُ بأمرٍ دينيٍّ، يمنَعُ الحَياءُ من السُّؤالِ فيه أو عَرْضِه في تعليمٍ أو دعوةٍ، فإنَّ ممَّا ينبغي حينَها رَفْعَ الحَرَجِ، ومدافَعةَ هذا الحَياءِ الذي يمنَعُ من التَّحصيلِ العِلميِّ أو الدَّعوةِ إلى اللهِ، سواءٌ عندَ الرِّجالِ أو النِّساءِ
[3927] يُنظَر ((المرأة المسلمة المعاصرة.. إعدادها ومسؤوليتها في الدعوة)) لأحمد بن محمد أبا بطين (ص: 388-389). .
فقد ورَد أنَّ أمَّ سُلَيمٍ رَضِيَ اللهُ عنها
((جاءت إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالت: يا رسولَ اللهِ، إنَّ اللهَ لا يستحْيي من الحَقِّ، فهل على المرأةِ من غُسلٍ إذا احتَلَمَت؟ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إذا رأت الماءَ. فغَطَّت أمُّ سَلَمةَ -تعني وَجْهَها- وقالت: يا رسولَ اللهِ، وتحتَلِمُ المرأةُ؟! قال: نعَمْ، تَرِبَت يمينُكِ [3928] أي: افتَقَرت، هذا أصلُها، ولكِنَّ العَرَب اعتادت استعمالَ هذه الكلمةِ ونحوِها من الألفاظِ غيرَ قاصدةٍ حقيقةَ معناها الأصليِّ، يقولونها عند إنكارِ الشَّيء أو الزَّجرِ عنه أو الذَّمِّ عليه، أو استعظامِه، أو الحَثِّ عليه، أو الإعجابِ به. واللهُ أعلم. يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (3/ 221). ، فبِمَ يُشبِهُها ولَدُها!)) [3929] رواه البخاري (130) واللفظ له، ومسلم (313). .
وقالت
عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنها: (نِعْمَ النِّساءُ نِساءُ الأنصارِ، لم يكُنْ يَمنَعُهنَّ الحَياءُ أن يتفَقَّهْنَ في الدِّينِ)
[3930] أخرجه مسلم (332). وأخرجه البخاري معلَّقًا قبل حديث (130). .
وعن مجاهِدٍ قال: (إنَّ هذا العِلمَ لا يتعَلَّمُه مُستحٍ ولا مُتكَبِّرٌ)
[3931] ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (3/287). .
وعن أبي بُردةَ: عن أبي موسى قال:
((... استأذنتُ على عائشةَ فأُذِنَ لي، فقُلتُ لها: يا أُمَّاه -أو يا أُمَّ المُؤمِنين-: إني أريدُ أن أسألَكِ عن شيءٍ، وإنِّي أستَحْيِيكِ. فقالت: لا تستحْيِي أن تسألَني عمَّا كنتَ سائِلًا عنه أمَّك التي ولدَتْك؛ فإنَّما أنا أمُّكَ. قُلتُ: فما يُوجِبُ الغُسلَ؟ قالت: على الخَبيرِ سَقَطْتَ، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إذا جَلَس بَينَ شُعَبِها الأربَعِ [3932] قيل: أي: بَيْنَ يَدَيِ المرأةِ ورِجليها، وقيل غيرُ ذلك. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن رجب (1/371). ، ومَسَّ الخِتانُ الختانَ فقد وجَب الغُسلُ)) [3933] رواه مسلم (349). .
- الحَياءُ من الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المنكَرِ:الحَياءُ لا يمنَعُ المُسلِمَ من أن يأمُرَ بالمعروفِ أو ينهى عن المنكَرِ؛ قال تعالى:
وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ [الأحزاب: 53] .
بل الأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عن المنكَرِ سِمةٌ من سماتِ هذه الأمَّةِ، كما قال عزَّ وجَلَّ:
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110] .
والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مع شِدَّةِ حيائِه لم يَثْنِه ذلك عن قولِ الحَقِّ، ويتبيَّنُ ذلك في موقِفِه مع أسامةَ بنِ زيدٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، حينما أراد أن يشفَعَ في حدٍّ من الحدودِ، فلم يمنَعْه حياؤه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من أن يقولَ لأسامةَ في غَضَبٍ:
((أتشفَعُ في حَدٍّ من حُدودِ اللهِ؟! ثمَّ قام فاختَطَب، ثمَّ قال: إنَّما أهلَك الذين قبَلْكَم أنَّهم كانوا إذا سَرَق فيهم الشَّريفُ تركوه، وإذا سَرَق فيهم الضَّعيفُ أقاموا عليه الحَدَّ، وايمُ اللهِ لو أنَّ فاطمةَ بنتَ محمَّدٍ سرَقَت لقطَعْتُ يَدَها)) [3934] رواه البخاري (3475) واللفظ له، ومسلم (1688) من حديثِ عائشة رَضِيَ اللهُ عنه. .
- وعن أبي سعيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ اللهَ تبارك وتعالى ليسأَلُ العبدَ يومَ القيامةِ حتى يقولَ: ما منَعَك إذ رأيتَ المُنكَرَ تُنكِرُه، فإذا لقَّى اللهُ عبدًا حُجَّتَه قال: يا رَبِّ وَثِقتُ بك، وفَرِقْتُ [3935] وفَرِقْتُ، أي: خِفْتُ. يُنظَر: ((التنوير شرح الجامع الصغير)) للصنعاني (3/ 343). من النَّاسِ)) [3936] أخرجه ابن ماجه (4017)، وأحمد (11245) واللفظ له. صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (7368)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (4017)، وحسَّنه ابنُ حجر في ((الأمالي المطلقة)) (167)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (403). .
- فِعلُ أمرٍ نهى عنه الشَّارعُ:فمَن دفَعه حياؤه إلى فِعلِ أمرٍ نهى عنه الشَّارعُ، أو إلى تَركِ واجِبٍ مرغوبٍ في الدِّينِ، فليس حيِيًّا شرعًا، وإنَّما هذا يُعَدُّ ضَعفًا ومهانةً.
فليس من الحَياءِ أن يترُكَ الصَّلاةَ الواجبةَ بسَبَبِ ضُيوفٍ عِندَه حتى تفوتَه الصَّلاةُ، وليس من الحَياءِ أن يمتَنعَ الشَّخصُ من المطالبةِ بالحقوقِ التي كفَلَها له الشَّرعُ
[3937] يُنظَر ((الأخلاق الإسلامية)) لحسن السعيد (ص: 155). .