أ- نَماذِجُ مِنَ الصَّبرِ عِندَ الأنبياءِ والمُرسَلينَ والأُمَمِ السَّابقةِ
الصَّبرُ صِفةُ الأنبياءِ والمُرسَلينَ؛ قال اللهُ تعالى:
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا [الأنعام: 34] ، وقال تعالى:
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ [الأنبياء: 85] .
صَبرُ أولي العَزمِ مِنَ الرُّسُلِ على مَشاقِّ الدَّعوةِ إلى اللهِ:صَبَرَ أولو العَزمِ مِنَ الرُّسُلِ على مَشاقِّ الدَّعوةِ إلى اللهِ، فأبلَوا بَلاءً حَسَنًا:
صَبَرَ نوحٌ عليه السَّلامُ وقَضى ألفَ سَنةٍ إلَّا خَمسينَ عامًا كُلُّها دَعوةٌ، وصَبر إبراهيمُ عليه السَّلامُ على كُلِّ ما نَزَل به، فجُمِعَ له الحَطَبُ الكثيرُ، وأوقِدَت فيه النَّارُ العَظيمةُ، فأُلقيَ فيها، فكانت بَردًا وسَلامًا. وموسى عليه السَّلامُ يصبرُ على أذى فِرعَونَ وجَبَروتِه وطُغيانِه. ويصبرُ عيسى عليه السَّلامُ على تَكذيبِ بَني إسرائيلَ له، ورَفضِ دَعوتِه، ويصبِرُ على كيدِهم ومَكرِهم حتَّى أرادوا أن يقتُلوه ويصلُبوه، إلَّا أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى نَجَّاه مِن شَرِّهم. وأمَّا نَبيُّنا مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فما أكثَرَ ما لاقاه في سَبيلِ نَشرِ هذا الدِّينِ، فصَبَر صَلواتُ رَبِّي وسَلامُه عليه.
قال تعالى آمِرًا نَبيَّه مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالصَّبرِ:
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35] .
قال
السَّعديُّ: (أمَرَ تعالى رَسولَه أن يصبرَ على أذيَّةِ المُكذِّبينَ المُعادينَ له، وألَّا يزالَ داعيًا لهم إلى اللهِ، وأن يقتَديَ بصَبرِ أُولي العَزمِ مِنَ المُرسَلينَ ساداتِ الخَلقِ أُولي العَزائِمِ والهمَمِ العاليةِ، الذين عَظُمَ صَبرُهم، وتَمَّ يقينُهم، فهم أحَقُّ الخَلقِ بالأُسوةِ بهم، والقَفوِ لآثارِهم، والاهتِداءِ بمَنارِهم)
[5627] ((تيسير الكريم الرحمن)) (783). .
أيُّوبُ عليه السَّلامُ وصَبرُه على البَلاءِ:كان نَبيُّ اللهِ أيُّوبُ عليه السَّلامُ غايةً في الصَّبرِ، وبه يُضرَبُ المَثَلُ في ذلك؛ قال تعالى:
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء: 83-84] .
(يذكُرُ تعالى عن أيُّوبَ عليه السَّلامُ ما كان أصابَه مِنَ البَلاءِ في مالِه وولدِه وجَسَدِه، وذلك أنَّه كان له مِنَ الدَّوابِّ والأنعامِ والحَرثِ شَيءٌ كثيرٌ، وأولادٌ كثيرٌ، ومَنازِلُ مَرضيَّةٌ. فابتُلِيَ في ذلك كُلِّه، وذَهَبَ عن آخِرِه، ثُمَّ ابتُلي في جَسَدِه -يُقال بالجُذامِ في سائِر بَدَنِه- ولم يبقَ مِنه سَليمٌ سِوى قَلبِه ولسانِه، يذكُرُ بهما اللهَ عَزَّ وجَل، حتَّى عافه الجَليسُ، وأُفرِدَ في ناحيةٍ مِنَ البَلدِ، ولم يبقَ مِنَ النَّاسِ أحَدٌ يحنو عليه سِوى زَوجَتِه، كانت تَقومُ بأمرِه)
[5628] ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (5/359). .
نَبيُّ اللهِ إبراهيمُ وابنُه إسماعيلُ عليهما السَّلامُ وصَبرُهما على طاعةِ اللهِ:رَأى نَبيُّ اللهِ إبراهيمُ عليه السَّلامُ في المَنامِ أنَّه يذبَحُ ولدَه إسماعيلَ، ورُؤيا الأنبياءِ وحيٌ، فأخبَرَ ابنَه بذلك، وعَرَضَ عليه الأمرَ. قال اللهُ تعالى حِكايةً عن إبراهيمَ:
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات: 102] .
(قال إسماعيلُ صابرًا مُحتَسِبًا، مُرضيًا لرَبِّه، وبارًّا بوالدِه:
قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ أي: امضِ لما أمَرَك اللهُ
سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ أخبَرَ أباه أنَّه موطِّنٌ نَفسَه على الصَّبرِ، وقَرَنَ ذلك بمَشيئةِ اللهِ تعالى؛ لأنَّه لا يكونُ شَيءٌ بدونِ مَشيئةِ اللهِ تعالى.
فَلَمَّا أَسْلَمَا [الصافات: 103] أي: إبراهيمُ وابنُه إسماعيلُ، جازِمًا بقَتلِ ابنِه وثَمَرةِ فُؤادِه؛ امتِثالًا لأمرِ رَبِّه، وخَوفًا مِن عِقابِه، والابنُ قد وطَّنَ نَفسَه على الصَّبرِ، وهانَت عليه في طاعةِ رَبِّه، ورِضا والدِه،
وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات: 103] أي: تَلَّ إبراهيمُ إسماعيلَ على جَبينِه، ليُضجِعَه فيذبَحَه، وقد انكبَّ لوجهِه؛ لئَلَّا ينظُرَ وقتَ الذَّبحِ إلى وجهِه.
وَنَادَيْنَاهُ [الصافات: 104] في تلك الحالِ المُزعِجةِ، والأمرِ المُدهشِ:
أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ [الصافات: 104-105] أي: قد فعَلتَ ما أُمِرتَ به؛ فإنَّك وطَّنتَ نَفسَك على ذلك، وفعَلتَ كُلَّ سَبَبٍ، ولم يَبقَ إلَّا إمرارُ السِّكِّينِ على حَلقِه
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات: 105] في عِبادَتِنا، المُقدِّمينَ رِضانا على شَهَواتِ أنفُسِهم)
[5629] ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (705). .
صَبرُ يعقوبَ عليه السَّلامُ على فِقدانِ يوسُفَ عليه السَّلامُ:لمَّا ذَهَبَ إخوةُ يوسُفَ عليه السَّلامُ به وألقَوه في جَوفِ البئرِ ثُمَّ جاؤوا إلى أبيهم في وقتِ العَشاءِ يبكونَ، ويُظهرونَ الأسَف والجَزَعَ، ويزعُمونَ أنَّ الذِّئبَ أكلَه، فما كان مِن يعقوبَ عليه السَّلامُ -مَعَ شِدَّةِ مَحَبَّتِه ليوسُفَ عليه السَّلامُ- إلَّا أن استَسلمَ لأمرِ اللهِ وصَبَرَ، وقال:
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف: 18] ، ففيه ما ينبَغي استِعمالُه عِندَ المَصائِب، وهو الصَّبرُ الجَميلُ، والاستِعانةُ باللهِ
[5630] يُنظَر: ((مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب - تفسير آيات من القرآن الكريم)) (5/133). .
صَبرُ موسى عليه السَّلامُ:عن
عبدِ اللهِ بن مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: لَمَّا كان يومُ حُنَينٍ آثَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أناسًا في القِسمةِ، فأعطى الأقرَعَ بنَ حابِسٍ مائةً من الإبِلِ، وأعطى عُيَينةَ مِثلَ ذلك، وأعطى أناسًا من أشرافِ العَرَبِ فآثَرَهم يومَئذٍ في القِسمةِ، قال رجُلٌ: واللهِ إنَّ هذه القِسمةَ ما عُدِل فيها، وما أُريدَ بها وَجهُ اللهِ! فقلتُ: واللهِ لأخبِرَنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأتيتُه فأخبَرْتُه، فقال:
((فمَن يَعدِلُ إذا لم يَعدِلِ اللهُ ورسولُه؟! رَحِمَ اللهُ موسى قد أوذِيَ بأكثَرَ من هذا فصَبَر!)) [5631] رواه البخاري (3150)، ومسلم (1062) واللفظ له. .
نَماذِجُ مِنَ الصَّبرِ عِندَ الأُمَمِ السَّابقةِ:عن صُهَيبٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال في قِصَّةِ الغُلامِ والرَّاهِبِ والسَّاحِرِ:
((... فقال أي الغُلامُ للمَلِكِ: إنَّك لستَ بقاتِلي حتى تفعَلَ ما آمُرُك به. قال: وما هو؟ قال: تجمَعُ النَّاسَ في صَعيدٍ واحدٍ، وتَصلُبُني على جِذعٍ، ثمَّ خُذْ سَهمًا مِن كِنانتي، ثمَّ ضَعِ السَّهمَ في كَبِدِ القوسِ، ثمَّ قُلْ: باسمِ اللهِ ربِّ الغُلامِ، ثمَّ ارْمِني؛ فإنَّك إذا فعَلْتَ ذلك قتَلْتَني. فجَمَع النَّاسَ في صعيدٍ واحدٍ، وصَلَبه على جِذعٍ، ثمَّ أخَذَ سَهمًا من كِنانتِه، ثمَّ وَضَع السَّهمَ في كَبِدِ القوسِ، ثمَّ قال: باسمِ اللهِ ربِّ الغلامِ، ثمَّ رماه، فوقَع السَّهمُ في صُدْغِه، فوَضَع يَدَه في صُدْغِه في مَوضِعِ السَّهمِ، فمات. فقال النَّاسُ: آمنَّا بربِّ الغلامِ، آمنَّا بربِّ الغلامِ، آمنَّا بربِّ الغلامِ! فأُتِيَ المَلِكُ، فقيل له: أرأيتَ ما كُنتَ تَحْذَرُ؟ قد -واللهِ- نَزَل بك حذَرُك، قد آمن النَّاسُ! فأمر بالأُخْدودِ في أفواهِ السِّكَكِ، فخُدَّتْ، وأضرمَ النِّيرانَ. وقال: مَن لم يرجِعْ عن دينِه فأَحْمُوه فيها، أو قيل له: اقتَحِمْ. ففَعَلوا، حتَّى جاءت امرأةٌ ومعها صبيٌّ لها، فتقاعَسَت أن تقَعَ فيها، فقال لها الغُلامُ: يا أمَّهْ اصْبِري؛ فإنَّك على الحقِّ)) [5632] رواه مسلم (3005). .