سادِسًا: مَظاهرُ وصُوَرُ العَدلِ والإنصافِ
العَدلُ له صُوَرٌ كثيرةٌ تَدخُلُ في جَميعِ مَناحي الحَياةِ، نَقتَصِرُ على ذِكرِ أهَمِّها؛ فمنها:
1- عَدلُ الإمامِ أوِ الحاكِمِ:وسَواءٌ كانت وِلايتُه وِلايةً خاصَّةً أو عامَّةً يجِبُ عليه أن يعدِلَ بَينَ الرَّعيَّةِ، وأن يستَعينَ بأهلِ العَدلِ.
قال
ابنُ تيميَّةَ بَعدَ أن ذَكرَ عُمومَ الوِلاياتِ وخُصوصَها، كوِلايةِ القَضاءِ، ووِلايةِ الحَربِ، والحِسبةِ، ووِلايةِ المالِ، قال: (وجَميعُ هذه الوِلاياتِ هي في الأصلِ وِلايةٌ شَرعيَّةٌ ومَناصِبُ دينيَّةٌ، فأيُّ مَن عَدلَ في وِلايةٍ مِن هذه الوِلاياتِ فساسَها بعِلمٍ وعَدلٍ، وأطاعَ اللهَ ورَسولَه بحَسَبِ الإمكانِ فهو مِنَ الأبرارِ الصَّالحينَ، وأيُّ مَن ظَلَم وعَمِل فيها بجَهلٍ فهو مِنَ الفُجَّارِ الظَّالمينَ)
[6252] ((مجموع الفتاوى)) (28/68). .
وقال أيضًا: (يجِبُ على كُلِّ وليِّ أمرٍ أن يستَعينَ بأهلِ الصِّدقِ والعَدلِ، وإذا تَعَذَّرَ ذلك استَعانَ بالأمثَلِ فالأمثَلِ)
[6253] ((مجموع الفتاوى)) (28/68). .
فمِن مَظاهرِ عَدلِ الحاكِمِ وإنصافِه: الإنصافُ في اختيارِ بطانتِه ومُستَشاريه.
ومنها مُتابَعةُ عُمَّالِه ومُحاسبتُهم، وأن يكونَ أمينًا على مَصلحةِ رَعيَّتِه يسوسُهم بالعَدلِ ويقومُ فيهم بالقِسطِ.
2- العَدلُ في الحُكمِ بَينَ النَّاسِ:سَواءٌ كان قاضيًا أو صاحِبَ مَنصِبٍ، أو كان مُصلِحًا بَينَ النَّاسِ، وذلك بإعطاءِ كُلِّ ذي حَقٍّ حَقَّه؛ قال تعالى:
وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء: 58] .
وعنِ ابنِ بُرَيدةَ، عن أبيه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((القُضاةُ ثَلاثةٌ: قاضيانِ في النَّارِ، وقاضٍ في الجَنَّةِ: رَجُلٌ قَضى بغَيرِ الحَقِّ فعَلِم ذاك فذاك في النَّارِ، وقاضٍ لا يَعلمُ فأهلَكَ حُقوقَ النَّاسِ فهو في النَّارِ، وقاضٍ قَضى بالحَقِّ فذلك في الجَنَّةِ)) [6254] أخرجه من طرق: أبو داود (3573)، والترمذي (1322) واللفظ له، وابن ماجه (2315). صَّححه الطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (9/209)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/552)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1322)، وشعيب الأرناؤوط بطرقه وشواهده في تخريج ((سنن أبي داود)) (3573). .
ولكي يتَحَقَّقَ العَدلُ لا بُدَّ مِنَ التَّسويةِ بَينَ الخَصمَينِ، وعَدَمِ القَضاءِ في حالِ الغَضَبِ، وألَّا تُسمَعَ حُجَّةُ أحَدِهما دونَ الآخَرِ.
3- العَدلُ مَعَ الزَّوجةِ أو بَينَ الزَّوجاتِ:بأن يُعامِلَ الزَّوجُ زَوجتَه بالعَدلِ، سَواءٌ في النَّفقةِ والسُّكنى والمَبيتِ، وإن كُنَّ أكثَرَ مِن واحِدةٍ فإنَّه يُسَوِّي بَينَهنَّ في ذلك.
قال تعالى:
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا [النساء: 3] .
ويُستَثنى مِن ذلك العَدلُ في المَحَبَّةِ والمَيلِ القَلبيِّ، قال تعالى:
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء: 129] .
قال ابنُ بَطَّالٍ: (قَولُه:
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ، أي: لن تُطيقوا أيُّها الرِّجالُ أن تُسَوُّوا بَينَ نِسائِكم في حُبِّهنَّ بقُلوبِكم حتَّى تَعدِلوا بَينَهنَّ في ذلك؛ لأنَّ ذلك مِمَّا لا تَملكونَه،
وَلَوْ حَرَصْتُمْ يعني: ولو حَرَصتُم في تسويتِكم بَينَهنَّ في ذلك. قال
ابنُ عَبَّاس: لا تَستَطيعُ أن تَعدِلَ بالشَّهوةِ فيما بَينَهنَّ ولو حَرَصتَ. قال ابنُ المُنذِرِ: ودلَّت هذه الآيةُ أنَّ التَّسويةَ بَينَهنَّ في المَحَبَّةِ غَيرُ واجِبةٍ)
[6255] ((شرح صحيح البخاري)) (7/336). ويُنظَر: ((فقه الأسرة)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية (ص: 826). .
4- العَدلُ بَينَ الأبناءِ:قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((فاتَّقوا اللهَ واعدِلوا بَينَ أولادِكم)) [6256] رواه مطولًا البخاري (2587) واللفظ له، ومسلم (1623) من حديث النُّعمانِ بنِ بشيرٍ رضي الله عنه. ، ويكونُ العَدلُ بَينَ الأولادِ في العَطيَّةِ
[6257] تنبيه: في حالةِ النَّفقةِ الواجبةِ يعطي الوالِدُ كُلَّ واحدٍ من الأولادِ ما يحتاجُه؛ فلو احتاج أحدُ أبنائه إلى الزَّواجِ زوَّجه ودفع له المهرَ؛ لأنَّ الابنَ لا يستطيعُ دفعَ المهرِ، ولا يلزم أن يعطيَ الآخرينَ مثلَ ما أعطى لهذا الذي احتاج إلى الزَّواجِ؛ لأن التَّزويجَ من النَّفَقةِ، كذلك النَّفقةُ على الدِّراسةِ، إلى غيرِ ذلك. يُنظَر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (11/80). ، والهبةِ، والوقفِ، والتَّسويةُ بَينَهم حتَّى في القُبَلِ؛ فعن
إبراهيمَ النَّخعيِّ قال: (كانوا يستَحِبُّونَ أن يعدِلَ الرَّجُلُ بَينَ ولَدِه حتَّى في القُبَلِ)
[6258] رواه ابن أبي شيبة (31642). .
5- الشَّهادةُ بالعَدلِ والحَقِّ:أمرَ اللهُ سُبحانَه عِبادَه بألَّا ينطِقوا إلَّا بالحَقِّ، ولا يقولوا إلَّا الصِّدقَ، ولو كان ذلك في الأهلِ والوَلَدِ والأقرَبينَ، قال تعالى:
وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأنعام: 152] .
وقال سُبحانَه:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [النساء: 135] .
6- العَدلُ في الكَيلِ والميزانِ وجَميعِ المُعامَلاتِ:قال تعالى:
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ [الأنعام: 152] (يأمُرُ تعالى بإقامةِ العَدلِ في الأخذِ والإعطاءِ، كما تَوعَّدَ على تَركِه في قَولِه تعالى:
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين: 1 -6] ، وقد أهلك اللهُ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ كانوا يبخَسونَ المِكيالَ والميزانَ)
[6259] ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (3/364). .
وأيضًا العَدلُ في جَميعِ المُعامَلاتِ بإعطاءِ كُلِّ ذي حَقٍّ حَقَّه، وتَركُ الظُّلمِ والجَورِ وأكلِ أموالِ النَّاسِ بالباطِلِ.
7- العَدلُ مَعَ الأعداءِ وفي حالِ البُغضِ:قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة: 8] .
(وفي كونِ العَدلِ مَعَ الأعداءِ الذين نُبغِضُهم أقرَبَ للتَّقوى احتِمالانِ:
الأوَّلُ: أن يكونَ أقرَبَ إلى كمالِ التَّقوى؛ وذلك لأنَّ كمالَ التَّقوى يتَطَلَّبُ أُمورًا كثيرةً، منها هذا العَدلُ، والأخذُ بكُلِّ واحِدٍ مِن هذه الأُمورِ يُقَرِّبُ مِن مِنطَقةِ التَّقوى الكامِلةِ.
الثَّاني: أن يكونَ أقرَبَ إلى أصلِ التَّقوى فِعلًا مِن تَركِ العَدلِ مَعَ الأعداءِ، مُلاحِظينَ في ذلك مصلحةَ الإسلامِ وجَماعةِ المُسلمينَ؛ وذلك لأنَّه قد يَشتَبِهُ على وليِّ الأمرِ مِنَ المُسلمينَ في قَضيَّةٍ مِنَ القَضايا المُتَعَلِّقةِ بعَدوٍّ مِن أعدائِهم: هَل التِزامُ سَبيلِ العَدلِ مَعَه أرضى للهِ، أو ظُلمُه هو أرضى للهِ باعتِبارِه مُعاديًا لدينِ اللهِ؟ وأمامَ هذا الاشتِباه يُعطي اللهُ مَنهَجَ الحَلِّ، فيقولُ:
اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة: 8] ، أي: مَهما لاحَظتُم أنَّ ظُلمَه لا يتَنافى مَعَ التَّقوى، فالعَدلُ مَعَه أقرَبُ للتَّقوى.
ولا يخفى أنَّ مِن ثَمَراتِ هذا العَدلِ تَرغيبَ أعداءِ الإسلامِ بالدُّخولِ فيه، والإيمانَ بأنَّه هو الدِّينُ الحَقُّ، وكم مِن حادِثةِ عَدلٍ حَكَم فيها قاضي المُسلمينَ لغَيرِ المُسلمِ على المُسلمِ اتِّباعًا للحَقِّ، فكانتِ السَّبَبَ في تَحبيبِه بالإسلامِ ثُمَّ في إسلامِه)
[6260] ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن حبنكة الميداني (1/581). .
8- إنصافُ المُعَلِّمِ ومُقرِئِ القُرآنِ: (إذا كان يتَلقَّنُ عليه الصَّغيرُ والكبيرُ والحَدَثُ، والغَنيُّ والفقيرُ، فينبَغي له أن يوفِّيَ كُلَّ ذي حَقٍّ حَقَّه، ويعتَقِدَ الإنصافَ إن كان يُريدُ اللهَ بتَلقينِه القُرآنَ: فلا ينبَغي له أن يُقَرِّبَ الغَنيَّ ويُبعِدَ الفقيرَ، ولا ينبَغي له أن يرفُقَ بالغَنيِّ ويَخرِقَ بالفقيرِ، فإن فَعَل هذا فقدَ جارَ في فِعله، فحُكمُه أن يَعدِلَ بَينَهما، ثُمَّ ينبَغي له أن يَحذَرَ على نَفسِه التَّواضُعَ للغَنيِّ والتَّكبُّرَ على الفقيرِ، بل يكونُ مُتَواضِعًا للفقيرِ، مُقَرِّبًا لمَجلسِه مُتَعَطِّفًا عليه، يتَحَبَّبُ إلى اللهِ بذلك)
[6261] ((أخلاق أهل القرآن)) للآجري (ص: 111). .