سابعًا: مظاهِرُ وصُوَرُ النَّزاهةِ
1- التَّنزُّهُ عن المالِ المشبوهِ:عن
عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: (كان ل
أبي بَكرٍ غلامٌ يخرِجُ له الخَراجَ، وكان
أبو بكرٍ يأكُلُ من خراجِه، فجاء يومًا بشيءٍ، فأكَل منه
أبو بكرٍ، فقال له الغلامُ: تدري ما هذا؟ فقال
أبو بكرٍ: وما هو؟ قال: كنتُ تكَهَّنْتُ
[8882] تكهَّنْتُ من الكِهانةِ، وهو إخبارٌ عمَّا سيكونُ من غيرِ دليلٍ شرعيٍّ. يُنظَر: ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) للعيني (16/ 295). لإنسانٍ في الجاهليَّةِ، وما أُحسِنُ الكِهانةَ إلَّا أني خدَعْتُه، فلَقِيَني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكَلْتَ منه! فأدخل
أبو بكرٍ يَدَه، فقاء كُلَّ شيءٍ في بطنِه)
[8883] رواه البخاري (3842). .
2- التَّنزُّهُ عن مواقِفِ الرِّيبةِ:وقد تقدَّم أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عندما أتَتْه
صفيَّةُ تزورُه في المسجِدِ وهو معتَكِفٌ، ثمَّ خرج ليوصِلَها، فرآه رجلانِ من الأنصارِ، فسَلَّما عليه، فقال لهما النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((على رِسْلِكما، إنَّما هي صفيَّةُ بنتُ حُيَيٍّ)) [8884] رواه مطوَّلًا البخاري (2035) واللفظ له، ومسلم (2175). ؛ خوفًا من أن يقذِفَ الشَّيطانُ في قلبَيهما شيئًا فيَهلِكا.
3- التَّنزُّهُ عن أشياءَ من الحلالِ مخافةَ الوقوعِ في الحرامِ:(عن أبي يزيدَ الفيضِ، قال: سألتُ موسى بنَ أعيَنَ عن قَولِ اللهِ تعالى:
إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27] ، قال: تنَزَّهوا عن أشياءَ من الحلالِ؛ مخافةَ أن يَقَعوا في الحرامِ، فسَمَّاهم متَّقين)
[8885] ((الورع)) لابن أبي الدنيا (ص: 59). .
4- التَّنزُّهُ عن ذَمِّ النَّاسِ وفُحشِ القَولِ:قال
الماوَرْديُّ: (النَّزاهةُ عن الذَّمِّ كَرَمٌ، والتَّجاوُزُ في المدحِ مَلَقٌ
[8886] المَلَقُ: أن تعطيَ باللِّسانِ ما ليس في القَلبِ. يُنظَر: ((تاج العروس)) للزبيدي (26/ 403). يصدُرُ عن مهانةٍ. والسَّرَفُ في الذَّمِّ انتقامٌ يَصدُرُ عن شَرٍّ، وكلاهما شَينٌ، وإن سَلِم من الكَذِب)
[8887] ((أدب الدنيا والدين)) (ص: 282). .
قال الشَّاعِرُ:
نزَّهْتُ لفظي عن فُحشٍ وقُلتُ هم
عَرَبٌ وفي حَيِّهم يا غُربةَ الذِّمَمِ
[8888] ((خزانة الأدب وغاية الأرب)) للحموي (1/ 172). 5- النَّزاهةُ في القضاءِ بَيْنَ النَّاسِ بإقامةِ العَدلِ في الأحكامِ، وعدَمِ المَيلِ لطَرَفٍ على حسابِ آخَرَ لمصلحةٍ دُنيويَّةٍ أو قرابةٍ، أو بُغضٍ لأحَدِ المتحاكِمَينِ، إلى غيرِ ذلك.
قال تعالى:
وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة: 8] .
(والعدالةُ تقتضي الأمانةَ والنَّزاهةَ والإخلاصَ)
[8889] ((علم الأخلاق الإسلامية)) لمقداد يالجن (ص: 116). .
وعن
عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها
((أنَّ قُرَيشًا أهَمَّهم شَأنُ المَرأةِ المَخْزوميَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقالوا: ومنْ يُكَلِّمُ فيها رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فقالوا: ومَن يَجْتَرِئُ عليه إلَّا أسامةُ بْنُ زَيدٍ؛ حِبُّ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فكَلَّمَه أسامةُ، فقالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أتَشفَعُ في حَدٍّ مِن حُدودِ اللهِ؟! ثُمَّ قامَ فاختَطَبَ، ثُمَّ قالَ: إنَّما أهلَكَ الذين قبلَكم أنَّهم كانوا إذا سرَقَ فيهم الشَّريفُ تَرَكوه، وإذا سَرَقَ فيهم الضَّعيفُ أقاموا عليه الحَدَّ، وايْمُ اللهِ لو أنَّ فاطِمةَ بِنتَ مُحمَّدٍ سَرَقَت لَقطَعتُ يَدَها)) [8890] أخرجه البخاري (3475)، ومسلم (1688). .
6- النَّزاهةُ في الوظيفةِ، فمن تولَّى منصِبًا من المناصِبِ لم يَجُزْ له قَبولُ الهَدِيَّةِ إن كانت من أجلِ ذلك المنصِبِ، عن أبي حُمَيدٍ السَّاعِديِّ قال:
((استَعملَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رَجُلًا على صَدَقاتِ بَني سُلَيمٍ يُدعى ابنَ اللُّتَبيَّةِ، فلمَّا جاءَ حاسَبَه، قال: هذا مالُكم وهذا هَدِيَّةٌ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: فهَلَّا جَلَستَ في بَيتِ أبيك وأُمِّك حتَّى تأتيَك هَدِيَّتُك إن كُنتَ صادِقًا! ثُمَّ خَطَبَنا فحَمِدَ اللهَ وأثنى عليه، ثُمَّ قال: أمَّا بَعدُ؛ فإنِّي أستَعمِلُ الرَّجُلَ منكم على العَمَلِ ممَّا ولَّاني اللهُ، فيَأتي فيَقولُ: هذا مالُكم وهذا هَديَّةٌ أُهدِيَت لي، أفلا جَلَسَ في بَيتِ أبيه وأُمِّه حتَّى تَأتيَه هَدِيَّتُه؟! واللهِ لا يَأخُذُ أحَدٌ منكم شَيئًا بغيرِ حَقِّه إلَّا لَقِيَ اللهَ يَحمِلُه يَومَ القِيامةِ، فلَأَعرِفَنَّ أحَدًا منكم لَقِيَ اللهَ يَحمِلُ بَعيرًا له رُغاءٌ [8891] الرُّغاءُ: صَوتُ الإبِلِ. يُنظَر: ((الكاشف عن حقائق السنن)) للطيبي (5/ 1478). ، أو بقَرةً لها خُوارٌ [8892] الخُوارُ: صوتُ البقَرِ. يُنظَر: ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) للقاري (4/ 1270(. ، أو شاةٌ تَيعَرُ [8893] تَيعَرُ: أي: تصيحُ ليَعلَمَ أهلُ العَرَصاتِ، فيكونَ أشهَرَ في فضيحتِه. يُنظَر: ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) للقاري (4/ 1270(. ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيه حتَّى رُئِيَ بَياضُ إبْطَيه، يقولُ: اللَّهُمَّ هل بَلَّغتُ، بَصْرَ عَيْني وسَمْعَ أُذُني)) [8894] أخرجه البخاري (6979)، ومسلم (1832). .
وقال
ابنُ تَيميَّةَ: (فوَجهُ الدَّلالةِ أنَّ الهَديَّةَ هي عطيَّةٌ يبتغي بها وجهَ المعطي وكرامتَه، فلم ينظُرِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى ظاهِرِ الإعطاءِ قولًا وفعلًا، ولكِنْ نظَر إلى قصدِ المُعطين ونيَّاتِهم التي تُعلَمُ بدلالةِ الحالِ، فإن كان الرَّجُلُ بحيث لو نَزَع عن تلك الولايةِ أُهدِيَ له تلك الهَدِيَّةُ لم تكُنِ الولايةُ هي الدَّاعيةَ للنَّاسِ إلى عطيَّتِه، وإلَّا فالمقصودُ بالعطيَّةِ إنَّما هي ولايتُه إمَّا ليكرمَهم فيها، أو ليُخَفِّفَ عنهم، أو يُقَدِّمَهم على غيرِهم، أو نحوِ ذلك مما يَقصِدون به الانتفاعَ بولايتِه، أو نفعَه لأجلِ ولايتِه)
[8895] ((الفتاوى الكبرى)) (6/157). .
لذا (ينبغي لكُلِّ ذي ولايةٍ أن يتنزَّهَ عن قَبولِ هدايا أهلِ عَمَلِه)
[8896] ((الحاوي الكبير)) (16/281). .
7- التنَزُّهُ عن الخوضِ في المالِ العامِّ وأخذِه دونَ وَجهِ حَقٍّ؛ عن عَدِيِّ بنِ عُمَيرةَ الكِنديِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ:
((من استعمَلْناه منكم على عمَلٍ فكتَمَنا مَخيطًا فما فوقَه، كان غُلولًا يأتي به يومَ القيامةِ، قال: فقام إليه رجلٌ أسوَدُ من الأنصارِ كأني أنظُرُ إليه، فقال: يا رسولَ اللهِ، اقبَلْ عني عَمَلَك، قال: وما لك؟ قال: سمِعتُك تقولُ كذا وكذا، قال: وأنا أقولُه الآنَ، مَن استَعْمَلْناه منكم على عَمَلٍ فليجِئْ بقليلِه وكثيرِه، فما أوتيَ منه أخَذ، وما نُهيَ عنه انتهى)) [8897] أخرجه مسلم (1833). .
8- التنَزُّهُ عن أخذِ الرِّشوةِ، وهي: ما يُعطى لإبطالِ حَقٍّ، أو لإحقاقِ باطلٍ؛ فعن
عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما
((لعَن رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الرَّاشيَ والمرتَشيَ)) [8898] أخرجه أبو داود (3580)، والترمذي (1337) واللفظ لهما، وابن ماجه (2313) باختلافٍ يسيرٍ. صحَّحه الترمذي، وابن القطان في ((الوهم والإيهام)) (3/548)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3580)، وحسَّنه البغوي في ((شرح السنة)) (5/330). .
قال
الخطَّابيُّ: (الرَّاشي: المُعطي، والمُرتشي: الآخِذُ، وإنما يلحَقُهما العقوبةُ معًا إذا استويا في القصدِ والإرادةِ، فرَشا المعطي لينالَ به باطِلًا ويتوصَّلَ به إلى ظُلمٍ، فأمَّا إذا أعطى ليتوصَّلَ به إلى حَقٍّ، أو يدفَعَ عن نفسِه ظُلمًا؛ فإنَّه غيرُ داخِلٍ في هذا الوعيدِ)
[8899] ((معالم السنن)) (4/ 161). .
9- التَّنزُّهُ عن جَحدِ الحقوقِ، وأداؤها لأصحابِها كاملةً مُستوفاةً. عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((من أخَذ أموالَ النَّاسِ يريدُ أداءَها أدَّى اللهُ عنه، ومن أخَذ يريدُ إتلافَها أتلَفه اللهُ)) [8900] أخرجه البخاري (2387). .
10- التَّنَزُّهُ عن القولِ بغيرِ عِلمٍ، أو المسارعةِ إلى الفتوى، عن أبي المِنهالِ يقولُ: (سألتُ البراءَ بنَ عازبٍ عن الصَّرفِ، فقال: سَلْ زيدَ بنَ أرقَمَ؛ فهو أعلَمُ، فسألتُ زيدًا، فقال: سَلِ البراءَ؛ فإنَّه أعلَمُ، ثمَّ قالا: نهى رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن بَيعِ الوَرِقِ بالذَّهَبِ دَينًا)
[8901] أخرجه البخاري (2180، 2181)، ومسلم (1589) واللفظ له. .
وعن عبدِ الرَّحمنِ بنِ أبي ليلى قال: (أدركتُ عِشرين ومائةً من الأنصارِ من أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما منهم رجلٌ يُسأَلُ عن شيءٍ إلَّا وَدَّ أنَّ أخاه كفاه!)
[8902] أخرجه ابن المبارك في ((الزهد والرقائق)) (58)، وزهير بن حرب في العلم (21)، والدارمي في سننه (137). .
11- التَّنَزُّهُ عن التَّدليسِ في البيعِ بكتمانِ عَيبِ السِّلعةِ، أو الغِشِّ بأيِّ صورةٍ من الصُّوَرِ.عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مرَّ على صُبْرةِ
[8903] الصُّبرةُ: الكومةُ المجموعةُ من الطَّعامِ، سُمِّيَت صُبرةً لإفراغِ بعضِها على بعضٍ. ينظر ((الزاهر)) للأزهري (ص: 210). طعامٍ، فأدخَل يَدَه فيها، فنالت أصابِعُه بللًا، فقال:
((ما هذا يا صاحِبَ الطَّعامِ؟ قال: أصابته السَّماءُ يا رسولَ اللهِ، قال: أفلا جعَلْتَه فوقَ الطَّعامِ؛ كي يراه النَّاسُ، من غَشَّ فليس منِّي)) [8904] أخرجه مسلم (102). .
12- التَّنزُّهُ عن الجلوسِ في طُرُقِ النَّاسِ، فإذا جلَس تمسَّك بالآدابِ الشَّرعيَّةِ، والتَزمَ بحَقِّ الطَّريقِ.عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إيَّاكم والجُلوسَ بالطُّرُقاتِ، قالوا: يا رسولَ اللهِ، ما لنا بُدٌّ من مجالِسِنا نتحَدَّثُ فيها، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فإذا أبيتُم إلَّا المجلِسَ فأعطوا الطَّريقَ حَقَّه، قالوا: وما حَقُّه؟ قال: غَضُّ البَصَرِ، وكَفُّ الأذى، ورَدُّ السَّلامِ، والأمرُ بالمعروفِ، والنَّهيُ عن المُنكَرِ)) [8905] أخرجه البخاري (2465) واللفظ له، ومسلم (2121). .
قال
ابنُ مُفلِحٍ: (أمَّا الطَّريقُ الواسِعُ فالمروءةُ والنَّزاهةُ اجتنابُ الجلوسِ فيه، فإن جلس كان عليه أن يؤدِّيَ حقَّ الطَّريقِ، غَضُّ البصَرِ، وإرشادُ الضَّالِّ، وردُّ السَّلامِ، وجَمعُ اللُّقَطةِ للتَّعريفِ، والأمرُ بالمعروفِ، والنَّهيُ عن المُنكَرِ، ومن جَلَس ولم يُعطِ الطَّريقَ حَقَّها فقد استَهدَف لأذيَّةِ النَّاسِ)
[8906] ((الآداب الشرعية)) (3/376، 377). .