سادِسًا: مَظاهرُ وصُوَرُ الإساءةِ
للإساءةِ مَظاهِرُ وصُوَرٌ عَديدةٌ لا تَكادُ تَقَعُ تَحتَ الحَصرِ لكثرَتِها وتَنَوُّعِها، ونَذكُرُ هنا بَعضَ الأمثِلةِ عليها للدَّلالةِ على مَواطِنِ الشَّرِّ تَجَنُّبًا لها وبُعدًا عنها، واتِّقاءً لسُلوكِ سُبُلِها؛ فمِن ذلك:
1- الإساءةُ لأهلِ العِلمِ والفَضلِ وذَوي المَكانةِ في الدِّينِ؛ فقد رَفعَ اللهُ شَأنَ العِلمِ والعُلماءِ، وشَدَّدَ على حُرمَتِهم ومَكانتِهم وعُلوِّ مَنزِلتِهم.
قال تعالى:
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: 9] .
قال
ابنُ عَساكِرَ: (واعلَمْ يا أخي -وفَّقَنا اللهُ وإيَّاك لمَرضاتِه، وجعَلَنا مِمَّن يخشاه ويتَّقيه حَقَّ تُقاتِه- أنَّ لُحومَ العُلماءِ -رَحمةُ اللهِ عليهم- مَسمومةٌ، وعادةَ اللهِ في هَتكِ أستارِ مُنتَقصيهم مَعلومةٌ؛ لأنَّ الوقيعةَ فيهم بما هم مِنه بَراءٌ أمرُه عَظيمٌ، والتَّناوُلَ لأعراضِهم بالزُّورِ والافتِراءِ مَرتَعٌ وخيمٌ، والاختِلاقَ على مَن اختارَه اللهُ مِنهم لنَعشِ العِلمِ خُلُقٌ ذَميمٌ)
[230] ((تبيين كذب المفتري)) (ص: 29). .
2- الإساءةُ إلى الوالدَينِ أو إلى أحَدِهما، وهي مِن كبائِرِ الذُّنوبِ، كيف وقد أمَرَ الشَّرعُ ببرِّهما والإحسانِ إليهما؛ قال تعالى:
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا [العنكبوت: 8] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (يقولُ تعالى آمِرًا عِبادَه بالإحسانِ إلى الوالدَينِ بَعدَ الحَثِّ على التَّمَسُّكِ بتَوحيدِه؛ فإنَّ الوالدَينِ هما سَبَبُ وُجودِ الإنسانِ، ولهما عليه غايةُ الإحسانِ)
[231] ((تفسير القرآن العظيم)) (6/ 264). .
وقال تعالى:
وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان: 15] .
قال القُرطُبيُّ: (الآيةُ دَليلٌ على صِلةِ الأبَوينِ الكافِرَينِ بما أمكنَ مِنَ المالِ إن كانا فقيرَينِ، وإلانةِ القَولِ والدُّعاءِ إلى الإسلامِ برِفقٍ)
[232] ((الجامع لأحكام القرآن)) (14/ 66). .
3- الإساءةُ إلى الأقارِبِ وذَوي الأرحامِ؛ فإنَّ ذلك مُضادٌّ لمَقصودِ الشَّرعِ الذي دَعا إلى تَفقُّدِ أحوالِهم والعَفو عن مُسيئِهم، ومُقابَلةِ إساءَتِهم بالإحسانِ.
فعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عنه أنَّ رجلًا قال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ لي قرابةً أصِلُهم ويقطعوني، وأُحسِنُ إليهم ويُسِيئون إليَّ، وأحلُمُ عنهم ويَجهَلونَ عَلَيَّ، فقال:
((لَئِنْ كُنتَ كما قُلتَ فكأنَّما تُسِفُّهمُ المَلَّ، ولا يزالُ معك من اللهِ ظَهيرٌ عليهم ما دُمتَ على ذلك)) [233] أخرجه مسلم (2558). .
قال
ابنُ عُثَيمين: (لأنَّ هؤلاء القَرابةَ -والعياذُ باللهِ- يصِلُهم قَريبُهم لكِن يقطَعونَه، ويُحسِنُ إليهم فيُسيئونَ إليه، ويحلُمُ عليهم ويعفو ويصفحُ، ولكِن يجهَلونَ عليه ويزدادونَ، فهؤلاء قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "فكأنَّما تُسِفُّهمُ المَلَّ"، المَلُّ: الرَّمادُ الحارُّ، و"تُسِفُّهم": يعني: تُلقِمُهم إيَّاه في أفواهِهم، وهو كِنايةٌ عن أنَّ هذا الرَّجُلَ مُنتَصِرٌ عليهم، وليس الواصِلُ لرَحِمِه مَن يُكافِئُ مَن وصَله، ولكِنَّ الواصِلَ حَقيقةً هو الذي إذا قُطِعَت رَحِمُه وصَلها، هذا هو الواصِلُ حَقًّا، فعلى الإنسانِ أن يصبرَ ويحتَسِبَ على أذيَّةِ أقارِبِه وجيرانِه وأصحابِه وغَيرِهم)
[234] ((شرح رياض الصالحين)) (3/ 613، 614). .
4- الإساءةُ إلى الجيرانِ بأيِّ نَوعٍ مِن أنواعِ الإساءةِ والأذى؛ فقد أمَرَ الشَّرعُ بالإحسانِ إلى الجيرانِ، وحُسنِ مُعامَلتِهم، وأسهَبَ في الوصيَّةِ بحُقوقِهم.
فعن أبي شُرَيحٍ الخُزاعيِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((مَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فليُحسِنْ إلى جارِه)) [235] أخرجه البخاري (6019)، ومسلم (48) واللفظ له. .
وعن
عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((ما زال يوصيني جِبريلُ بالجارِ، حتَّى ظَنَنتُ أنَّه سَيورِّثُه)) [236] أخرجه البخاري (6014) واللفظ له، ومسلم (2624). .
قال
الذَّهَبيُّ: (إنَّما جاءَ الحَديثُ في هذا الأُسلوبِ للمُبالغةِ في حِفظِ حُقوقِ الجارِ وعَدَمِ الإساءةِ إليه؛ حَيثُ أنزَله الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَنزِلةَ الوارِثِ؛ تَعظيمًا لحَقِّه، ووُجوبِ الإحسانِ إليه، وعَدَمِ الإساءةِ إليه بأيِّ نَوعٍ مِن أنواعِ الأذى)
[237] ((حق الجار)) (ص: 24). .
وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((واللهِ لا يُؤمِنُ، واللهِ لا يُؤمِنُ، واللهِ لا يُؤمِنُ، قيل: مَن يا رَسولَ اللهِ؟ قال: الذي لا يأمَنُ جارُه بوائِقَه)) [238] أخرجه البخاري (6016) من حديثِ أبي شُرَيحٍ العَدويِّ رَضِيَ اللهُ عنه. .
5- الإساءةُ إلى الكِبارِ والإساءةُ إلى الصِّغارِ؛ قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ليس مِنَّا مَن لم يوقِّرْ كبيرَنا، ويرحَمْ صَغيرنا)) [239] أخرجه أحمد (6937) واللفظ له، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (358) من حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (272)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (6937)، وصحَّح إسناده أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (11/143). .
6- الإساءةُ إلى عامَّةِ المُسلمينَ بأيِّ صورةٍ كانت، كالشَّتمِ والسَّبِّ والغِيبةِ والاعتِداءِ:
قال اللهُ تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ [الحجرات: 11] ، وقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [الحجرات: 12] ، وعنِ
ابنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((سِبابُ المُسلمِ فُسوقٌ، وقِتالُه كُفرٌ)) [240] أخرجه البخاري (48)، ومسلم (64). .
وعن أبي هرَيرةَ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((أتدرونَ ما الغِيبةُ؟ قالوا: اللهُ ورَسولُه أعلَمُ، قال: ((ذِكرُك أخاك بما يَكرَهُ)) [241] أخرجه مسلم (2589). .
وعن أبي هُرَيرةَ قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((المُسلِمُ أخو المُسلمِ، لا يَظلِمُه ولا يَخذُلُه، ولا يَحقِرُه)) [242] أخرجه مسلم (2564).
قال القاريُّ: (أي: لا يحتَقِرُه بذِكرِ المَعايِبِ وتَنابُزِ الألقابِ والاستِهزاءِ والسُّخريةِ إذا رَآه رَثَّ الحالِ، أو ذا عاهةٍ في بَدَنِه، أو غَيرَ لائِقٍ في مُحادَثَتِه؛ فلعَلَّه أخلَصُ ضَميرًا وأتقى قَلبًا مِمَّن هو على ضِدِّ صِفتِه، فيظلمُ نَفسَه بتَحقيرِ مَن وقَّرَه اللهُ) [243] ((مرقاة المفاتيح)) (7/ 3105). .
7- الإساءةُ إلى غَيرِ المُسلمِ:
قال السَّعديُّ: (لمَّا كان الإنسانُ لا يسَعُ النَّاسَ بمالِه أُمِر بأمرٍ يقدِرُ به على الإحسانِ إلى كُلِّ مخلوقٍ، وهو الإحسانُ بالقولِ، فيكونُ في ضِمنِ ذلك النَّهيُ عن الكلامِ القبيحِ للنَّاسِ حتَّى للكُفَّارِ؛ ولهذا قال تعالى: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت: 46] ، ومِن أدبِ الإنسانِ الذي أدَّب اللهُ به عِبادَه أن يكونَ الإنسانُ نَزيهًا في أقوالِه وأفعالِه، غَيرَ فاحِشٍ ولا بَذيءٍ، ولا شاتِمٍ ولا مُخاصِمٍ، بل يكونُ حَسنَ الخُلقِ، واسِعَ الحِلمِ، مُجامِلًا لكُلِّ أحدٍ، صبورًا على ما ينالُه مِن أذى الخَلقِ؛ امتِثالًا لأمرِ اللهِ، ورجاءً لثوابِه) [244] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 57، 58). .
8- الإساءةُ إلى الأمواتِ؛ عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَسُبُّوا الأمواتَ؛ فإنَّهم قد أفضَوا إلى ما قدَّموا)) [245] أخرجه البخاري (1393). .
9- الإساءةُ إلى الحَيواناتِ:
عن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((عُذِّبتِ امرأةٌ في هرَّةٍ سَجَنتْها حتَّى ماتَت، فدَخَلَت فيها النَّارَ، لا هي أطعَمَتها ولا سَقَتها إذ حَبَسَتها، ولا هي تَركَتها تَأكُلُ مِن خَشاشِ الأرضِ)) [246] أخرجه البخاري (3482) واللفظ له، ومسلم (2242). .
قال القُرطُبيُّ: (سَبَبُ تَعذيبِها في النَّارِ حَبسُ الهرَّةِ إلى أن ماتَت جوعًا) [247] ((المفهم)) (5/544). .
ومِنَ الإساءةِ للحَيوانِ اتِّخاذُه أداةً للَّهوِ، كجَعلِه غَرَضًا للتَّسابُقِ في رَميِه بالسِّهامِ؛ فقد مَرَّ ابنُ عُمَر بفِتيانٍ مِن قُرَيشٍ قد نَصَبوا طَيرًا، وهم يرمونَه، وقد جَعلوا لصاحِبِ الطَّيرِ كُلَّ خاطِئةٍ مِن نَبلِهم، فلمَّا رَأوا ابنَ عُمَر تَفرَّقوا، فقال ابنُ عُمَرَ: (مَن فَعَل هذا؟! لعنَ اللهُ مَن فعَل هذا! إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَعَنَ مَن اتَّخَذَ شَيئًا فيه الرُّوحُ غَرَضًا) [248] أخرجه البخاري (5515) بنحوه، ومسلم (1958) واللفظ له. .