ثامنًا: حُكمُ إفشاءِ الأسرارِ
قال
الغزاليُّ: (إفشاءُ السِّرِّ هو منهيٌّ عنه لِما فيه من الإيذاءِ والتَّهاوُنِ بحَقِّ المعارِفِ والأصدقاءِ، وهو حرامٌ إذا كان فيه إضرارٌ، وهو مِن قَبيلِ اللُّؤمِ إن لم يكُنْ فيه إضرارٌ)
[857] ))إحياء علوم الدين)) (3/ 132). .
وقال السَّفَّارينيُّ: (يَحرُمُ على كُلِّ مُكَلَّفٍ إفشاءُ السِّرِّ؛ قال: ولعَلَّه يحرُمُ حيثُ أُمِرَ بكَتْمِه، أو دلَّتْه قرينةٌ على «ضرورةِ» كِتمانِه، أو كان ممَّا يُكتَمُ عادةً، وقيل: الذي يحرُمُ هو إفشاءُ السِّرِّ المُضِرِّ «كما في الرِّعايةِ»)
[858] ((غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب)) (1/ 116). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (إذا حدَّثك إنسانٌ بحديثٍ، وقال: إنَّه أمانةٌ، حَرُم عليك أن تُفشِيَه لأيِّ أحَدٍ، ... فإن فعَلْتَ فقد خُنتَ الأمانةَ، لكِنْ لو فُرِض أنَّك أخطَأْتَ فخُنتَ الأمانةَ، فالواجِبُ عليك أن تتحَلَّلَ ممَّن ائتَمَنك؛ لأنَّك ظلَمْتَه حيثُ خُنتَه، لعَلَّ اللهَ يهديه فيُحلِّلَك، والذي ينبغي لِمَن جاءه أخوه معتَذِرًا أن يَعذِرَه ويحَلِّلَه حتَّى يكونَ أجرُه على اللهِ عزَّ وجَلَّ، كما قال تعالى
فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40] ولا شَكَّ أنَّ الأماناتِ تختَلِفُ في آثارِها؛ فقد يكونُ إفشاءُ السِّرِّ في هذه الأمانةِ عظيمًا يترتَّبُ عليه مفاسِدُ كثيرةٌ، وقد يكونُ متوَسِّطًا، وقد يكونُ سهلًا)
[859] ((فتاوى نور على الدرب)) (9/428). .
وقال ابنُ بطَّالٍ: (قال المُهَلَّبُ: والذي عليه أهلُ العِلمِ أنَّ السِّرَّ لا يُباحُ به إذا كان على المُسِرِّ فيه مضَرَّةٌ، وأكثَرُهم يقولُ: إنَّه إذا مات لا يلزَمُ مِن كتمانِه ما يلزَمُ في حياتِه إلَّا أن يكونَ عليه فيه غضاضةٌ في دينِه)
[860] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) (9/ 64). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ بَعدَ نَقلِه كلامَ ابنِ بَطَّالٍ: (قلتُ: الذي يَظهَرُ انقسامُ ذلك بعد الموتِ إلى ما يُباحُ، وقد يُستحَبُّ ذِكرُه ولو كَرِهه صاحِبُ السِّرِّ، كأن يكونَ فيه تزكيةٌ له من كرامةٍ أو مَنقَبةٍ أو نحوِ ذلك؛ وإلى ما يُكرهُ مُطلَقًا، وقد يحرُمُ، وهو الذي أشار إليه ابنُ بطَّالٍ، وقد يجِبُ كأن يكونَ فيه ما يجِبُ ذِكرُه، كحَقٍّ عليه؛ كأن يُعذَرَ بتَركِ القيامِ به، فيُرجى بَعدَه إذا ذُكِر لِمن يقومُ به عنه أن يفعَلَ ذلك)
[861] ((فتح الباري)) (11/ 82). .
وقد يُصبِحُ إفشاءُ السِّرِّ لازمًا إذا كانت مصلحةُ الإفشاءِ أكبرَ من مصلحةِ الكِتمانِ والسَّترِ، وهذه بعضٌ مِن النَّماذِجِ التي ينبغي إفشاءُ السِّرِّ فيها:
1- أداءُ الشَّهادةِ عِندَ القاضي:(والشَّهادةُ في حَدِّ ذاتِها هي إخبارٌ بالشَّيءِ السِّرِّي الذي يخفى عن القاضي حقيقتُه، والمرادُ من أداءِ الشَّهادةِ: إظهارُ الأسرارِ لإثباتِ الحَقِّ في مجلِسِ القضاءِ، وقد نهى الحَقُّ عن كتمانِ الشَّهادةِ:
وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ [البقرة: 283] .
وكذلك لا تكونُ الشَّهادةُ إلَّا بالإخبارِ القاطِعِ، والإخبارُ لا يكونُ قاطِعًا إلَّا بالإخبارِ التَّفصيليِّ، كما هو حالُه في الشَّهادةِ على الزِّنا، لا بُدَّ مِن ذِكرِ المكانِ، والزَّمانِ، والكيفيَّةِ، وذِكرِ الفاعِلِ والمفعولِ به، وما إلى ذلك؛ حتَّى تتوفَّرَ فيه الشُّروطُ المُقَرَّرةُ في حَدِّ الزِّنا. وكذلك في الشَّهادةِ على السَّرِقةِ، لا بُدَّ مِن ذِكرِ الكيفيَّةِ، والحِرْزِ، والمِقدارِ؛ حتَّى يَثبُتَ بشَهادتِهم أنَّ المشهودَ عليه قد فَعَل الجنايةَ المُستحِقَّةَ للعُقوبةِ)
[862] يُنظر: ((كتمان السر وإفشاؤه في الفقه الإسلامي)) لشريف بن أدول (113-114). .
2- إفشاءُ الأسرارِ إذا أدَّت إلى المصلحةِ العامَّةِ:يُحمَدُ إفشاءُ السِّرِّ إذا كان في إفشائِه مَصلَحةٌ أو فائدةٌ يعودُ نَفعُها على الإسلامِ والمُسلِمين.
وقد أخبَرَنا اللهُ عن قِصَّةِ مُؤمِنِ آلِ فِرعَونَ الذي أفشى خبَرَ فِرعَونَ وقَومِه إلى موسى حينما كانوا يَسْعَون لقَتلِه، فأفشى ذلك السِّرَّ لِموسى، وكان في ذلك نجاةٌ له من القَتلِ بإذنِ اللهِ.
قال تعالى:
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [القصص: 20] .
وهذا رأسُ المُنافِقين عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلولَ لَمَّا قال:
لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون: 8] ، وسَمِع بذلك زيدُ بنُ أرقَمَ، أخبَرَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بما قاله ابنُ سَلولَ
[863] يُنظر: ((جامع البيان)) للطبري (14/364). وينظر ما أخرجه البخاري (4902). .
3- نُصحُ المُستشيرِ: إذا طَلَب أحدٌ مشورةَ إنسانٍ واستلزم الأمرُ أن يُفشِيَ المستشارُ سِرًّا عن المسؤولِ عنه.
جاء في قراراتِ مَجمَعِ الفقهِ الإسلاميِّ: (تُستثنى من وجوبِ كِتمانِ السِّرِّ حالاتٌ يُؤَدِّي فيها كتمانُه إلى ضَرَرٍ يفوقُ ضَرَرَ إفشائِه بالنِّسبةِ لصاحبِه، أو يكونُ إفشاؤُه مَصلَحةً تَرجَحُ على مضَرَّةِ كِتمانِه، وهذه الحالاتُ على ضربَينِ:
أ- حالاتٌ يجِبُ فيها إفشاءُ السِّرِّ بناءً على قاعدةِ ارتكابِ أهوَنِ الضَّرَرينِ لتفويتِ أشَدِّهما، وقاعدةِ تحقيقِ المصلَحةِ العامَّةِ التي تَقضي بتحَمُّلِ الضَّرَرِ الخاصِّ لدَرءِ الضَّرَرِ العامِّ إذا تعيَّن ذلك لدَرْئِه.
وهذه الحالاتُ نوعانِ:
- ما فيه درءُ مَفسَدةٍ عن المجتَمَعِ.
- وما فيه دَرءُ مَفسَدةٍ عن الفَردِ.
ب- حالاتٌ يجوزُ فيها إفشاءُ السِّرِّ لِما فيه:
- جَلبُ مصلحةٍ للمُجتَمَعِ.
- أو دَرءُ مَفسَدةٍ عامَّةٍ.
وهذه الحالاتُ يجِبُ الالتِزامُ فيها بمقاصِدِ الشَّريعةِ وأولويَّاتِها من حيثُ حِفظُ الدِّينِ، والنَّفسِ، والعَقلِ، والنَّسلِ، والمالِ)
[864] ((قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي)) (ص: 129- 130)، ((مجلة مجمع الفقه الإسلامي)) 8/ 1423). .
ومن الحالاتِ التي يجوزُ فيها البَوحُ ببَعضِ الأسرارِ ما جاء عن
عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت:
((دخلَتْ هِندُ بنتُ عُتبةَ امرأةُ أبي سفيانَ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالت: يا رسولَ اللهِ، إنَّ أبا سُفيانَ رَجُلٌ شحيحٌ لا يعطيني من النَّفَقةِ ما يكفيني ويكفي بَنِيَّ إلَّا ما أخَذْتُ من مالِه بغيرِ عِلْمِه، فهل عليَّ في ذلك من جُناحٍ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: خُذي من مالِه بالمعروفِ ما يكفيكِ ويكفي بَنِيكِ)) [865] أخرجه البخاري (5364)، ومسلم (1714) واللَّفظُ له. ، وفي روايةٍ أُخرى:
((فهل عَلَيَّ جُناحٌ أن آخُذَ مِن مالِه سِرًّا؟ قال: خُذي أنت وبَنوكِ ما يكفيكِ بالمعروفِ)) [866] أخرجها البخاري (2211). ، فهذه صورةٌ للزَّوجةِ أن تُفشِيَ سِرَّ زَوجهِا لتحصُلَ على حَقِّها، وحقِّ أبنائِها في النَّفَقةِ من زوجِها المقتَدِرِ، ويمكِنُ أن تَذكُرَ زوجَها بما يكرَهُه للاستفتاءِ والشَّكوى، وقد أقرَّها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على ذلك واستمع لِما أفشَتْه وأظهَرَتْه من عيوبِ زَوجِها الخفيَّةِ والسِّرِّيَّةِ، وأمَرَها بأن تأخُذَ القَدْرَ الذي يكفيها ويكفي أبناءَها
[867] يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (12/ 7)، ((عمدة القاري)) للعيني (12/ 18). .
وعن
عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها:
((أنَّ رِفاعةَ القُرَظيَّ تَزَوَّجَ امرأةً ثمَّ طَلَّقها، فتزوَّجَت آخَرَ، فأتت النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فذكَرَت له أنَّه لا يأتيها، وأنَّه ليس معه إلَّا مِثلُ هُدْبةٍ [868] الهُدبةُ: هي طَرَفُ الثَّوبِ الذي لم يُنسَجْ، ثمَّ يُحتَمَلُ أن يكونَ تشبيهُ الذَّكَرِ بالهُدبةِ لصِغَرِه، ويحتَمَلُ أن يكونَ لاسترخائِه، وعَدَمِ انتشارِه. يُنظر: ((طرح التثريب في شرح التقريب)) للعراقي (7/ 97). ، فقال: لا، حتَّى تذوقي عُسَيلتَه ويذوقَ عُسَيلتَكِ [869] هي كنايةٌ عن الجِماعِ، شَبَّه لذَّته بلذَّةِ العَسَلِ وحلاوتِه. يُنظر: ((طرح التثريب في شرح التقريب)) للعراقي (7/ 98). ) [870] أخرجه البخاري (5317) واللفظ له، ومسلم (1433). . فهذه المرأةُ أفشَت سِرَّ زَوجِها وأظهَرَت صِفةَ نَقصٍ فيه حتَّى تحصُلَ على الطَّلاقِ، وسَمِع النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَكْواها ولم يَذُمَّ إفشاءَها لسِرِّ زَوجِها، ولكِنَّه بَيَّنَ لها الحُكمَ الواجِبَ عليها
[871] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (7/ 480)، ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (4/ 375). .