أ- مِن القُرآنِ الكريمِ
التَّنابُزُ بالألقابِ من الرَّذائِلِ التي تُفسِدُ الأخُوَّةَ، وتوغِرُ الصُّدورَ، وقد نهى القرآنُ الكريمُ عنها، ودعا في آياتٍ كثيرةٍ إلى الحَسَنِ من القَولِ، واجتنابِ القبيحِ منه. ومن الآياتِ الدَّالَّةِ على ذلك:
1- قال تعالى:
وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ [الحجرات: 11] .
عن أبي جُبَيرةَ بنِ الضَّحَّاكِ، قال: فينا نزَلت هذه الآيةُ في بني سَلِمةَ:
وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ [الحجرات: 11] قال: قَدِم علينا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وليس منا رجُلٌ إلَّا وله اسمانِ أو ثلاثةٌ، فجعل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ:
((يا فُلانُ)) فيقولونَ: مَهْ! يا رسولَ اللهِ إنَّه يغضَبُ من هذا الاسمِ، فأُنزِلَت هذه الآيةُ:
وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ [الحجرات: 11] [1990] أخرجه أبو داود (4962) واللفظ له، والترمذي (3268)، وابن ماجه (3741). صحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (5709)، والحاكم في ((المستدرك)) (3724) وقال: على شرط مسلم. وقال شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4962): إسنادُه صحيحٌ إن صحَّت صُحبة أبي جُبَيرةَ بنِ الضَّحَّاكِ، وإلَّا فمرسَلٌ. .
قال
الطَّبريُّ: (إنَّ اللهَ تعالى ذِكرُه نهى المؤمِنينَ أن يتنابَزوا بالألقابِ...، وعمَّ اللهُ بنهيِه ذلك، ولم يَخْصُصْ به بعضَ الألقابِ دونَ بعضٍ؛ فغَيرُ جائزٍ لأحدٍ من المسلِمينَ أن يَنبِزَ أخاه باسمٍ يَكرَهُه، أو صفةٍ يكرَهُها)
[1991] ((جامع البيان)) (21/371). .
2- قال تعالى كاشفًا عن خُبثِ اليهودِ حينَ أرادوا الإساءةَ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونَبْزَه بلَفظٍ قبيحٍ -على أحَدِ الأقوالِ في الآيةِ- فنهى اللهُ المؤمنينَ عن قولِه وإن كان قَصدُهم حَسَنًا:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة: 104] .
قال
القُرطبيُّ: (ذلك أنَّ المُسلِمينَ كانوا يقولون: راعِنا يا رسولَ اللهِ، من المراعاةِ، أي: أَرعِنا سَمعَك، أي: فَرِّغْ سَمعَك لكلامِنا، يقال: أرعى إلى الشَّيءِ، ورعاه، وراعاه، أي: أصغى إليه واستمَعَه، وكانت هذه اللَّفظةُ شَيئًا قبيحًا بلُغةِ اليهودِ، وقيل: كان معناها عندَهم اسمَعْ لا سَمِعْتَ، وقيل: هي مِن الرُّعونةِ، إذا أرادوا أن يحَمِّقوا إنسانًا قالوا له: راعِنا، بمعنى: يا أحمَقُ! فلمَّا سمِعَ اليهودُ هذه اللَّفظةَ من المُسلِمينَ قالوا فيما بينهم: كنَّا نَسُبُّ مُحمَّدًا سِرًّا، فأعلِنوا به الآنَ، فكانوا يأتونه ويقولون: راعِنا يا محمَّدُ، ويضحَكون فيما بَينَهم، فسَمِعها سَعدُ بنُ مُعاذٍ، ففَطِن لها، وكان يَعرِفُ لُغتَهم، فقال لليهودِ: لئِنْ سَمِعتُها من أحَدِكم يقولُها لرسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأضرِبَنَّ عُنُقَه، فقالوا: أولَستُم تقولونها؟ فأنزل اللهُ تعالى:
لَا تَقُولُوا رَاعِنْا؛ كي لا يجِدَ اليهودُ بذلك سبيلًا إلى شَتمِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
[1992] ((الجامع لأحكام القرآن)) (1/132-133). .
3- وقال تعالى آمِرًا بما يؤلِّفُ القُلوبَ ويجمَعُها، وما يضادُّ التَّنابُزَ بالألقابِ وما كان مِثلَه من آفاتِ اللِّسانِ:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات: 10] .
قال
ابنُ رَجَبٍ: (فإذا كان المؤمِنونَ إخوةً أُمِروا فيما بَينَهم بما يوجِبُ تآلُفَ القلوبِ واجتماعَها، ونُهُوا عمَّا يوجِبُ تنافُرَ القلوبِ واختلافَها،... وأيضًا: فإنَّ الأخَ من شأنِه أن يوصِلَ إلى أخيه النَّفعَ، ويكُفَّ عنه الضَّرَرَ)
[1993] ((جامع العلوم والحكم)) (2/ 273). .
4- وقال تعالى يحُثُّ عِبادَه على أن تنطِقَ ألسِنَتُهم بالكلامِ الحَسَنِ الذي يُضادُّ التَّنابُزَ بالألقابِ وما كان مِثلَه من مساوئِ الأقوالِ:
وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة: 83] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (قولُه تعالى:
وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا أي: كَلِّموهم طَيِّبًا، ولَيِّنوا لهم جانِبًا ...، قال
الحَسَنُ البَصريُّ في قولِه:
وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا: فالحُسنُ من القولِ: يأمُرُ بالمعروفِ وينهى عن المُنكَرِ، ويحلُمُ، ويعفو، ويصفَحُ، ويقولُ للنَّاسِ حُسنًا، كما قال اللهُ، وهو كُلُّ خُلُقٍ حَسَنٍ رَضِيَه اللهُ)
[1994] ((تفسير القرآن العظيم)) (1/317). .
5- وقال تعالى آمرًا بقولِ الكلمةِ التي هي أحسَنُ، ومحَذِّرًا ممَّا يكونُ سببًا لنزَغاتِ الشَّياطينِ، ولا ريبَ أنَّ منها التَّنابُزَ بالألقابِ:
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء: 53] .
أي: (قُلْ -أيُّها الرَّسولُ الكريمُ- لعبادي المؤمنينَ أن يقولوا عِندَ محاورتِهم لغيرِهم الكلمةَ التي هي أحسَنُ، والعبارةَ التي هي أرَقُّ وألطَفُ؛ وذلك لأنَّ الكلمةَ الطَّيِّبةَ تَزيدُ في المودَّةِ التي بَينَ المؤمِنينَ، وتَكسِرُ حِدَّةَ العداوةِ التي بَينَهم وبَينَ أعدائِهم، وقَولُه سُبحانَه:
إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ تعليلٌ للأمرِ السَّابقِ، أي: إنَّ الشَّيطانَ يتربَّصُ بكم، ويتلمَّسُ السَّقَطاتِ التي تقعُ من أفواهِكم، والعَثَراتِ التي تنطِقُ بها ألسنتُكم؛ لكي يُشيعَ الشَّرَّ بَينَكم، ويَبذُرَ بُذورَ الشَّرِّ والبغضاءِ في صُفوفِكم)
[1995] يُنظر: ((التفسير الوسيط)) لمحمد سيد طنطاوي (8/373). .