أ- من القرآنِ الكريمِ
لم يَرِدْ ذِكرُ لفظِ الجُبْنِ صراحةً في القُرآنِ الكريمِ، ولكِنْ كما قال
ابنُ تَيميَّةَ: (ما في القرآنِ من الحَضِّ على الجِهادِ والتَّرغيبِ فيه، وذَمِّ النَّاكلين عنه والتَّاركينَ له: كُلُّه ذَمٌّ للجُبنِ)
[2169] ((الحسبة في الإسلام)) (ص: 102). .
1- قال اللَّهُ تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال: 15-16] .
قال
الشَّوكانيُّ: (نهى اللَّهُ المُؤمِنين أن ينهَزِموا عن الكُفَّارِ إذا لقوهم، وقد دَبَّ بعضُهم إلى بعضٍ للقتالِ؛ فظاهِرُ هذه الآيةِ العمومُ لكُلِّ المُؤمِنين في كُلِّ زمنٍ، وعلى كُلِّ حالٍ، إلَّا حالةَ التَّحرُّفِ والتَّحيُّزِ)
[2170] ((فتح القدير)) (3/160). .
2- ووصف اللَّهُ سُبحانَه المُنافِقين بأنَّهم جُبَناءُ وأنَّهم لا يَصمُدون في الحُروبِ والمعاركِ، فقال:
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:19-20] .
(قَولُه:
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ (بأبدانِهم عِندَ القتالِ، وبأموالِهم عِندَ النَّفقةِ فيه، فلا يجاهِدون بأموالِهم وأنفُسِهم.
فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المَغشيِّ عليه
مِنَ الْمَوْتِ من شِدَّةِ الجُبْنِ، الذي خلع قلوبَهم، والقَلَقِ الذي أذهَلَهم، وخوفًا من إجبارِهم على ما يَكرَهون من القتالِ.
فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ وصاروا في حالِ الأمنِ والطُّمأنينةِ،
سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ أي: خاطبوكم، وتكلَّموا معكم بكلامٍ حديدٍ، ودعاوى غيرِ صحيحةٍ!
وحين تسمَعُهم تظنُّهم أهلَ الشَّجاعةِ والإقدامِ
أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ الذي يرادُ منهم، وهذا شرُّ ما في الإنسانِ؛ أن يكونَ شحيحًا بما أُمِر به، شحيحًا بمالِه أن ينفِقَه في وَجهِه، شحيحًا في بَدَنِه أن يجاهِدَ أعداءَ اللَّهِ، أو يدعوَ إلى سبيلِ اللَّهِ)
[2171] ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 660). .
3- ووصفهم أيضًا بقولِه:
وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا [الأحزاب: 13] .
ثمَّ بَيَّنَ اللَّهُ سُبحانَه وتعالى أنَّ ما يَفِرُّون منه سيأتيهم لا محالةَ، فقال:
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب: 16] .
4- وقال أيضًا في حَقِّهم:
وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المُنافِقون: 4] .
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (قد بَيَّنَ اللَّهُ في كتابِه: أنَّ ما يوجِبُه الجُبْنُ من الفرارِ هو من الكبائِرِ الموجبةِ للنَّارِ، فقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال: 15-16] .
فأخبر أنَّ الذين يخافون العَدُوَّ خوفًا منعهم من الجهادِ: مُنافِقون، فقال:
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ [التوبة:56-57] )
[2172] ((قاعدة في الانغماس في العدو)) لابن تيمية (ص: 40). .
قال
السَّعديُّ: (
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَصدُهم في حَلِفِهم هذا أنَّهم
قَوْمٌ يَفْرَقُونَ أي: يخافون الدَّوائِرَ، وليس في قلوبِهم شجاعةٌ تحمِلُهم على أن يُبَيِّنوا أحوالَهم. فيخافون إن أظهروا حالَهم منكم، ويخافون أن تتبرَّؤوا منهم، فيتخَطَّفَهم الأعداءُ من كُلِّ جانبٍ.
وأمَّا حالُ قَويِّ القَلبِ ثابتِ الجَنانِ فإنَّه يحمِلُه ذلك على بيانِ حالِه، حَسَنةً كانت أو سَيِّئةً، ولكنَّ المُنافِقين خُلِع عليهم خِلعةُ الجُبْنِ، وحُلُّوا بحليةِ الكَذِبِ.
ثمَّ ذَكَر شِدَّةَ جُبنِهم فقال:
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً يلجؤون إليه عندما تَنزِلُ بهم الشَّدائدُ،
أَوْ مَغَارَاتٍ يدخُلونها فيستَقِرُّون فيها
أَوْ مُدَّخَلًا أي: محلًّا يدُخلونه فيتحصَّنون فيه
لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ أي: يُسرِعون ويُهرَعون، فليس لهم مَلَكةٌ يقتدرون بها على الثَّباتِ)
[2173] ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 340). .