سادسًا: أسبابُ الوُقوعِ في الدِّياثةِ
1- من أعظَمِ الأسبابِ التي تجعَلُ الإنسانَ يَقَعُ في الدِّياثةِ: الذُّنوبُ. قال
ابنُ القَيِّمِ: (مِن عُقوباتِ الذُّنوبِ: أنَّها تُطفِئُ من القَلبِ نارَ الغَيرةِ التي هي لحياتِه وصَلاحِه كالحرارةِ الغَريزيَّةِ لحياةِ جميعِ البَدَنِ؛ فالغَيرةُ حرارتُه ونارُه التي تخرِجُ ما فيه من الخَبَثِ والصِّفاتِ المذمومةِ، كما يخرِجُ الكِيرُ خَبَثَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ والحَديدِ، وأشرَفُ النَّاسِ وأعلاهم همَّةً أشَدُّهم غَيرةً على نفسِه وخاصَّتِه وعُمومِ النَّاسِ...
والمقصودُ أنَّه كلَّما اشتَدَّت ملابستُه للذُّنوبِ أخرَجَت من قَلبِه الغَيرةَ على نفسِه وأهلِه وعُمومِ النَّاسِ، وقد تَضعُفُ في القَلبِ جِدًّا حتَّى لا يستقبِحَ بعدَ ذلك القبيحَ لا من نفسِه ولا من غيرِه، وإذا وصَل إلى هذا الحَدِّ فقد دَخَل في بابِ الهلاكِ)
[3368] ((الجواب الكافي)) (ص: 66، 67). .
2- غَلَبةُ العاداتِ والتَّقاليدِ وسُوءُ التَّربيةِ.
يقولُ ياقوتٌ الحَمَويُّ في وَصفِ أحد البُلدانِ: (وفيهم قِلَّةُ غَيرةٍ، كأنَّهم اكتَسَبوها بالعادةِ؛ وذلك أنَّه في كُلِّ ليلةٍ تَخرُجُ نساؤهم إلى ظاهِرِ مدينتِهم ويُسامِرنَ الرِّجالَ الذين لا حُرمةَ بَيْنَهم ويلاعِبْنَهم ويجالِسْنَهم إلى أن يذهَبَ أكثَرُ اللَّيل! فيَجوزُ الرَّجُلُ على زوجتِه وأختِه وأمِّه وعَمَّتِه وإذا هي تلاعِبُ آخَرَ وتحادِثُه فيُعرِضُ عنها ويمضي إلى امرأةِ غيرِه فيجالِسُها كما فعل بزَوجتِه! وقد اجتَمَعَت بكِيش بجماعةٍ كثيرةٍ منهم رجُلٌ عاقِلٌ أديبٌ يحفَظُ شيئًا كثيرًا، وأنشدني أشعارًا وكتَبْتُها عنه، فلمَّا طال الحديثُ بيني وبينه قلتُ له: بلغَني عنكم شيءٌ أنكَرْتُه ولا أعرِفُ صِحَّتَه، فبدرني وقال: لعلَّك تعني السَّمَرَ؟ قلتُ: ما أردْتُ غيرَه! فقال: الذي بلغَك من ذلك صحيحٌ، وباللَّهِ أُقسِمُ إنَّه لقبيحٌ! ولكِنْ عليه نشَأْنا، وله مُذْ خُلِقْنا أَلِفْنا، ولو استطَعْنا أن نزيلَه لأزَلْناه، ولو قدَرْنا لغَيَّرْناه، ولكِنْ لا سبيلَ إلى ذلكِ مع ممَرِّ السِّنينَ عليه واستمرارِ العادةِ به!)
[3369] ((معجم البلدان)) (5/ 97). .
3- مُعاشَرةُ الدَّياييثِ ومَن لا يغارُ؛ فالطَّبعُ سَرَّاقٌ.
4- تعاطي المُخَدِّراتِ وشُربُ المُسكِراتِ.
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (والحَشيشةُ المصنوعةُ مِن وَرَقِ العِنَبِ حرامٌ أيضًا، يُجلَدُ صاحِبُها كما يُجلَدُ شارِبُ الخَمرِ، وهي أخبَثُ من الخَمرِ من جِهةِ أنَّها تُفسِدُ العَقلَ والمِزاجَ حتَّى يصيرَ في الرَّجُلِ تخنُّثٌ ودِياثةٌ وغيرُ ذلك من الفسادِ، والخَمرُ أخبَثُ من جهةِ أنَّها تُفضي إلى المخاصَمةِ والمقاتَلةِ، وكلاهما يَصُدُّ عن ذِكرِ اللَّهِ تعالى وعن الصَّلاةِ)
[3370] ((مجموع الفتاوى)) (28/ 339). .
وذكر أنَّ الحَشيشةَ المُسكِرةَ تُورِثُ قِلَّةَ الغَيرةِ وزوالَ الحَمِيَّةِ (حتى يصيرَ آكِلُها إمَّا دَيُّوثًا وإمَّا مأبونًا
[3371] المأبونُ: الذي تُفعَلُ به الفاحِشةُ. يُنظَر: ((تاج العروس)) للزبيدي (34/ 149). ، وإمَّا كِلاهما)
[3372] يُنظَر: ((مجموع الفتاوى)) (34/ 223). .
5- ضَعةُ النَّفسِ ومَهانتُها وذُلُّها.
6- التَّقليدُ الأعمى لغيرِ المُسلِمين.
7- افتقادُ مَكارِمِ الأخلاقِ كالغَيرةِ.
8- شِدَّةُ التَّساهُلِ والغَفلةُ.
9- ضَعفُ الإيمانِ.
10- التَّرفُ والانغِماسُ في الشَّهَواتِ، وشِدَّةُ التَّعلُّقِ بالدُّنيا، والحِرصُ على جمعِ المالِ.
11- ضَعفُ قِوامةِ الرَّجُل مع شِدَّةِ محبَّتِه لنِسائِه.
وفي قِصَّةِ يوسُفَ عليه السَّلامُ لَمَّا اطَّلع العزيزُ على مراودةِ امرأتِه ليُوسُفَ عليه السَّلامُ قال:
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ [يوسف: 29] ، فلم يُعاقِبْها ولم يُفَرِّقْ بينها وبين يوسُفَ حتَّى لا تتمَكَّنَ من مراودتِه، وأمَر يوسُفَ أن لا يذكُرَ ما جرى لأحَدٍ محبَّةً منه لامرأتِه، ولو كان فيه غَيرةٌ لعاقَب المرأةَ؛ فقد كان قليلَ الغَيرةِ أو عديمَها! وكان يحِبُّ امرأتَه ويطيعُها، وقد شاعت القِصَّةُ واطَّلَع عليها النَّاسُ من غيرِ جِهةِ يوسُفَ حتَّى تحَدَّثَت بها النِّسوةُ في المدينةِ، وذكَروا أنَّها تراوِدُ فتاها عن نفسِه، ومع هذا
أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا [يوسف: 31] وأمَرَت يوسُفَ أن يخرُجَ عليهنَّ؛ ليُقِمْنَ عُذرَها على مراودتِه، وهي تقولُ لهنَّ:
فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف: 32] ، وهذا يدُلُّ على أنَّها لم تَزَلْ متمَكِّنةً من مراودتهِ والخَلوةِ به مع عِلمِ الزَّوجِ بما جرى! وهذا من أعظَمِ الدِّياثةِ! ثمَّ إنَّه لَمَّا حُبِس فإنَّما حُبِس بأمرِها، والمرأةُ لا تتمَكَّنُ من حَبسِه إلَّا بأمرِ الزَّوجِ، فالزَّوجُ هو الذي حبَسَه، وحَبَسَه لأجْلِ المرأةِ مُعاونةً لها على مَطلَبِها؛ لدِياثتِه وقِلَّةِ غَيرتِه
[3373] ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/ 119). !
12- وسائِلُ الإعلامِ التي تُرَوِّجُ للمُنكَراتِ وتُسَهِّلُ ارتِكابَ القبائِحِ.
13- قِلَّةُ الحياءِ. (وبَيْنَ قِلَّةِ الحياءِ وعَدَمِ الغَيرةِ تناسُبٌ؛ فكُلٌّ يستدعي الآخَرَ ويَطلبُه حثيثًا)
[3374] ((فيض القدير)) للمناوي (3/ 429). .