خامِسًا: أقسامُ الغَضَبِ والمُتَّصِفينَ به
ينقَسِمُ الغَضَبُ إلى قِسمَينِ: غَضَبٌ مَذمومٌ، وغَضَبٌ مَحْمودٌ.
1- الغَضَبُ المَذمومُ: وهو الذي نُهي عنه وذُمَّ في الأحاديثِ التي ورَدَت، وهو خُلُقٌ سَيِّئٌ؛ (لأنَّه يُخرِجُ العَقلَ والدِّينَ مِن سياسَتِهما، فلا يبقى للإنسانِ مَعَ ذلك نَظَرٌ ولا فِكرٌ ولا اختيارٌ)
[5310] ((مختصر منهاج القاصدين)) لابن قدامة (ص: 232). .
ومِن الغَضَبِ المَذمومِ الغَضَبُ للنَّفسِ أو عَصَبيَّةً وحَميَّةً.
ولا يُذَمُّ الغَضَبُ إذا لم يُخرِجِ الإنسانَ إلى المَكروهِ مِن القَولِ والفِعلِ
[5311] ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)) (ص: 141). .
2- الغَضَبُ المَحمودُ: وهو أن يكونَ للهِ عَزَّ وجَل عِندَما تُنتَهكُ حُرُماتُه، والغَضَبُ على أعدائِه مِن الكُفَّارِ والمُنافِقينَ، والطُّغاةِ والمُتَجَبِّرينَ؛ قال اللهُ تعالى:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [التوبة: 73] .
قال الكَلاباذيُّ: (أخبَرَ اللهُ تعالى عن موسى عليه السَّلامُ أنَّه أخَذَ برَأسِه ولحيتِه وجَرَّه إليه بعُنفٍ وغِلظةٍ حتَّى استَعطَفه عليه، واعتَذَرَ إليه)، ثُمَّ ذَكرَ أنَّ حِدَّتَه وغَضَبَه على أخيه وصَنيعَه به كانت لله وطَلبًا لمَرضاتِه، ثُمَّ قال: (ألا تَراه يقولُ:
مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طه: 92 - 93] ، فكانت تلك الحِدَّةُ مِنه والغَضَبُ فيه صِفةَ مَدحٍ له؛ لأنَّها كانت للهِ وفي اللهِ، كما كانت رَأفةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ورَحمَتُه في اللهِ وللهِ، ثُمَّ كان يغضَبُ حتَّى يحمَرَّ وجهُه، وتَذرَّ عُروقُه للهِ وفي اللهِ، وبذلك وصَف اللهُ تعالى المُؤمِنينَ بقَولِه:
أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] ، وقال تعالى:
أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة: 54] )
[5312] ((معاني الأخبار)) (ص: 358). .
ويُمكِنُ تَقسيمُ النَّاسِ مِن حَيثُ التَّفاوتُ في سُرعةِ غَضَبِهم ورُجوعِهم عنه إلى أقسامٍ أربَعةٍ:
(
الأوَّلُ: بَطيءُ الغَضَبِ سَريعُ الفيءِ، أي: سَريعُ الرُّجوعِ إلى حالةِ الهدوءِ واعتِدالِ المِزاجِ، وهذا خَيرُ الأقسامِ.
الثَّاني: سَريعُ الغَضَبِ سَريعُ الفيءِ، وسُرعةُ الغَضَبِ خُلُقٌ مَذمومٌ، إلَّا أنَّ سُرعةَ الفيءِ فضيلةٌ مَحمودةٌ، فهذه بهذه.
الثَّالثُ: بَطيءُ الغَضَبِ بَطيءُ الفيءِ، أمَّا بُطءُ الغَضَبِ فخُلُقٌ مَحمودٌ يدُلُّ على الحِلمِ، لكِنَّ بُطءَ الفيءِ خُلقٌ مَذمومٌ يدُلُّ على الحِقدِ، وعَدَمِ التَّسامُحِ، فهذه بهذه، ويظهَرُ أنَّ هذا القِسمَ مُعادِلٌ للقِسمِ الثَّاني.
الرَّابعُ: سَريعُ الغَضَبِ بَطيءُ الفيءِ، وهذا شَرُّ الأقسامِ؛ لأنَّه جَمعَ الدَّاءَينِ مَعًا، وما اجتَمَعَ الداءانِ إلَّا ليَقتُلا، فسُرعةُ الغَضَبِ خُلقٌ مَذمومٌ، وبُطءُ الفيءِ خُلقٌ مَذمومٌ، ويا بُؤسَ مِن تُلجِئُه الضَّرورةُ إلى مُعاشَرةِ هذا القِسمِ مِن النَّاسِ!)
[5313] ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) لعبد الرحمن حبنكة الميداني (2/330). .
قال الرَّاغِبُ: (الغَضَبُ في الإنسانِ بمَنزِلةِ نارٍ تُشعَلُ، والنَّاسُ يختَلفونَ فيه، فبَعضُهم كالحَلفاءِ
[5314] الحَلفاءُ: نبتٌ أطرافُه محدَّدةٌ كأنَّها أطرافُ سَعفِ النَّخلِ والخوصِ، ينبُتُ في مغايِضِ الماءِ والنزوزِ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (9/56). سَريعُ الوَقودِ وسَريعُ الخُمودِ، وبَعضُهم كالغَضى
[5315] الغَضَى: شجَرٌ من الأثْلِ خَشَبُه من أصلَبِ الخَشَبِ وجَمرُه يبقى زمانًا طويلًا لا ينطفئُ، واحِدتُه غَضاةٌ. يُنظَر: ((المعجم الوسيط)) (2/655). بَطيءُ الوَقودِ بَطيءُ الخُمودِ، وبَعضُهم سَريعُ الوَقودِ بَطيءُ الخُمودِ، وبَعضُهم على عَكسِ ذلك، وهو أحمَدُهم ما لم يكُنْ مُفضيًا به إلى زَوالِ حَميَّتِه وفِقدانِ غَيرَتِه، واختِلافُهم تارةً يكونُ بحَسبِ الأمزِجةِ؛ فمَن كان طَبعُه حارًّا يابسًا يكثُرُ غَضَبُه، ومَن كان بخِلافِه يقِلُّ، وتارةً يكونُ بحَسَبِ اختِلافِ العادةِ؛ فمِن النَّاسِ من تَعوَّد السُّكونَ والهدوءَ، وهو المُعَبَّرُ عنه بالذَّلولِ والهَيِّنِ واللَّيِّنِ، ومنهم من تَعَوَّد الطَّيشَ والانزِعاجَ، فيحتَدُّ بأدنى ما يطرُقُه، ككلبٍ يسمَعُ صَوتًا فينبَحُ قَبل أن يعرِفَ ما هو)
[5316] ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) (ص: 345). .
ويُمكِنُ تَقسيمُ الغَضَبِ مِن جِهةٍ أُخرى إلى:
غَضَبٍ دينيٍّ: وهو ما كان باعِثُه أمرًا يتَعلَّقُ بالدِّينِ.
وغَضَبٍ دُنيويٍّ: وهو ما كان باعِثُه أمرًا يتَعلَّقُ بالدُّنيا
[5317] ((فتح الباري)) (10/521). .