المَطلَبُ الثَّالثُ: هل الملائكةُ متَّصفُون بالجَمَالِ؟
تقرَّر عند النَّاسِ وَصفُ المَلائِكة بالجمالِ، كما قال الله تعالى في شأنِ النِّسوةِ حين رأينَ يُوسُفَ عليه السَّلامُ:
فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف: 31] .
قال
الزمخشريُّ: (نَفَينَ عنه البَشَريَّةَ؛ لغرابةِ جمالِه ومُباعَدةِ حُسنِه لِما عليه محاسِنُ الصُّوَرِ، وأثبَتْنَ له المَلَكيَّةَ وبتَتْنَ بها الحُكمَ؛ وذلك لأنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ ركَز في الطِّباعِ أنْ لا أحسَنَ من الملَكِ، كما ركَز فيها أنْ لا أقبَحَ من
الشَّيطانِ؛ ولذلك يُشبَّهُ كُلُّ مُتَناهٍ في الحُسنِ والقُبحِ بهما)
[3792] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/ 466). .
وقال
القُرطبيُّ: (أهلُ العُرفِ قد يقولون في القَبيحِ كأنَّه شيطانٌ، وفي الحَسَنِ كأنَّه مَلَكٌ، أي: لم يُرَ مِثْلُه؛ لأنَّ النَّاسَ لا يرون المَلائِكةَ، فهو بناءٌ على ظَنٍّ في أنَّ صُورةَ الملَكِ أحسَنُ، أو على الإخبارِ بطهارةِ أخلاقِه وبُعْدِه عن التُّهَمِ)
[3793] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (9/ 183). .
وقال اللهُ تعالى في شأنِ
جِبريلَ عليه السَّلامُ:
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى [النجم: 5-6] .
قال
ابنُ كثير: (
ذُو مِرَّةٍ أي: ذو قُوَّةٍ. قاله مجاهِدٌ، والحسَنُ، وابنُ زيدٍ. وقال
ابنُ عَبَّاسٍ: ذو مَنظَرٍ حَسَنٍ. وقال قتادة: ذو خَلقٍ طويلٍ حَسَنٍ. ولا مُنافاةَ بين القولينِ؛ فإنَّه عليه السَّلامُ ذو مَنظَرٍ حَسَنٍ، وقوَّةٍ شديدةٍ)
[3794] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) .(7/444) .
وقال
ابنُ القيِّمِ: (الأظهَرُ: أنَّ المِرَّةَ هي الصِّحَّةُ والسَّلامةُ مِنَ الآفاتِ والعاهاتِ الظَّاهِرةِ والباطِنةِ، وذلك يَستلزِمُ كَمالَ الخْلِقةِ وحُسْنَها وجَمالَها؛ فإنَّ العاهةَ والآفةَ إنَّما تكونُ مِن ضَعفِ الخِلْقةِ والتَّركيبِ، فهى قُوَّةٌ وصِحَّةٌ تتضَمَّنُ جَمالًا وحُسنًا. واللهُ أعلَمُ)
[3795] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) (2/129). .
ولَكِنْ ثَبَت أيضًا أنَّ بَعْضَ الملائكةِ ذَوُو مَنظَرٍ كَرِيهٍ، ومنهم:
1- مالِكٌ خازِنُ جَهنَّمَ
عن سَمُرةَ بنِ جُنْدَبٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال في حَديثِ المِعْراجِ: (... فانطَلَقْنا فأَتَينا على رَجُلٍ كَرِيهِ المَرْآةِ، كأكرَهِ ما أنت راءٍ رَجُلًا مَرآةً، وإذا عِنْدَه نارٌ يَحُشُّها ويسعى حَولَها. قال: قُلْتُ لهما: ما هذا؟! قال: قالا لي: انطَلِقِ انطَلِقِ، فانطَلَقْنا... -وفيه-: قالا لي:... وأمَّا الرَّجُلُ الكَريهُ المَرْآةِ، الذي عند النَّارِ يَحُشُّها ويَسْعى حَوْلَها، فإنَّه مالِكٌ خازِنُ جَهَنَّمَ)
[3796] أخرجه البخاري (7047) مطولاً .
قال
ابنُ رَجَبٍ: (مالِكٌ هو خازِنُ جَهَنَّمَ، وهو كَبِيرُ الخَزَنةِ ورَئِيسُهم، وقد رآه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم ليلةَ الإسراءِ... وهو كَرِيهُ المَرآةِ، أي: كَريهُ المَنظَرِ، كأكرَهِ ما أنت راءٍ مِنَ الرِّجالِ)
[3797] يُنظر: ((التخويف من النار)) (ص: 221). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ: (قَولُه: كأكرَهِ ما أنت راءٍ رَجُلًا مَرآةً -بفَتحِ الميمِ- أي: قَبيحُ المَنظَرِ... خازِنُ جَهنَّمَ إنَّما كان كَرِيهَ الرُّؤيةِ؛ لأنَّ في ذلك زيادةً في عَذابِ أهلِ النَّارِ)
[3798] يُنظر: ((فتح الباري)) (12/ 442-445). .
2- زَبَانِيَةُ جَهَنَّمَ
قال اللهُ تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6] .
قال
ابنُ كَثِيرٍ: (
شِدَادٌ أي: تركيبُهم في غايةِ الشِّدَّةِ والكَثافةِ والمَنظَرِ المُزعِجِ... وهؤلاء هم الزَّبانِيَةِ -عِياذًا باللهِ منهم)
[3799] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/ 168). .
وقال
السَّعْديُّ: (
عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ أي: غليظةٌ أخلاقُهم، عظيمٌ انتِهارُهم، يُفْزِعون بأصواتِهم، ويُخيفونَ بمَرْآهم، ويُهِينونَ أصحابَ النَّارِ بقُوَّتِهم)
[3800] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 874). .
3-
مُنكَرٌ ونَكيرٌعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إذا قُبِرَ الميِّتُ -أو قال: أحَدُكم- أتاه مَلَكانِ أسودانِ أزرَقانِ، يُقالُ لأحَدِهما: المُنكَرُ، والآخَر: النَّكيرُ )) [3801] أخرجه مطولاً الترمذي (1071) واللفظ له، والبزار (8462)، وابن حبان (3117). صححه ابن حبان، وابن قتيبة في ((تأويل مختلف الحديث)) (294)، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1071)، وشعيب الأرناؤوط في ((تخريج شرح السنة)) (5/416)، وقال الترمذي: حسن غريب. .
قال
ابنُ العَرَبيِّ: (كُلُّ مَن يراهما يُنكِرُهما لِما هما عليه من وَحْشةِ المَنظَرِ وقَبيحِ الصُّورةِ وغِلَظِ الكَلِمةِ، وما في المقامِعِ التي في أيديهما مِنَ الهَيبةِ والمَخافةِ)
[3802] يُنظر: ((عارضة الأحوذي)) (4/ 292). .
وقال ابنُ المَلِكِ الرُّوميُّ الحَنَفيُّ: («أتاه مَلَكانِ أسوَدانِ»؛ أي: مَنْظَراهما.
«أزرقانِ»، أي: عيناهما، وإنَّما يَبْعَثُهما اللهُ تعالى على هذه الصِّفةِ؛ لِما في السَّوادِ وزُرقةِ العَينِ مِنَ الهَولِ والوَحْشةِ، فيكونُ خَوْفُهما على الكُفَّارِ أشَدَّ ليتحَيَّروا في الجوابِ)
[3803] يُنظر: ((شرح المصابيح)) (1/ 137). .
4- الملائِكةُ التي تُخرِجُ رُوحَ الكافِرِ
عن البَراءِ بنِ عازبٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال في حديثِ خُروجِ الرُّوحِ، والقَبرِ:
((... وإنَّ العَبدَ الكافِرَ إذا كان في انقِطاعٍ مِنَ الدُّنيا وإقبالٍ مِنَ الآخرةِ، نزل إليه من السَّماءِ مَلائِكةٌ سُودُ الوُجوهِ... )) [3804] أخرجه مطولاً أبو داود (4753) بنحوه بلفظ: "وإن الكافر فذكر موته"، وأحمد (18534) واللفظ له صحَّحَه القرطبي في ((التذكرة)) (119)، وابن القيم في ((الروح)) (1/269)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (4753)، وحسَّنه المنذريُّ في ((الترغيب والترهيب)) (280/4)، وابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (4/290)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (150). .
قال
علي القاري: (
((نزل إليه مِنَ السَّماءِ مَلائِكةٌ)) أي: مِن ملائكةِ العَذابِ.
((سُودُ الوُجوهِ)) إظهارًا للغَضَبِ بما يناسِبُ عمَلَه)
[3805] يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) (3/ 1179). .