المَبحَثُ الثَّالِثُ: الأماكِنُ الَّتي يَسكُنُها الجِنُّ
الجِنُّ يَسْكُنونَ الأرضَ.
قال اللهُ تعالى:
قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [الأعراف: 24] .
قال
ابنُ عاشور: (الخِطابُ لآدَمَ وزَوجِه وإبليسَ، والأمرُ تَكوينيٌّ، وبِهِ صارَ آدَمُ وزَوجُه وإبليسُ من سُكَّانِ الأرضِ)
[4376] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8/ 68). .
وقال
القُرطُبيُّ في تَفسيرِ قَولِه تعالى:
وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ [الرَّحمن: 10]: (
وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ الأنامُ النَّاسُ، عَنِ
ابنِ عَبَّاسٍ.
الحَسَن:
الجِنُّ والإنسُ.
الضَّحاكُ: كُلُّ ما دَبَّ على وَجهِ الأرضِ، وهَذا عامٌّ)
[4377] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/ 155). .
ومِمَّا يُرَجِّحُ أنَّ الخِطابَ في الآيةِ السَّابِقةِ للجِنِّ والإنسِ قَولُه تعالى بَعدَ ذِكرِ كُلِّ نِعمةٍ من نِعَمِهِ:
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، والمَقصودُ بهِ
الجِنُّ والإنسُ.
وهُناكَ نَفَرٌ مِنَ
الجِنِّ يَعيشونَ في البُيوتِ مَعَ النَّاسِ.
ومن ذلك الحَيَّاتُ الَّتي يَتَشَكَّلُ
الجِنُّ بصورَتِها فتَلِجُ البُيوتَ، كما في حَديثِ الفَتى الَّذي صَرَعَه
الجِنِّيُّ في بَيتِهِ؛ ولِذلك نَهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَن قَتلِ حَيَّاتِ البُيوتِ قَبلَ إنذارِها؛ لوُجودِ
الجِنِّ المُسْلِمينَ فيها، فعَن نافِعٍ أنَّ أبا لُبابةَ كُلَّمَ
ابنَ عُمرَ ليَفتَحَ لَه بابًا في دارِهِ، يَستَقرِبُ بهِ إلى المَسجِدِ. فوجَدَ الغِلْمةُ جِلْدَ جانٍّ. فقال عَبدُ اللهِ: التَمِسوه فاقتُلوه. فقال أبو لُبابةَ: لا تَقتُلوه؛ فإنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى عَن قَتلِ الجِنَّانِ الَّتي في البُيوتِ
[4378] أخرجه البخاري (3312، 3313)، ومسلم (2233) واللَّفظُ له. .
ومِنَ الأماكِنِ الَّتي يَسكُنُها
الجِنُّ مَواضِعُ النَّجاساتِ.
عَن زَيدِ بن أرقَمَ عَن رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال:
((إنَّ هذه الحُشوشَ مُحتَضَرةٌ، فإذا أتى أحَدُكُمُ الخَلاءَ فليَقُلْ: أعوذُ باللهِ مِنَ الخُبُثِ والخَبائِثِ)) [4379] أخرجه أبو داود (6) واللَّفظُ له، وابن ماجه (296)، وأحمد (19332). صحَّحه ابن حبان (1408)، وابن الملقن في ((الإعلام)) (1/427)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (6)، وصحح إسناده النووي في ((الخلاصة)) (1/149)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (6)، وجوده ابن باز في ((حاشية بلوغ المرام)) (109). .
قال ابنُ بطالٍ: (أخبَرَ فى هَذا الحَديثِ أنَّ الحُشوشَ مواطِنُ للشَّياطينِ؛ فلِذلك أمرَ بالِاستِعاذةِ عِندَ دُخولِها)
[4380] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) (10/ 90). .
وقال
ابنُ عَبدِ البَرِّ: (قَولُ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّ هذه الحُشوشَ مُحتَضَرةٌ)) أي: يُصابُ النَّاسُ فيها)
[4381] يُنظر: ((الاستذكار)) (8/ 443). .
كما ورَدَ النَّهيُ عَنِ الصَّلاةِ في أعطانِ الإبلِ
[4382] قال ابن الأثير: (العطن: مَبرَكُ الإبِلِ حول الماء. يقال: عَطنت الإبِلُ فهي عاطنةٌ وعواطِنُ: إذا سُقِيَت وبركَت عند الحياضِ لتعادَ إلى الشُّربِ مرَّةً أخرى. وأعطنْتُ الإبِلَ: إذا فعَلْتَ بها ذلك) ((النهاية)) (3/258). ، وعَلَّلَه بَعضُ العُلَماءِ بكَونِها مَأوًى للشَّياطينِ.
فعَن جابِرِ بْنِ سَمُرةَ رَضِيَ اللهُ عَنه: أنَّ رَجُلًا سَألَ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أأتَوضَّأُ من لُحومِ الغَنَمِ؟ قال:
((إنْ شِئْتَ فتوَضَّأْ، وإنْ شِئْتَ فلا توَضَّأْ))، قال: أتَوَضَّأُ من لُحومِ الإبِلِ؟ قال:
((نَعَم فتَوَضَّأْ من لُحومِ الإبلِ )) قال: أصَلِّي في مَرابِضِ الغَنَمِ؟ قال:
((نَعَم))، قال: أصَلِّي في مَبارِكِ الإبِلِ؟ قال: لا))
[4383] رواه مسلم (360). .
وعَن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عَنه، قال: قال رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((صَلُّوا في مَرابِضِ الغَنَمِ، ولا تُصَلُّوا في أعطانِ الإبِلِ )) [4384] أخرجه من طرق: الترمذي (348)، وابن ماجه (768)، وأحمد (9825). صحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (1384)، وأحمد شاكر في ((شرح سنن الترمذي)) (2/181)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (348)، والوادعي على شرط الشيخين في ((الصحيح المسند)) (1269). .
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (الأماكِنُ الَّتي يُنهى عَنِ الصَّلاةِ فيها كأعطانِ الإبلِ والحَمَّامِ هيَ مَأوى الشَّياطينِ، وكَذلك ما يُسافِرُ إليهِ بَعضُ النَّاسِ مِنَ المَغاراتِ ونَحوِه مِنَ الجِبالِ، قاصِدين لتَعظيمِ تِلكَ البُقعةِ بالشَّامِ ومِصرَ والجَزيرةِ وخُراسانَ وغَيرِها، وكُلُّ مَوضِعٍ تُعظِّمُه النَّاسُ غَيرَ المَساجِدِ ومَشاعِرِ الحَجِّ فإنَّه مَأوى الشَّياطينِ، ويَتَصَوَّرونَ بصورةِ بني آدَمَ أحيانًا حَتَّى يَظُنَّ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ أنَّهم مِنَ الإنسِ وأنَّهم رَجالُ الغَيبِ، ويَقولونَ: الأربَعونَ الأبدالُ بجَبَلِ لُبنانَ أو غَيرِهِ مِنَ الجِبالِ، وهيَ مَأوى
الجِنِّ، وهُمُ رِجالُ الغَيبِ، كما قال تعالى:
وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجِن: 6] سَمَّاهمُ اللهُ رِجالًا، وسُمُّوا جِنًّا؛ لأنَّهم يَجتَنُّونَ عَنِ الأبصارِ، أي: يَستَتِرونَ، كما تسَمَّى الإنسُ إنسًا؛ لأنَّهم يُؤْنِسونَ، أي: يُبصِرونَ، كما قال موسى عليهِ السَّلامُ:
إِنِّي آنَسْتُ نَارًا [طه: 10] أي: أبصَرْتُ نارًا. والحِكاياتُ عَنهم في هَذا البابِ كثيرةٌ مَعروفةٌ، لَكِنْ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ يَعتَقِدُ أنَّهم مِنَ الإنسِ، وأنَّهم صالِحونَ يَغيبونَ عَن أبصارِ الخَلائِقِ)
[4385] يُنظر: ((الإخنائية)) (ص: 187). .
ومِنَ الأماكِنِ الَّتي يَسكُنُها
الجِنُّ الجُحورُ.
عَن قَتادةَ عَن عَبدِ اللهِ بن سَرْجسَ رَضِيَ اللهُ عَنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى أن يُبالَ في الجُحْرِ.
قال: قالوا لقَتادةَ: ما يُكْرَهُ مِنَ البَولِ في الجُحْرِ؟ قال: كانَ يُقالُ: إنَّها مَساكِنُ
الجِنِّ [4386] أخرجه أبو داود (29) واللَّفظُ له، والنسائي (34) باختلاف يسير، وأحمد (20775) مطولًا. صحَّحه النووي في ((الخلاصة)) (1/156)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (2/321)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (571)، وصحَّح إسناده على شرط الشيخين ابنُ كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/56). .
قال
المُناويُّ: («نَهى أن يُبالَ في الجُحْرِ» بضَمِّ الجيمِ وسُكونِ الحاءِ، وهوَ كُلُّ شَيءٍ يَحتَفِرُه الهَوامُّ والسِّباغُ لأنفُسِها، كذا في المُحكَمِ، وقيلَ: هوَ الثُّقبُ وهوَ ما استَدارَ، ومِثلُه السَّرَبُ -بفَتحَتَين- ما استَطالَ)
[4387] يُنظر: ((فيض القدير)) (6/ 344). .
ويَكثُرُ وُجودُ
الجِنِّ في الأسواقِ لفِتنةِ النَّاسِ؛ ولِذلك نَهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَنِ المُكْثِ فيها، فقال مُوصِيًا سَلْمانَ الفارِسيَّ رَضِيَ اللهُ عَنه:
((لا تَكونَنَّ إنِ استَطَعْتَ أوَّلَ مَن يَدخُلُ السُّوقَ، ولا آخِرَ مَن يَخرُجُ مِنها؛ فإنَّها مَعرَكةُ الشَّيطانِ، وبِها يَنصِبُ رايَتَه )) [4388] رواه مسلم (2451). .
قال عِياضٌ: (قَولُه في السُّوقِ:
((مَعرَكةُ الشَّيطانِ)): المَعرَكةُ مَوضِعُ القِتالِ لتَعارُكِ الأبطالِ فيها، ومُصارَعةِ بَعضِهم بَعضًا، يُشبِّه السُّوقَ وفِعلَ
الشَّيطانِ بأهلِها ونَيْلَه مِنهم فيها أكثَرَ مِمَّا يَنالُ في غَيرِها؛ من حَملِهِ على الخَديعةِ والخِلابةِ والعُقودِ الفاسِدةِ والأيمانِ الكاذِبةِ، وبَلوغِه أهلَه فيهم- بمَعرَكةِ الحَربِ ومَن يُصرَعُ فيها. وقَولُه:
((وبِها يَنصِبُ رايَتَه)): إعلامًا بثُبوتِهِ هُناكَ، ومُجتَمَعِ أعوانِهِ إليكَ، وأنَّ السُّوقَ مَطِيَّةُ إغوائِهِ، ومَقامُ نَزْغِه وكَيدِه)
[4389] يُنظر: ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) (7/ 477). .
وقال
النَّوَويُّ: (الصَّلاةُ في مَأوى
الشَّيطانِ مَكروهةٌ بالِاتِّفاقِ، وذلك مِثلُ مَواضِعِ الخَمرِ والحانةِ، ومَواضِعِ المُكوسِ، ونَحوِها مِنَ المَعاصي الفاحِشةِ، والكَنائِسِ والبِيَعِ والحُشوشِ، ونَحوِ ذلك)
[4390] يُنظر: ((المجموع)) (3/162(. .