المَطْلَبُ الثَّالِثُ: الجِنسُ الَّذي مِنه إبليسُ
قال اللهُ تعالى:
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة: 34] .
وقال اللهُ سُبحانَه:
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ [الأعراف: 11] .
وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ [ص: 73-74] .
كما جاء التصريحُ في القُرآنِ بأنَّ
إبليسَ مِنَ
الجِنِّ.
قال اللهُ تعالى:
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف: 50] .
ف
إبليسُ لَم يَكُن مِنَ المَلائِكةِ وإنَّما هوَ مِنَ
الجِنِّ، والِاستِثناءُ في الآياتِ استِثناءٌ مُنقَطِعٌ.
عَنِ
الحَسَن البَصْريِّ قال: (ما كانَ
إبليسُ مِنَ المَلائِكةِ طَرْفةَ عَيٍن قَطُّ، وإنَّه لَأصلُ
الجِنِّ كما أنَّ آدَمَ أصلُ الإنسِ)
[4417] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/ 539). .
وقال عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ زَيدِ بنِ أسلَمَ: (
إبلِيسُ أبو
الجِنِّ، كما آدَمُ أبو الإنسِ)
[4418] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/ 541). .
وعَنِ
ابنِ شِهابٍ قال: (
إبليسُ أبو
الجِنِّ، كما أنَّ آدَمَ أبو الإنسِ، وآدَمُ مِنَ الإنسِ وهوَ أبوهم، و
إبليسُ مِنَ
الجِنِّ وهوَ أبوهم، وقد تَبَيَّنَ للنَّاسِ ذلك حينَ قال اللهُ:
أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي)
[4419] يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (7/ 2366). .
وقال
الزَّجَّاجُ: (قال قَومٌ من أهلِ اللُّغةِ: لَم يَكُن
إبليسُ مِنَ المَلائِكةِ، والدَّليلُ على ذلك قَولُه:
إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ، فقيلَ لهَؤُلاءِ: فكَيفَ جازَ أن يُستَثنى مِنهم، فقالوا: إنَّ المَلائِكةَ وإيَّاه أُمِروا بالسُّجودِ، قالوا: ودَليلُنا على أنَّه أُمِرَ معهم قَولُه:
إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى)، فلَم يَأبَ إلَّا وهوَ مَأمورٌ. وهَذا القَولُ هوَ الَّذي نَختارُه؛ لأنَّ
إبليس كانَ مِنَ
الجِنِّ، كما قال عزَّ وجلَّ)
[4420] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) (1/ 113). .
وقال
ابنُ حَزْمٍ: (ادَّعى قَومٌ أنَّ
إبليسَ كانَ مَلَكًا فعصى، وحاشا للهِ مِن هَذا؛ لأنَّ الله تعالى قد كذَّبَ هَذا القَولَ بقَولِه تعالى:
إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ، وبقولِه:
أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي [الكهف: 50] ولا ذُرِّيَّةَ للملائكةِ، وبقَولِه تعالى:
إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف: 27] ، وبِإخبارِهِ أنَّه خَلَقَ
إبليسَ من نارِ السَّمُومِ، وصَحَّ عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال:
((خُلِقَتِ المَلائِكةُ من نُورٍ)) [4421] أخرجه مسلم (2996) مطولًا من حديث عائشة رَضِيَ اللهُ عنها. ، والنُّورُ غَيرُ النَّارِ بلا شَكٍّ؛ فصَحَّ أنَّ
الجِنَّ غَيرُ المَلائِكةِ، والمَلائِكةُ كُلُّهم خيارٌ مُكْرَمون بنصِّ القُرآنِ، و
الجِنُّ والإنسُ فيهما مَذمومٌ ومَحمودٌ)
[4422] يُنظر: ((الفصل)) (4/28). .
وقال
الزَّمَخشَريُّ: (إن قُلتَ:
إبليسُ كانَ جِنِّيًّا بدَليلِ قَولِه تعالى:
كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ فمِن أينَ تَناوَلَه الأمرُ وهوَ للمَلائِكةِ خاصَّةً؟ قُلتُ: كانَ في صُحبَتِهم، وكانَ يَعبُدُ اللهَ تعالى عِبادَتَهم، فلمَّا أُمِروا بالسُّجودِ لآدَمَ والتَّواضُعِ لَه كرامةً لَه، كانَ الجِنّيُّ الَّذي مَعَهم أجدَرَ بأن يتَواضَعَ، كما لَو قامَ لمُقبِلٍ على المَجْلِسِ عِلْيَةُ أهلِهِ وسَراتُهم، كانَ القيامُ على واحِدٍ بَينَهم هوَ دونَهم في المَنزِلةِ أوجَبَ، حَتَّى إنْ لَم يَقُم عُنِّفَ وقيلَ لَه: قد قامَ فلانٌ وفلانٌ، فمن أنتَ حَتَّى تَتَرَفَّعَ عَنِ القيامِ؟!
فإنْ قُلتَ: فكَيفَ صَحَّ استِثناؤُه وهوَ جِنِّي عَنِ المَلائِكةِ؟ قُلتُ: عُمِلَ على حُكمِ التَّغليبِ في إطلاقِ اسمِ المَلائِكةِ عليهم وعليهِ، فأُخرِجَ الِاستِثناءُ على ذلك، كقَولِكَ: خَرَجوا إلَّا فُلانةَ، لامرَأةٍ بَينَ الرِّجالِ)
[4423] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/91). .
وقال أيضًا في قَولِه:
إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ: (كلامٌ مُستَأنَفٌ جارٍ مَجرى التَّعليلِ بَعدَ استِثناءِ
إبليسَ مِنَ السَّاجِدِينَ، كأنَّ قائِلًا قال: ما لَه لَم يَسجُدْ؟ فقيلَ:
كَانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، والفاءُ للتَّسبيبِ أيضًا، جَعَلَ كونَه مِنَ
الجِنِّ سَبَبًا في فسقِهِ؛ لأنَّه لَو كانَ مَلَكًا كسائِرِ مَن سَجَدَ لآدَم لَم يَفسُقْ عَن أمرِ اللَّهِ؛ لأنَّ المَلائِكةَ مَعصومونَ البَتَّةَ، لا يَجوزُ عليهم ما يَجوزُ على
الجِنِّ والإنسِ)
[4424] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/727). .
وقال
الرَّازي: (لا يَجوزُ أن يَكونَ المُرادُ من قَولِه:
كانَ مِنَ الجِنِّ أنَّه كانَ خازِنَ الجَنَّةِ؛ لأنَّ قَولَه:
إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنِّ يُشعِرُ بتَعليلِ تَركِهِ للسُّجودِ لكَونِهِ جِنيًّا، ولا يُمكِنُ تَعليلُ تَركِ السُّجودِ بكَونِهِ خازِنًا للجَنَّةِ)
[4425] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (2/428). .
ورَدَّ
الرَّازي أيضًا القَولَ بأنَّ مَعنى قَولِه:
كَانَ مِنَ الجِنِّ بمَعنى صارَ، فقال: (هَذا خِلافُ الظَّاهِرِ، فلا يُصارُ إليهِ إلَّا عِندَ الضَّرورةِ)
[4426] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (2/429). .
وقال
ابنُ تَيميَّةَ: (لَم يَكُن في المَأمورينَ بالسُّجودِ أحَدٌ مِنَ الشَّياطينِ؛ لَكِنْ أبوهم
إبليسُ هوَ كانَ مَأمورًا فامتَنَعَ وعَصى، وجَعلَه بَعضُ النَّاسِ مِنَ المَلائِكةِ لدُخولِهِ في الأمرِ بالسُّجودِ، وبَعضُهم مِنَ
الجِنِّ؛ لأنَّ لَه قَبيلًا وذُرِّيَّةً ولِكَونِهِ خُلِقَ من نارٍ والمَلائِكةُ خُلِقوا من نُورٍ. والتَّحقيقُ: أنَّه كانَ مِنهم باعتِبارِ صورَتِهِ ولَيسَ مِنهم باعتِبارِ أصلِهِ ولا باعتِبارِ مِثالِهِ، ولَم يَخرُجْ مِنَ السُّجودِ لآدَمَ أحَدٌ مِنَ المَلائِكةِ: لا جِبرائيلُ ولا
ميكائيلُ ولا غَيرُهما)
[4427] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (4/ 346). .
وقال السَّمينُ الحَلبيُّ: (رَدَّ هَذا ابنُ فَورك وقال: تَرُدُّه الأصولُ. والأظهَرُ أنَّها على بابِها، والمَعنى: وكانَ مِنَ القَومِ الكافِرينَ الَّذينَ كانوا في الأرضِ قَبلَ خَلقِ آدَمَ على ما رُويَ، أو: وكانَ في عِلمِ اللَّهِ)
[4428] يُنظر: ((الدر المصون في علوم الكتاب المكنون)) (1/ 278). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (إنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أمرَ المَلائِكةَ بالسُّجودِ لآدَمَ دَخلَ
إبليسُ في خِطابِهم؛ لأنَّه وإن لَم يَكُن من عُنصُرِهم، إلَّا أنَّه كانَ قد تَشبَّه بهم وتوسَّمَ بأفعالِهم؛ فلِهَذا دَخلَ في الخِطابِ لَهم، وذُمَّ في مُخالَفَتِهِ الأمرَ)
[4429] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/230). .
وقال أيضًا: (قَولُه:
فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنِّ أي: خانَه أصلُه؛ فإنَّه خُلقَ من مارِجٍ من نارٍ، وأصلُ خَلقِ المَلائِكةِ من نورٍ، كما ثَبَتَ في صَحيحِ
مُسْلِمٍ عَن
عائِشةَ، عَن رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أنَّه قال:
((خُلِقَتِ المَلائِكةُ من نُورٍ، وخُلقَ إبليسُ من مارِجٍ من نارٍ، وخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُم )). فعِندَ الحاجةِ نَضحَ كُلُّ وِعاءٍ بما فيه، وخانَه الطَّبعُ عِندَ الحاجةِ، وذلك أنَّه كانَ قد توَسَّمَ بأفعالِ المَلائِكةِ وتَشبَّه بهم، وتَعَبَّدَ وتَنَسَّكَ؛ فلِهَذا دَخلَ في خَطابِهم، وعَصى بالمُخالَفةِ. ونَبَّه تعالى هاهُنا على أنَّه
مِنَ الجِنِّ أي: إنَّه خُلِقَ من نارٍ، كما قال:
أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12، ص:76].
قال
الحَسَنُ البَصْريُّ: ما كانَ
إبليسُ مِنَ المَلائِكةِ طَرفةَ عَينٍ قَطُّ، وإنَّه لَأصلُ
الجِنِّ، كما أنَّ آدَمَ، عليهِ السَّلامُ، أصلُ البَشَرِ. رَواه
ابنُ جَريرٍ بإسنادٍ صَحيحٍ عَنه)
[4430] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/ 167). .
وقال
ابن حجر الهيتمي: (مِنَ الواضِحِ أنَّ دَلالةَ
كَانَ مِنَ الجِنِّ لأنَّ كونَه مِنهم أظهَرُ من دَلالةِ الِاستِثناءِ على كونِهِ مِنَ المَلائِكةِ؛ لأنَّه يَأتي مُنقَطِعًا كثيرًا، قال تعالى:
مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ [النساء: 157] )
[4431] يُنظر: ((الفتاوى الحديثية)) (ص: 91). .
وقال
ابنُ عاشور: (واستِثناءُ
إبليسَ من ضَميرِ المَلائِكةِ في
فَسَجَدُوا استِثناءٌ مُنقَطِعٌ؛ لأنَّ
إبليسَ لَم يَكُن من جِنسِ المَلائِكةِ، قال تعالى في سورةِ الكَهفِ
إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنِّ ولَكِنَّ الله جَعلَ أحوالَه كأحوالِ النُّفوسِ المَلَكيَّةِ بتَوفيقٍ غَلَبَ على جِبِلَّتِه لتَتَأتَّى مُعاشَرَتُه بهم وسَيرُهُ على سِيرَتِهم، فساغَ استِثناءُ حالِهِ من أحوالِهم في مَظِنَّةِ أن يَكونَ مُماثِلًا لمن هوَ فيهم.
وقد دلَّتِ الآيةُ على أنَّ
إبليسَ كانَ مَقصودًا في الخَبَرِ الَّذي أخبَرَ بهِ المَلائِكةَ؛ إذ قال للمَلائِكةِ:
إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البَقرةِ: 30] وفي الأمرِ الَّذي أمر بهِ المَلائِكةَ؛ إذ قال لَهُمُ اسجُدوا لآدَمَ؛ ذلك أنَّ جِنسَ المُجَرَّداتِ كانَ في ذلك العالَمِ مَغمورًا بنَوعِ المَلَكِ؛ إذ خَلقَ اللَّهُ من نَوعِهم أفرادًا كثيرةً كما دَلَّ عليهِ صيغةُ الجَمعِ في قَولِه:
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ [البَقرة: 30] ، ولَم يَخلُقِ اللهُ من نَوعِ
الجِنِّ إلَّا أصلَهم، وهوَ
إبليسُ، وخَلقَ من نَوعِ الإنسانِ أصلَهم وهوَ آدَمُ. وقد أقامَ اللهُ
إبليسَ بَينَ المَلائِكةِ إقامةَ ارتياضٍ وتَخَلُّقٍ وسَخَّرَه لاتِّباعِ سُنَّتِهم، فجرى على ذلك السَّنَنِ أمَدًا طَويلًا لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ، ثُمَّ ظَهَرَ ما في نَوعِه مِنَ الخُبْثِ، كما أشارَ إليهِ قَولُه تعالى:
فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ في سورةِ الكَهفِ، فعَصى رَبَّه حينَ أمرَه بالسُّجودِ لآدَمَ. و
إبليسُ اسمُ
الشَّيطانِ الأوَّلِ الَّذي هوَ مولدُ الشَّياطينِ، فكانَ
إبليسُ لنَوعِ الشَّياطينِ و
الجِنِّ بمَنزِلةِ آدَمَ لنَوعِ الإنسانِ)
[4432] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (1/ 423). .
وقال
الشِّنْقيطيُّ في قَولِ اللهِ تعالى:
كَانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرٍ رَبِّهِ: (ظاهِرٌ في أنَّ سَبَبَ فِسْقِه عَن أمرِ رَبِّه كونُه مِنَ
الجِنِّ، وقد تَقَرَّرَ في الأصولِ في مَسلَكِ النَّصِّ وفي مَسلَكِ الإيماءِ والتَّنبيهِ أنَّ الفاءَ مِنَ الحُروفِ الدَّالَّةِ على التَّعليلِ، كقَولِهم: سَرَقَ فقُطِعَت يَدُه، أي: لأجلِ سَرِقَتِه، وسَها فسَجَدَ، أي: لأجْلِ سَهوهِ، ومن هَذا القَبيلِ قَولُه تعالى:
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة: 38] أي: لعَلَّةِ سَرِقَتِهما، وكَذلك قَولُه هُنا:
كَانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ أي: لِعَلَّةِ كينونَتِهِ مِنَ
الجِنِّ؛ لأنَّ هَذا الوَصفَ فَرَّق بَينَه وبَينَ المَلائِكةِ؛ لأنَّهم امتَثَلوا الأمرَ وعَصا هوَ)
[4433] يُنظر: ((أضواء البيان)) (3/290). .
وقال أيضًا: (ما يَذكُرُه المُفَسِّرونَ عَن جَماعةٍ مِنَ السَّلَفِ
كابِن عَبَّاسٍ وغَيرِهِ من أنَّه كانَ من أشرافِ المَلائِكةِ، ومن خُزَّانِ الجَنَّةِ، وأنَّه كانَ يُدَبِّرُ أمرَ السَّماءِ الدُّنيا، وأنَّه كانَ اسمُه عزازيلَ؛ كُلُّه مِنَ الإسرائيليَّاتِ الَّتي لا مُعَوَّلَ عليها)
[4434] يُنظر: ((أضواء البيان)) (3/291). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (الجُملةُ استِئنافيَّةٌ لبَيانِ حالِ
إبليسَ أنَّه كانَ مِنَ
الجِنِّ، أي: من هَذا الصِّنفِ، وإلَّا فهوَ أبوهم... فإذا قال قائِلٌ: إنَّ ظاهِرَ القُرآنِ أنَّ
إبليسَ كانَ مِنَ المَلائِكةِ؟
فالجَوابُ: لا، لَيسَ ظاهِرَ القُرآنِ؛ لأنَّه قال:
إِلَّا إِبْلِيسَ ثُمَّ ذَكَرَ أنَّه
كَانَ مِنَ الجِنِّ، نَعَم القُرآنُ يَدُلُّ على أنَّ الأمرَ توَجَّه إلى
إبليسَ كما قد توَجَّه إلى المَلائِكةِ، ولَكِن لماذا؟ قال العُلَماءُ: إنَّه كانَ -أي:
إبليسُ- يَأتي إلى المَلائِكةِ ويَجتَمِعُ إليهم، فوُجِّه الخِطابُ إلى هَذا المُجتَمَعِ مِنَ المَلائِكةِ الَّذينَ خُلِقوا مِنَ النُّور، ومِنَ
الشَّيطانِ الَّذي خُلِقَ مِنَ النَّارِ، فرَجَعَ المَلائِكةُ إلى أصلِهم، و
الشَّيطانُ إلى أصلِهِ، وهوَ الِاستِكبارُ والإباءُ والمُجادَلةُ بالباطِلِ)
[4435] يُنظر: ((تفسير سورة الكهف)) (ص: 91). .
وقيلَ: إنَّ
إبليسَ كانَ مِنَ المَلائِكةِ، والِاستِثناءُ الوارِدُ في الآياتِ استِثناءٌ مُتَّصِلٌ، قال
القُرطُبيُّ: (هوَ قَولُ جُمهورِ العُلَماءِ،
كابنِ عَبَّاسٍ، و
ابنِ مَسعودٍ، وابنُ جُرَيجٍ، و
سَعيدِ بنِ المُسَيِّبِ، وقَتادةَ وغَيرِهم، وهوَ اختيارُ الشَّيخِ
أبي الحَسَن الأشعَريِّ، والشَّيخِ
موَفَّقِ الدِّين ابنِ قُدامةَ، وأئِمَّةِ المالِكيَّةِ، ورَجَّحَه
الطَّبَريُّ، وهوَ ظاهِرُ الآيةِ)
[4436] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (1/294). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/535 - 543)، ((تفسير ابن عطية)) (1/124). . والرَّاجِحُ أنَّه مِنَ
الجِنِّ.