المَطْلَبُ الأوَّلُ: الأدِلَّةُ مِنَ القُرآنِ على تَكليفِ الجِنِّ
1- قال اللهُ تعالى:
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56].
قال ابنُ عَطِيَّةَ: (مَعنى قَولِه:
وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] أي: لآمُرَهم بالعِبادةِ، وأُوجِبَها عليهم)
[4442] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/ 216). .
2- قال اللهُ سُبحانَه:
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف: 29-31] .
قال
ابن القَيِّم: (قال تعالى:
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ... [الأحقاف: 29] فهَذا يَدُلُّ على تَكليفِهم من وُجوهٍ مُتَعَدِّدةٍ:
أحَدُها: أنَّ اللهَ سُبْحانَه وتعالى صَرفَهم إلى رَسولِهِ يَستَمِعونَ القُرآنَ ليُؤمِنوا بهِ، ويَأتَمِروا بأوامِرِه، ويَنتَهوا عَن نَواهيه.
الثَّاني: أنَّهم ولَّوا إلى قَومِهم مُنذِرينَ، والإنذارُ هوَ الإعلامُ بالخَوفِ بَعدَ انعِقادِ أسبابِه، فعُلِمَ أنَّهم مُنذِرونَ لَهم بالنَّارِ إنْ عَصَوا الرَّسولَ.
الثَّالِثُ: أنَّهم أخبَروا أنَّهم سَمِعوا القُرآنَ وعَقَلوه وفَهِموه، وأنَّه يَهْدي إلى الحَقِّ، وهَذا القَولُ مِنهم يَدُلُّ على أنَّهم عالِمونَ بموسى وبِالكِتابِ المَنزَّلِ عليهِ، وأنَّ القُرآنَ مَصدِّقٌ لَه، وأنَّه هادٍ إلى صِراطٍ مُستَقيمٍ، وهَذا يَدُلُّ على تَمَكُّنِهم مِنَ العِلمِ الَّذي تَقومُ بهِ الحُجَّةُ، وهم قادِرونَ على امتِثالِ ما فيه، والتَّكليفُ إنَّما يَستَلزِمُ العِلمَ والقُدرةَ.
الرَّابِعُ: أنَّهم قالوا لقَومِهم:
يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ [الأحقاف: 30] .
وهَذا صَريحٌ في أنَّهم مُكَلَّفون، مَأمورون بإجابةِ الرَّسولِ، وهيَ تَصديقُه فيما أخبَرَ، وطاعَتُه فيما أمرَ)
[4443] يُنظر: ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 421). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (
يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ فيه دَلالةٌ على أنَّه تعالى أرسَلَ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى الثَّقلَينِ:
الجِنِّ والإنسِ؛ حَيثُ دَعاهم إلى اللَّهِ تعالى، وقَرَأ عليهمُ السُّورةَ الَّتي فيها خِطابُ الفَريقَينِ، وتَكليفُهم ووَعْدُهم ووَعيدُهم، وهيَ سورةُ الرَّحمَنِ؛ ولهذا قال:
أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ)
[4444] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/ 303). .
وقال
الألوسيُّ في قَولِه تعالى:
يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ: (هَذا ونَحوُه يَدُلُّ على أنَّ
الجِنَّ مُكَلَّفون)
[4445] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (13/189). .
3- قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [الجن: 1 -2] .
قال
السَّعْديُّ: (أي:
قُلْ يا أيُّها الرَّسولُ للنَّاسِ
أُوحِيَ إِليَّ أنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنِّ صَرفَهُمُ اللهُ إلى رَسولِه لسَماعِ آياتِهِ لتَقومَ عليهمُ الحُجَّةُ وتَتِمَّ عليهمُ النِّعْمةُ ويَكونوا نُذُرًا لقَومِهم. وأمرَ اللهُ رَسولَه أن يَقُصَّ نَبأَهم على النَّاسِ، وذلك أنَّهم لما حَضروه قالوا: أنصِتوا، فلما أنصَتوا فَهِموا مَعانِيَه، ووَصَلَت حَقائِقُه إلى قُلوبِهم،
فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا أي: مِنَ العَجائِبِ الغاليةِ، والمَطالِبِ العاليةِ.
يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ والرُّشدُ: اسمٌ جامِعٌ لكُلِّ ما يُرشِدُ النَّاسَ إلى مَصالِحِ دينِهم ودُنياهم،
فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا فجَمَعوا بَينَ الإيمانِ الَّذي يَدخُلُ فيه جَميعُ أعمالِ الخَيرِ، وبَينَ التَّقوى المُتَضَمِّنةِ لتَركِ الشَّرِّ)
[4446] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 890). .
4- قال اللهُ تعالى:
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا [الأنعام: 130] .
قال
ابنُ القَيِّمِ: (الآيةُ تَدُلُّ على أنَّ
الجِنَّ كانوا مُتَعَبِّدينَ بشَرائِعِ الرُّسُلِ قَبلَ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم... وعلى هَذا فيَكونُ اختِصاصُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالبَعثةِ إلى الثَّقَلَين إلى جَميعِهم لا إلى بَعضِهم، ومن قَبلَه كانَ يُبعَثُ إلى طائِفةٍ مَخصوصةٍ)
[4447] يُنظر: ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 421). .
5- سورةُ الرَّحمَنِ؛ إذ يَقولُ اللهُ تعالى فيها بَعدَ الحَديثِ عَن نِعَمِه على عِبادِه:
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرَّحمَن: 13]، حَيثُ ورَدَ هَذا الخِطابُ في واحِدٍ وثَلاثينَ مَوضِعًا من سورةِ الرَّحمَنِ، وهوَ خِطابٌ للجِنِّ والإنسِ مَعًا.
قال
ابنُ القَيِّمِ: (قد دَلَّت سورةُ الرَّحمَنِ على تَكليفِهم بالشَّرائِعِ كما كُلِّفَ الإنسُ؛ ولِهَذا يَقولُ في إثرِ كُلِّ آيةٍ:
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، فدَلَّ على أنَّ السُّورةَ خِطابٌ للثَّقلَينِ مَعًا)
[4448] يُنظر: ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 417). .
6- قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ [الرحمن: 31].
قال
ابنُ القَيِّمِ: (مِمَّا يَدُلُّ على أنَّهم مَأمورنَ مَنْهيونَ بشَريعةِ الإسلامِ ما تَضَمَّنَته سورةُ الرَّحمَنِ؛ فإنَّه سُبْحانَه وتعالى ذَكرَ خَلقَ النَّوعَينِ في قَولِه تعالى:
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالفَخَّارِ * وخَلَقَ الجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ثُمَّ خاطَبَ النَّوعَين بالخِطابِ المُتَضَمِّنِ لاستِدعاءِ الإيمانِ مِنهم، وإنكارِ تَكذيبِهم بالآيةِ، وتَرغيبِهم في وعدِهِ، وتَخويفِهم من وعيدِهِ، وتَهديدِهم بقَولِه تعالى:
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّها الثَّقَلَانِ، وتَخويفِهم من عَواقِبِ ذُنوبِهم، وأنَّه لعِلمِهِ بها لا يَحتاجُ أن يَسألَهم عَنها سُؤالَ استِعلامٍ، بَل يُعرَفُ المُجرِمونُ مِنهم بسِيماهم، فيُؤخَذُ بنَواصيهم والأقدامِ، ثُمَّ ذَكرَ عِقابَ الصِّنفَين وثَوابَهم.
وهَذا كُلُّه تَصريحٌ في أنَّهم هُمُ المُكَلَّفونُ المَأمورونَ المُنهِيُّونَ المُثابونَ المُعاقَبونَ)
[4449] يُنظر: ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 422). .
7- قال اللهُ تعالى:
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الأحقاف: 18 - 19] .
قال
ابنُ القَيِّمِ: (أخبَرَ أنَّ مِنهم مَن حَقَّ عليهِ القَولُ، أي: وجَبَ عليهِ العذابُ، وأنَّه خاسِرٌ، ولا يَكونُ ذلك إلَّا في أهلِ التَّكليفِ المُستوجِبينَ العِقابَ بأعمالِهم، ثُمَّ قال بَعدَ ذلك:
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أي: في الخَيرِ والشَّرِّ يُوفَّونَها ولا يُظلَمونَ شَيئًا من أعمالِهم، وهَذا ظاهِرٌ جِدًّا في ثَوابِهم وعِقابِهم، وأنَّ مُسيئَهم كما يَستَحِقُّ العَذابَ بإساءَتِه فمُحسِنُهم يَستَحِقُّ الدَّرَجاتِ بإحسانِه، ولِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلوا، فدَلَّ ذلك لا مَحالةَ أنَّهم كانوا مَأمورين بالشَّرائِعِ، مُتَعَبَّدينَ بها في الدُّنيا؛ ولِذلك استَحَقُّوا الدَّرَجاتِ بأعمالِهم في الآخِرةِ في الخَيرِ والشَّرِّ)
[4450] يُنظر: ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 419). .
8- قال اللهُ سُبحانَه في شأنِ سُلَيمانَ عليه السَّلامُ:
وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ [سبأ: 12] .
قال
ابنُ جريرٍ: (يقولُ: ومَن يَزُلْ ويَعدِلْ من
الجِنِّ عن أمْرِنا الذي أمَرْناه من طاعةِ سُلَيمانَ
نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ في الآخرةِ، وذلك عذابُ نارِ جَهنَّمَ المُوقَدةِ)
[4451] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/ 229). .