المَبحَثُ الثَّالِثُ: مِن خصائِصِ القُرْآنِ الكريمِ تعَدُّدُ أسمائِه وصِفاتِه
وردت للقُرْآنِ الكريمِ أسماءٌ وصِفاتٌ كثيرةٌ في عَدَدٍ مِن الآياتِ والأحاديثِ النَّبَويَّةِ، ولكثرةِ هذه الأسماءِ والصِّفاتِ أفرَدَها بعضُ العُلَماءِ بمؤَلَّفاتٍ مُستَقِلَّةٍ
[292] وممَّن ألَّف فيه: علي بن أحمد التجيبي الحرالي. وذكر الزركشيُّ أن الحرالي أنهى أساميَه إلى نَيِّفٍ وتسعين، وأورد الزركشي خمسةً وخمسين اسمًا نقلها عن أبي المعالي عزيزي بن عبد الملك. يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) (1/273). وقد أوردها أيضًا السيوطي. يُنظر: ((الإتقان)) (2/336). وقال الفيروز آبادي: (ذكر اللهُ تعالى للقُرآنِ مائةَ اسمٍ نَسوقُها على نَسَقٍ واحدٍ)، لكِنَّه أورد ثلاثة وتسعين اسمًا من القرآنِ للقرآنِ. يُنظر: ((بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز)) (1/88). وألَّف ابنُ القَيِّم ِكتابَ (شرح أسماء الكتاب العزيز). يُنظر: ((ذيل طبقات الحنابلة)) لابن رجب (5/175). ومن المعاصِرين: صالح بن إبراهيم البليهي، ألَّف كتاب: (الهدى والبيان في أسماء القرآن) فذكَرَ سِتَّةً وأربعين اسمًا؛ لاعتقادِه أنَّ بَعْضَ هذا العددِ -إن لم يكُنْ أكثَرَه- أوصافٌ للقُرآنِ وليست بأسماءٍ، ومع هذا فإنَّه لم يستبعِدْ أن يكونَ بَعضُ ما ذكره هو من أوصافِ القُرآنِ وليس من أسمائِه. يُنظر: ((الهدى والبيان في أسماء القرآن)) (ص: 41-44). .
فمن أسماءِ القُرْآنِ التي استمدَّها العُلَماءُ من القُرْآنِ نَفْسِه: التنزيلُ، الكِتابُ، القُرْآنُ، الحَقُّ، الوَحيُ، النُّورُ، كلامُ اللهِ، الفُرقانُ، الرُّوحُ، البَلاغُ، حَبلُ اللهِ، البُرهانُ، وغيرُ ذلك
[293] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/1). .
قال
الفيروز آبادي: (اعلَمْ أنَّ كَثرةَ الأسماءِ تدُلُّ على شَرَفِ المسَمَّى أو كمالِه في أمرٍ مِن الأمورِ، أمَا ترى أنَّ كثرةَ أسماءِ الأَسَدِ دَلَّت على كَمالِ قُوَّتِه، وكثرةَ أسماءِ القيامةِ دَلَّت على كَمالِ شِدَّتِه وصُعوبتِه، وكثرةَ أسماءِ الدَّاهِيةِ دَلَّت على شِدَّةِ نكايتِها؟!، وكذلك كثرةُ أسماءِ اللهِ تعالى دَلَّت على كمالِ جَلالِ عَظَمتِه، وكثرةُ أسماءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَلَّت على عُلُوِّ رُتبتِه وسُمُوِّ دَرَجتِه، وكذلك كثرةُ أسماءِ القُرْآنِ دَلَّت على شَرَفِه وفَضيلتِه)
[294] يُنظر: ((بصائر ذوي التمييز)) (1/88). .
وأسماءُ القُرْآنِ تشترِكُ في دلالتِها على ذاتٍ واحِدةٍ هي القُرْآنُ الكريمُ نَفْسُه، ويمتازُ كُلُّ واحدٍ منها عن الآخَرِ بدَلالتِه على معنًى خاصٍّ؛ فكُلُّ اسمٍ للقُرْآنِ يَدُلُّ على حُصولِ معناه فيه، فتسميتُه مثلًا بالهُدى يَدُلُّ على أنَّ الهدايةَ فيه، وتسميتُه بالتَّذكِرةِ يَدُلُّ على أنَّ فيه ذِكْرى.
قال ابنُ تيميَّةَ عن لَفظِ السَّيفِ والصَّارمِ والمُهَنَّدِ: (... فإنها تشترِكُ في دَلالتِها على الذَّاتِ، فهي من هذا الوَجهِ كالمتواطِئةِ، ويمتازُ كُلٌّ منها بدَلالتِه على معنًى خاصٍّ، فتُشبِهُ المتبايِنةَ، وأسماءُ اللهِ وأسماءُ رَسولِه وكِتابِه من هذا البابِ)
[295] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (20/494). .
وقال أيضًا: (كُلُّ اسمٍ مِن أسمائِه تعالى يدُلُّ على ذاتِه وعلى ما في الاسمِ مِن صِفاتِه، ويدُلُّ أيضًا على الصِّفةِ التي في الاسمِ الآخَرِ بطَريقِ اللُّزومِ، وكذلك أسماءُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ مِثلُ: مُحَمَّدٍ، وأحمَدَ، والماحي، والحاشِرِ، والعاقِبِ، وكذلك أسماءُ القُرْآنِ؛ مِثلُ: القُرْآنِ، والفُرقانِ، والهُدى، والشِّفاءِ، والبَيانِ، والكِتابِ، وأمثالِ ذلك)
[296] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (13/334). .
وقال مُحَمَّد دِراز: (رُوعِيَ في تسميتِه قُرْآنًا كونُه مَتلوًّا بالألسُنِ، كما رُوعِيَ في تسميتِه كِتابًا كونُه مُدَوَّنًا بالأقلامِ؛ فكِلْتا التسمِيَتينِ من تسميةِ الشَّيءِ بالمعنى الواقِعِ عليه.
وفي تِسمِيَتِه بهذينِ الاسمَينِ إشارةٌ إلى أنَّ مِن حَقِّه العنايةَ بحِفْظِه في موضِعَينِ لا في موضعٍ واحدٍ، أعني أنَّه يجِبُ حِفْظُه في الصُّدورِ والسُّطورِ جميعًا؛ أن تَضِلَّ إحداهما فتُذَكِّرَ إحداهما الأخرى، فلا ثِقةَ لنا بحِفظِ حافظٍ حتى يوافِقَ الرَّسْمَ المجتَمَعَ عليه من الأصحابِ، المنقولَ إلينا جيلًا بعد جيلٍ على هيئتِه التي وُضِعَ عليها أوَّلَ مَرَّةٍ، ولا ثِقةَ لنا بكِتابةِ كاتبٍ حتى يوافِقَ ما هو عند الحافِظِ بالإسنادِ الصَّحيحِ المتواتِرِ.
وبهذه العنايةِ المُزدَوَجةِ التي بعثها اللهُ في نفوسِ الأُمَّةِ المُحَمَّديةِ؛ اقتداءً بنَبِيِّها، بَقِيَ القُرْآنُ محفوظًا في حِرزٍ حَريزٍ)
[297] يُنظر: ((النبأ العظيم)) (ص: 41). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (إنَّ هذا القُرْآنَ الذي بين أيديكم تَتْلونَه وتَسْمَعونه وتحفَظونَه وتَكتُبونَه، هو كلامُ رَبِّكم رَبِّ العالَمين، وإلهِ الأوَّلِينَ والآخِرينَ، وهو حَبلُه المتينُ، وصِراطُه المستقيمُ، وهو الذِّكرُ المبارَكُ والنُّورُ المُبِينُ، تكلَّم اللهُ به حقيقةً على الوَصفِ الذي يليقُ بجَلالِه وعَظَمتِه، وألقاه على
جِبريلَ الأمينِ أحَدِ المَلائِكةِ الكِرامِ المُقَرَّبينَ؛ فنَزَل به على قَلبِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليكونَ مِن المُنذِرينَ بلِسانٍ عَربيٍّ مُبِينٍ، وصفه اللهُ بأوصافٍ عَظيمةٍ لِتُعَظِّموه وتحتَرِموه...)، وذكر آياتٍ كثيرةً تتضَمَّنُ صِفاتٍ عديدةً للقُرْآنِ، ثمَّ قال: (فهذه الأوصافُ العظيمةُ الكثيرةُ التي نقَلْناها وغَيرُها ممَّا لم ننقُلْه؛ تدُلُّ كُلُّها على عَظَمةِ هذا القُرْآنِ، ووُجوبِ تَعظيمِه والتأدُّبِ عند تلاوتِه، والبُعدِ حالَ قِراءتِه عن الْهُزْءِ واللَّعِبِ)
[298] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (20/ 273-276). .
ومن صِفاتِه: الشَّهادةُ له بالسَّلامةِ من العِوَجِ: قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الزُّمر: 28] .
قال النَّسَفيُّ: (
غَيْرَ ذِي عِوَجٍ مستقيمًا بريئًا من التناقُضِ والاختلافِ، ولم يَقُلْ مستقيمًا؛ للإشعارِ بألَّا يكونَ فيه عِوَجٌ قَطُّ، وقيل: المرادُ بالعِوَجِ الشَّكُّ)
[299] يُنظر: ((تفسير النسفي)) (3/ 178). .
وقال
السَّعديُّ: (
قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ أي: جعلناه قُرْآنا عربيًّا، واضِحَ الألفاظِ، سَهْلَ المعاني، خصوصًا على العَرَبِ.
غَيْرَ ذِي عِوَجٍ أي: ليس فيه خَلَلٌ ولا نَقْصٌ بوَجهٍ من الوُجوهِ؛ لا في ألفاظِه ولا في معانيه، وهذا يستلزِمُ كَمالَ اعتِدالِه واستقامتِه)
[300])) يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 723). .
وقال اللهُ تعالى:
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا [الكهف: 1] .
قال
الشِّنقيطيُّ: (قَولُه تعالى في هذه الآيةِ الكريمةِ:
وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، أي: لم يجعَلْ في القُرْآنِ عِوَجًا، أي: لا اعوجاجَ فيه ألبتَّةَ، لا من جِهةِ الألفاظِ، ولا من جِهةِ المعاني، أخبارُه كُلُّها صِدْقٌ، وأحكامُه عَدلٌ، سالمٌ من جميعِ العُيوبِ في ألفاظِه ومعانيه، وأخبارِه وأحكامِه؛ لأنَّ قَولَه: «عِوَجًا» نكرةٌ في سياقِ النَّفيِ، فهي تَعُمُّ نَفْيَ جميعِ أنواعِ العِوَجِ.
وما ذكَره جَلَّ وعلا هنا من أنَّه لا اعوِجاجَ فيه، بَيَّنه في مواضِعَ أُخَرَ كثيرةٍ، كقَولِه:
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الزمر: 27، 28]، وقَولِه:
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام: 115]، فقَولُه: «صِدْقًا» أي: في الأخبارِ، وقَولُه: «عَدْلًا» أي: في الأحكامِ، وكقَولِه تعالى:
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء: 82] ، والآياتُ بمِثْلِ هذا كثيرةٌ جِدًّا)
[301])) يُنظر: ((أضواء البيان)) (3/ 192). .