المَبْحَثُ الثَّاني: صالِحون مُختَلَفٌ في نُبُوَّتِهم
1- ذو القَرنَينِ:ممَّن رَجَّح نُبُوَّتَه:
الرَّازي [480] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (21/495). .
قال
الرَّازي: (اختَلَفوا في ذي القَرنَينِ هل كان من الأنبياءِ أم لا؟ منهم من قال: إنَّه كان نبيًّا، واحتَجُّوا عليه بوجوهٍ. الأوَّلُ: قَولُه:
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ والأَولى حَملُه على التمكينِ في الدِّينِ، والتمكينُ الكامِلُ في الدِّينِ هو النُّبُوَّةُ. والثَّاني: قَولُه:
وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ومِن جملةِ الأشياءِ النُّبُوَّةُ، فمقتضى العُمومِ في قَولِه:
وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا هو أنَّه تعالى آتاه في النُّبُوَّةِ سَبَبًا.
الثَّالِثُ: قَولُه تعالى:
قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا، والذي يتكلَّمُ اللهُ معه لا بُدَّ أن يَكونَ نبيًّا.
ومنهم من قال: إنَّه كان عبدًا صالحًا وما كان نبيًّا...
وأمَّا قَولُه تعالى:
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ فهذا التمكينُ يحتَمِلُ أن يَكونَ المرادُ منه التمكينَ بسَبَبِ النُّبُوَّةِ، ويحتَمِلُ أن يَكونَ المرادُ منه التمكينَ بسَبَبِ المُلْكِ؛ مِن حيثُ إنَّه مَلَك مَشارِقَ الأرضِ ومَغارِبَها. والأوَّلُ أَولى؛ لأنَّ التمكينَ بسَبَبِ النُّبُوَّةِ أعلى من التمكينِ بسَبَبِ المُلْكِ، وحملُ كلامِ اللهِ على الوَجهِ الأكمَلِ الأفضَلِ أَولى)
[481] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (21/ 495). .
وقال
ابنُ الجوزي: (اختلفوا هل كان نَبيًّا أم لا؟
فقال
عبدُ اللهِ بنُ عَمرٍو، و
سَعيدُ بنُ المُسَيِّبِ، والضَّحَّاكُ بنُ مُزاحمٍ: كان نبيًّا.
وخالفهم الأكثرونَ في هذا، فرُوِّينا عن عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال: كان عبدًا صالحًا أمَرَ قَومَه بتقوى اللهِ، لم يَكُنْ نبيًّا ولا مَلِكًا. وقال وَهبٌ: كان مَلِكًا ولم يُوحَ إليه.
وقال أحمدُ بنُ جَعفرٍ المنادي: كان على دينِ إبراهيمَ)
[482] يُنظر: ((المنتظم في تاريخ الملوك والأمم)) (1/ 287). .
وممَّن رجَّح أنَّه كان مَلِكًا صالحًا:
ابنُ كثيرٍ، ونسب
ابنُ حَجَرٍ هذا القولَ إلى أكثَرِ العُلَماءِ.
قال ابنُ عطيَّةَ: (اختُلِفَ في ذي القَرنَينِ؛ فقيل: هو نَبيٌّ. وهذا ضعيفٌ. وقيل: هو مَلَكٌ، بفَتحِ اللَّامِ... وقيل: هو عَبدٌ مَلِكٌ -بكَسرِ اللَّامِ- صالحٌ، نَصَح للهِ فأيَّده. قاله عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وقال: فيكم اليَومَ مِثْلُه، وعنى بذلك نَفْسَه. والله أعلَمُ)
[483] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/ 538). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (ذكر اللهُ تعالى ذا القَرنينِ هذا، وأثنى عليه بالعَدْلِ، وأنَّه بلغ المشارِقَ والمغارِبَ، وملك الأقاليمَ وقهر أهلَها، وسار فيهم بالمعدَلةِ التَّامَّةِ، والسُّلطانِ المُؤَيَّدِ المظفَّرِ المنصورِ القاهِرِ المُقسِطِ. والصَّحيحُ أنَّه كان مَلِكًا من الملوكِ العادلين، وقيل: كان نبيًّا. وقيل: كان رسولًا. وأغْربَ من قال: مَلَكًا مِنَ الملائكةِ)
[484] يُنظر: ((البداية والنهاية)) (2/536). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ: (قد اختُلِفَ في ذي القَرنَينِ؛ فقيل: كان نبيًّا... وهذا مرويٌّ أيضًا عن
عبدِ اللهِ بن عَمرِو بن العاصِ، وعليه ظاهِرُ القُرآنِ... وذكر وَهبٌ في «المبتدأ» أنَّه كان عبدًا صالحًا... وقيل: كان مَلَكًا من الملائكةِ... وقيل: كان من الملوكِ، وعليه الأكثَرُ)
[485] يُنظر: ((فتح الباري)) (6/383). .
2- تُبَّعٌ:ورد ذِكْرُ تُبَّعٍ في القُرآنِ الكريمِ.
قال اللهُ تعالى:
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [الدخان: 37] .
وقال اللهُ سُبحانَه:
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ [ق: 12-14] .
فهل كان نبيًّا مُرْسَلًا إلى قَومِه فكَذَّبوه، فأهلكهم اللهُ؟
قال ابنُ عطيَّة: (تُبَّعٌ: مَلِكٌ حِمْيَريٌّ، وكان يُقالُ لكُلِّ مَلِكٍ منهم: (تُبَّعٌ)، إلَّا أنَّ المشارَ إليه في هذه الآيةِ رجلٌ صالحٌ من التبابِعَةِ. قال كَعبُ الأحبارِ: ذَمَّ اللهُ تعالى قومَه ولم يَذُمَّه، ونهى العُلَماءُ عن سَبِّه)
[486] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/ 75). .
وقال
ابنُ الجوزي: (أسلم تُبَّعٌ، وكان رجلًا صالحًا، فذكره اللهُ تعالى ولم يَذُمَّه، وذَمَّ قَومَه...
وقال أبو الحُسَينِ بن المنادي: ليس ببعيدٍ أن يَكونَ قومُ تُبَّعٍ نُسِبوا إليه؛ لأنَّه نَبيٌّ.
وقد ذهب قومٌ إلى أنَّه كان في الفترةِ بعد عيسى. واللهُ أعلَمُ)
[487] يُنظر: ((المنتظم في تاريخ الملوك والأمم)) (1/ 416). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (كانت حِمْيَرٌ -وهم سَبَأٌ-كُلَّما مَلَك فيهم رَجُلٌ سَمَّوه تُبَّعًا، كما يُقالُ: كِسْرى لِمَن ملك الفُرْسَ، وقَيصَرُ لِمن ملك الرُّومَ، وفِرعَونُ لِمن مَلَك مِصرَ كافِرًا، والنَّجاشيُّ لمن ملك الحبشةَ، وغيرُ ذلك من أعلامِ الأجناسِ. ولكنِ اتَّفَقَ أنَّ بَعْضَ تبابِعَتِهم خرج من اليمَنِ وسار في البلادِ حتى وصل إلى سَمَرْقَنْدَ، واشتَدَّ مُلكُه وعَظُم سُلطانُه وجَيشُه... وكأنَّه -واللهُ أعلَمُ-كان كافِرًا، ثم أسلَمَ وتابَعَ دينَ الكَليمِ على يَدَيْ من كان من أحبارِ اليَهودِ في ذلك الزَّمانِ على الحَقِّ قبل بَعثةِ المسيحِ عليه السَّلامُ... وذكر ابنُ أبي الدنيا أنَّه حُفِرَ قَبرٌ بصَنعاءَ في الإسلامِ، فوَجَدوا فيه امرأتينِ صَحيحَتَينِ، وعند رُؤوسِهما لوحٌ مِن فِضَّةٍ مَكتوبٌ فيه بالذَّهَبِ: «هذا قَبرُ حُبَّى ولَمِيس -ورُوِيَ: حُبَّى وتُماضرَ- ابنَتَي تُبَّعٍ، ماتَتا وهما تَشهدَانِ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، ولا تُشرِكان به شيئًا، وعلى ذلك مات الصَّالحون قَبْلَهما»... قال قتادة: ذُكِر لنا أنَّ كَعبًا كان يقولُ في تُبَّعٍ: نُعِتَ نَعْتَ الرَّجُلِ الصَّالحِ؛ ذَمَّ اللهُ تعالى قَوْمَه ولم يَذُمَّه. قال: وكانت
عائِشةُ تَقولُ: لا تَسُبُّوا تُبَّعًا؛ فإنَّه قد كان رجلًا صالِحًا)
[488] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/256-285). .
3- الخَضِرُ: الخَضِرُ: هو العَبدُ الصَّالحُ الذي رحل إليه موسى عليه السَّلامُ ليَطلُبَ منه علمًا، وقد حدَّثنا اللهُ عن خبَرِهما في سورةِ الكَهْفِ.
قال
ابنُ الجوزيِّ: (هل كان الخَضِرُ نَبيًّا، أم لا؟ فيه قولان: ذكَرَهما أبو بكرِ بنُ الأنباريِّ، وقال: كثيرٌ مِنَ النَّاسِ يذهَبُ إلى أنَّه كان نبيًّا، وبَعضُهم يقولُ: كان عبدًا صالحًا)
[489] يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/97). .
وقال
ابنُ حزم: (الخَضِرُ عليه السَّلامُ نَبيٌّ... قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ حاكِيًا عن الخَضِرِ:
وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف: 82] ؛ فصَحَّت نُبُوَّتُه)
[490] يُنظر: ((المحلى)) (1/ 71). .
وقال
القُرطبيُّ: (الخَضِرُ: نَبيٌّ عند الجمهورِ. وقيل: هو عبدٌ صالحٌ غيرُ نَبيٍّ، والآيةُ تَشهَدُ بنُبُوَّتِه لأنَّ بواطِنَ أفعالِه لا تكونُ إلَّا بوَحيٍ. وأيضًا فإنَّ الإنسانَ لا يتعَلَّمُ ولا يتَّبِعُ إلَّا من فَوقَه، وليس يجوزُ أن يَكونَ فوقَ النَّبِيِّ مَن ليس بنبيٍّ. وقيل: كان مَلَكًا أمر اللهُ موسى أن يأخُذَ عنه مِمَّا حمله من عِلمِ الباطِنِ. والأوَّلُ الصَّحيحُ. واللهُ أعلَمُ)
[491] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/ 16). .
وذهب
ابنُ كثيرٍ إلى أنَّ سِياقَ القِصَّةِ يَدُلُّ على نُبُوَّتِه مِن وُجوهٍ؛ منها:
الوَجهُ الأوَّلُ: قَولُ موسى له:
هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أمْرًا قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف: 66-70] .
فلو كان وَلِيًّا وليس بنبيٍّ، لم يخاطِبْه موسى بهذه المخاطَبةِ، ولم يَرُدَّ على موسى هذا الرَّدَّ، بل موسى إنما سأل صُحبَتَه لينالَ ما عنده من العِلْمِ الذي اختصَّه اللهُ به دونَه، فلو كان غيرَ نَبيٍّ لم يَكُنْ معصومًا، ولم تكُنْ لِموسى -وهو نَبيٌّ عظيمٌ، ورسولٌ كريمٌ، واجِبُ العِصمةِ- كبيرُ رَغبةٍ، ولا عظيمُ طَلِبةٍ في عِلمِ وَلِيٍّ غيرِ واجِبِ العِصمةِ، ولَمَا عزم على الذَّهابِ إليه، والتفتيشِ عليه، ولو أنَّه يمضي حُقُبًا من الزَّمانِ، ثمَّ لَمَّا اجتمع به تواضَعَ له وعَظَّمه، واتَّبَعه في صورةِ مُستفيدٍ منه؛ فدَلَّ على أنَّه نَبيٌّ مِثْلُه يُوحى إليه كما يُوحى إليه، وقد خُصَّ مِنَ العُلومِ اللَّدُنِّيةِ والأسرارِ النَّبَويَّة بما لم يُطلِعِ اللهُ عليه موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ الخَضِرَ أقدَمَ على قَتلِ ذلك الغُلامِ، وما ذاك إلَّا للوَحيِ إليه من اللهِ تعالى، وهذا دليلٌ على نبُوَّتِه، وبرهانٌ ظاهِرٌ على عِصمَتِه؛ لأنَّ الوَلِيَّ لا يجوزُ له الإقدامُ على قَتلِ النُّفوسِ بمجَرَّدِ ما يُلقى في خَلَدِه؛ لأنَّ خاطِرَه ليس بواجِبِ العِصمةِ؛ إذ يجوزُ الخطَأُ عليه بالاتِّفاقِ، ولَمَّا أقدَمَ الخَضِرُ على قَتلِ ذلك الغُلامِ الذي لم يَبلُغِ الحُلُمَ عِلْمًا منه بأنَّه إذا بلغ يَكفُرُ، ويحمِلُ أبَوَيه على الكُفْرِ لشِدَّةِ محبَّتِهما له، فيُتابِعانه عليه؛ ففي قَتْلِه مَصلحةٌ عَظيمةٌ تربو على بقاءِ مُهجَتِه صيانةً لأبويه عن الوُقوعِ في الكُفْرِ وعُقوبتِه- دلَّ على نبُوَّتِه.
الوَجهُ الثَّالِثُ: أنَّه لَمَّا فَسَّر الخَضِرُ تأويلَ تلك الأفعالِ لموسى، ووضَّح له عن حقيقةِ أَمْرِه، قال بعد ذلك كُلِّه:
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف: 82] ، أي: ما فعَلْتُه من تلقاءِ نفسي، بل أُمِرْتُ به، وأُوحِيَ إليَّ فيه
[492] يُنظر: ((البداية والنهاية)) (2/248). .
وقال
الشاطبيُّ: (أمَّا قِصَّةُ الخَضِرِ عليه السَّلامُ وقَولُه:
وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف: 82] ، فيظهَرُ به أنَّه نَبيٌّ، وذهب إليه جماعةٌ مِنَ العُلَماءِ استِدلالًا بهذا القَولِ)
[493] يُنظر: ((الموافقات)) (2/ 507). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ: (بابُ ما ورد في كونِه نَبِيًّا
قال اللهُ تعالى في خبره عن موسى، حكايةً عنه: (... وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي...).
وهذا ظاهِرٌ أنَّه بأمرٍ مِنَ اللهِ، والأصلُ عَدَمُ الواسِطةِ، ويحتَمِلُ أن يَكونَ بواسِطةِ نَبيٍّ آخَرَ لم يَذكُرْه، وهو بعيدٌ.
ولا سبيلَ إلى القَولِ بأنَّه إلهامٌ؛ لأنَّ ذلك لا يَكونُ من غيرِ النَّبِيِّ وَحيًا حتى يَعمَلَ به ما عَمِل؛ مِن قَتْلِ النَّفسِ، وتعريضِ الأنفُسِ للغَرَقِ. فإنْ قُلْنا: إنَّه نَبيٌّ، فلا إنكارَ في ذلك.
وأيضًا كيف يَكونُ غيرُ النَّبِيِّ أعلَمَ مِنَ النَّبِيِّ؟ وقد أخبر النَّبِيُّ في الحديثِ الصَّحيحِ أنَّ اللهَ تعالى قال لموسى: "بلى! عَبْدُنا خَضِرٌ"
[494] أخرجه البخاري (74) مطولًا. . وأيضًا كيف يَكونُ النَّبِيُّ تابعًا لغَيرِ النَّبِيِّ؟
وقال الثعلبيُّ: هو نَبيٌّ في جميعِ الأقوالِ.
وكان بعضُ أكابِرِ العُلَماءِ يقولُ: أوَّلُ عُقدةٍ تَحُلُّ مِنَ الزَّندَقةِ اعتِقادُ كَونِ الخَضِرِ نَبِيًّا؛ لأنَّ الزَّنادِقةَ يَتذَرَّعون بكونِه غيرَ نَبيٍّ إلى أنَّ الوَلِيَّ أفضَلُ مِنَ النَّبِيِّ!...
غالِبُ أخباره مع موسى هي الدَّالَّةُ على تصحيحِ قَولِ من قال: إنَّه كان نَبِيًّا)
[495] يُنظر: ((الزهر النضر في حال الخضر)) (ص: 66-68). .
وقال أيضًا: (مِن أوضَحِ ما يُستدَلُّ به على نبُوَّةِ الخَضِرِ قَولُه:
وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي، وينبغي اعتقادُ كَونِه نَبِيًّا؛ لِئلَّا يتذَرَّعَ بذلك أهلُ الباطِلِ في دَعواهم أنَّ الوَلِيَّ أفضَلُ مِنَ النَّبِيِّ، حاشا وكَلَّا)
[496] يُنظر: ((فتح الباري)) (1/ 220). .
وقال
ابن حجر الهيتمي: (معنى قَولِ الخَضِرِ عليه السَّلامُ لموسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ:
((إنَّك على عِلمٍ لا أعلَمُه أنا)) [497] أخرجه البخاري (4727)، ومسلم (2380) مطولاً من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه بلفظ: ((..إنك على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه..)) أي: لا أعلَمُ خُصوصَ شَرْعِك أو كمالَه، وإلَّا فالخَضِرُ كان له شَرعٌ آخَرُ، بناءً على الأصَحِّ أنَّه نَبيٌّ، ويَلزَمُ مِن كَونِه نَبِيًّا أنَّ له شَرعًا غيرَ شَرعِ موسى، ومعنى قَولِه: وأنا على عِلمٍ لا تَعلَمُه أنت، أي: لا تَعلَمُ خُصوصَ ما أُوتيتُه، فلا ينافي أنَّ موسى عَلِمَ مِن المعارِفِ والإلهاماتِ والأحوالِ والخُصوصيَّاتِ ما لم يُحِطْ به الخَضِرُ)
[498] يُنظر: ((الفتاوى الحديثية)) (ص: 93). .
وقال
الشِّنقيطيُّ: (قَولُه تعالى:
فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا هذا العَبدُ المذكورُ في هذه الآيةِ الكريمةِ هو الخَضِرُ عليه السَّلامُ بإجماعِ العُلَماءِ، ودَلالةُ النُّصوصِ الصَّحيحةِ على ذلك من كلامِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم... والعُلَماءُ مختَلِفون في الخَضِرِ: هل هو نَبيٌّ، أو رَسولٌ، أو وَلِيٌّ، كما قال الرَّاجِزُ:
واختَلَفَت في خَضِرٍ أهلُ العُقولْ قِيَل نَبيٌّ أو وَلِيٌّ أَوْ رَسُولْ
... ولكِنَّه يُفهَمُ مِن بَعضِ الآياتِ أنَّ هذه الرحمةَ المذكورةَ هنا رحمةُ نُبُوَّةٍ، وأنَّ هذا العِلْمَ اللَّدُنِّيَّ علمُ وَحيٍ، مع العِلْمِ بأنَّ في الاستدلالِ بها على ذلك مُناقَشاتٌ مَعروفةٌ عند العُلَماءِ.
اعلَمْ أوَّلًا أنَّ الرَّحمةَ تَكرَّرَ إطلاقُها على النُّبُوَّةِ في القُرآنِ، وكذلك العِلْمُ المؤتَى من اللهِ تكَرَّر إطلاقُه فيه على عِلمِ الوَحيِ؛ فمِن إطلاقِ الرَّحمةِ على النُّبُوَّةِ قَولُه تعالى في «الزخرف»:
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف: 31، 32]، أي: نبُوَّتَه، حتى يتحَكَّموا في إنزالِ القُرآنِ على رَجُلٍ عَظيمٍ مِنَ القَريتَينِ، وقَولُه تعالى في سورة «الدخان»:
فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الدخان: 4 - 6]، وقَولُه تعالى في آخِرِ «القصص»:
وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص: 86] الآية، ومن إطلاقِ إيتاءِ العِلْمِ على النُّبُوَّةِ قَولُه تعالى:
وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء: 113] ، وقَولُه:
وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ [يوسف: 68] الآية، إلى غيرِ ذلك من الآياتِ.
ومعلومٌ أنَّ الرَّحمةَ وإيتاءَ العِلْمِ اللَّدُنِّي أعَمُّ من كَونِ ذلك عن طريقِ النُّبُوَّةِ وغَيرِها، والاستدلالُ بالأعَمِّ على الأخَصِّ فيه أنَّ وُجودَ الأعَمِّ لا يَستلزِمُ وُجودَ الأخَصِّ، كما هو معروفٌ، ومن أظهَرِ الأدِلَّةِ في أنَّ الرَّحمةَ والعِلْمَ اللَّدُنِّي اللَّذَينِ امتَنَّ اللهُ بهما على عَبدِه الخَضِرِ؛ عن طريقِ النُّبُوَّةِ والوَحيِ: قَولُه تعالى عنه:
وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي، أي: وإنما فعلتُه عن أمرِ اللهِ جَلَّ وعلا، وأمرُ اللهِ إنما يتحَقَّقُ عن طريقِ الوحيِ؛ إذ لا طريقَ تُعرَفُ بها أوامِرُ اللهِ ونواهيه إلَّا الوَحيُ مِنَ اللهِ جَلَّ وعلا، ولا سِيَّما قَتلِ الأنفُسِ البريئةِ في ظاهِرِ الأمرِ، وتعييبِ سُفُنِ النَّاسِ بخَرْقِها؛ لأنَّ العُدوانَ على أنفُسِ النَّاسِ وأموالِهم لا يَصِحُّ إلَّا عن طريقِ الوَحيِ مِنَ اللهِ تعالى، وقد حصر تعالى طُرُقَ الإنذارِ في الوَحيِ في قَولِه تعالى:
قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ، و«إنَّما» صيغةُ حَصرٍ، فإن قيل: قد يَكونُ ذلك عن طريقِ الإلهامِ؟ فالجوابُ: أنَّ المقَرَّرَ في الأصولِ أنَّ الإلهامَ مِنَ الأولياءِ لا يجوزُ الاستدلالُ به على شيءٍ لعَدَمِ العِصمةِ، وعَدَمِ الدَّليلِ على الاستدلالِ به، بل لوُجودِ الدَّليلِ على عَدَمِ جَوازِ الاستدلالِ به. وما يَزعُمُه بَعضُ المتصَوِّفةِ مِن جوازِ العَمَلِ بالإلهامِ في حَقِّ المُلْهَمِ دونَ غَيرِه، وما يَزعُمُه بَعضُ الجَبريَّة أيضًا من الاحتجاجِ بالإلهامِ في حَقِّ المُلْهَمِ وغَيرِه، جاعلين الإلهامَ كالوَحيِ المسموعِ، مُستدَلِّينَ بظاهِرِ قَولِه تعالى
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ [الأنعام: 125] ، وبخَبَر:
((اتَّقُوا فِراسةَ المُؤمِنِ؛ فإنَّه يَنظُرُ بنُورِ اللهِ)) [499] أخرجه الترمذي (3127)، والعقيلي في ((الضعفاء الكبير)) (4/129)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (7843) مِن حَديثِ أبي سعيد الخُدري رَضِيَ اللهُ عنه. قال الذهبي في ((ميزان الاعتدال)) (4/17): منكر، وقال ابن الجوزي في ((الموضوعات)) (3/391): لا يصح، وضعفه الألباني في ((ضعيف سنن الترمذي)) (3127)، وذكر العقيلي أن فيه محمد بن كثير الكوفي قال البخاري منكر الحديث. : كُلُّه باطِلٌ لا يُعَوَّلُ عليه؛ لعَدَمِ اعتضادِه بدَليلٍ، وغيرُ المعصومِ لا ثِقَةَ بخواطِرِه؛ لأنَّه لا يأمَنُ دَسيسةَ
الشَّيطانِ، وقد ضُمِنَت الهدايةُ في اتِّباعِ الشَّرعِ، ولم تُضمَنْ في اتِّباعِ الخواطِرِ والإلهاماتِ)
[500] يُنظر: ((أضواء البيان)) (3/ 322). .
وقال
ابنُ باز: (الصَّحيحُ أنَّ الخَضِرَ نَبيٌّ، كما دلَّ عليه ظاهِرُ القُرآنِ الكريمِ)
[501] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (9/ 287). .
وقالت اللَّجنةُ الدَّائِمةُ: (الصَّحيحُ: أنَّ الخَضِرَ عليه السَّلامُ نَبيٌّ؛ لِما ذكره اللهُ تعالى في سورةِ الكَهْفِ مِن قِصَّتِه مع موسى عليهما السَّلامُ؛ فإنَّ فيها أنَّه خرق سفينةً كانت لمساكينَ يعملون في البحرِ، وقَتَل غُلامًا لم يرتَكِبْ جريمةً، وأقام جدارًا ليتيمينِ بلا أجرٍ في قريةٍ أبى أهلُها إطعامَهما، وأنكر موسى كُلَّ ذلك عليه، فبَيَّن له السَّبَبَ أخيرًا، ثمَّ خُتِمَت القِصَّةُ بأنَّ كُلَّ ذلك كان منه بوَحيٍ مِنَ اللهِ، وذلك فيما أخبر اللهُ عنه مِن قَولِه:
وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا)
[502] يُنظر: ((فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الأولى)) (3/ 286). .
ولو قيل: إنَّه ليس بنبيٍّ على القَولِ المرجوحِ، فيَكونُ اللهُ اختَصَّه بعِلمٍ دون موسى عليه السَّلامُ، وليس في ذلك أنَّه أعلَمُ من موسى، ولا أنَّ الوَلِيَّ أعلَمُ مِنَ النَّبِيِّ كما يزعُمُ الزَّنادِقةُ وبَعضُ غُلاةِ الصُّوفيَّةِ.