المَبْحَثُ الأوَّلُ: العِصمةُ في تبليغِ رِسالةِ اللهِ تعالى
الأنبياءُ والرُّسُلُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ معصومون من الخطَأِ في تبليغِ رسالةِ اللهِ سُبحانَه، فلا يحصُلُ منهم في تبليغِها خَطَأٌ أو نسيانٌ أو خيانةٌ أو كتمانٌ. وهذا الأمرُ ثابتٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ.
فقد أمر اللهُ تعالى مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذلك، فقال:
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة: 67] .
ولو حدث شيءٌ من الكتمانِ أو التغييرِ لَمَا أوحاه اللهُ، فإنَّ عِقابَ اللهِ يحِلُّ به، كما قال اللهُ سُبحانَه:
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة: 44-46] .
وقد أثبت اللهُ عِصمةَ نبيِّه مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما يُبَلِّغُه عن رَبِّه عَزَّ وجَلَّ، فقال:
وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3-4] .
وقد تكفَّل اللهُ لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأن يُقرِئَه فلا ينسى شيئًا مِمَّا أوحاه إليه، إلَّا شيئًا أراد اللهُ أن يُنسِيَه إيَّاه، فقال له:
سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [الأعلى: 6-7] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (معنى ذلك: فلا تنسى إلَّا أن نشاءَ نحن أن ننسِيكَه بنَسْخِه ورَفْعِه)
[880] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/316). .
وتكَفَّل اللهُ له بأن يجمَعَه في صَدْرِه، فقال له:
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة: 16-18] .
وعن
طلحةَ بنِ عُبَيدِ اللهِ قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((... إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللَّهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ؛ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ )) [881] رواه مسلم (2361) مُطَوَّلًا. .
وقد اتَّفقت الأُمَّةُ على أنَّ الأنبياءَ والرُّسُلَ عليهم السَّلامُ معصومون في أداءِ الرِّسالةِ وتبليغِها.
قال عياضٌ: (أجمعت الأُمَّةُ فيما كان طريقُه البلاغَ أنَّه معصومٌ فيه من الإخبارِ عن شيءٍ منها بخلافِ ما هو به، لا قَصدًا ولا عَمْدًا، ولا سَهوًا ولا غَلَطًا)
[882] يُنظر: ((الشفا)) (2/123). .
وقال
ابنُ تَيمِيَّةَ: (إنَّ الأنبياءَ صَلواتُ اللهِ عليهم معصومون فيما يُخبِرُون به عن اللهِ سُبحانَه وفي تبليغِ رِسالاتِه باتِّفاقِ الأُمَّةِ؛ ولهذا وجب الإيمانُ بكُلِّ ما أوتوه... والعِصمةُ فيما يبَلِّغونَه عن اللهِ ثابتةٌ، فلا يَستَقِرُّ في ذلك خطَأٌ باتِّفاقِ المُسلِمين)
[883] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (10/289). .
وقال أيضًا: (إنهم أي: أهلَ السُّنَّةِ مُتَّفِقون على أنَّ الأنبياءَ معصومون فيما يُبَلِّغونه عن اللهِ تعالى، وهذا هو مقصودُ الرِّسالةِ، فإنَّ الرَّسولَ هو الذي يُبَلِّغُ عن اللهِ أمْرَه ونَهْيَه وخَبَرَه، وهم معصومون في تبليغِ الرِّسالةِ باتِّفاقِ المُسلِمين، بحيث لا يجوزُ أن يَستَقِرَّ في ذلك شيءٌ من الخطَأِ)
[884] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) (1/470). .
وقال
الذَّهبيُّ: (اتَّفَقوا على عِصْمَتِهم فيما يبَلِّغونه، وهو مقصودُ الرِّسالةِ)
[885] يُنظر: ((المنتقى من منهاج الاعتدال)) (ص: 50). .
وقال السَّفَّارينيُّ: (قد أجمعت الأُمَّةُ على أنَّ ما كان طريقُه الإبلاغَ، فالأنبياءُ والرُّسُلُ معصومون فيه من الإخبارِ عن شيءٍ منه بخلافِ الواقِعِ، لا قصدًا ولا عمدًا، ولا سهوًا ولا غلطًا)
[886] يُنظر: ((لوامع الأنوار البهية)) (2/307). .
وقال
ابنُ باز: (قد أجمع المُسلِمون قاطبةً على أنَّ الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ -ولا سيَّما خاتمِهم مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- معصومون من الخطأ فيما يبَلِّغونه عن اللهِ عَزَّ وجَلَّ من أحكامٍ، كما قال عَزَّ وجَلَّ:
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم: 1 - 5] ، فنبيُّنا مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم معصومٌ في كُلِّ ما يُبَلِّغُ عن اللهِ من الشَّرائعِ قولًا وعملًا وتقريًرا، هذا لا نزاعَ فيه بين أهلِ العِلْم)
[887] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (6/290). .