المَطلَبُ الثَّاني: أدِلَّةُ البَعثِ من السُّنَّةِ
1- عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((قال اللهُ: كذَبَني ابنُ آدَمَ ولَم يَكُنْ له ذلك، وشَتمَني ولَم يَكُن له ذلك؛ فأمَّا تَكذيبُه إيَّايَ فقولُه: لَن يُعيدَني كما بَدَأني. وليس أوَّلُ الخَلقِ بأهونَ عَلَيَّ مِن إعادَتِه، وأمَّا شَتْمُه إيَّايَ فقَولُه: اتَّخَذَ اللهُ ولَدًا. وأنا الأحَدُ الصَّمدُ لَم ألِدْ ولَم أُولَدْ ولَم يَكُنْ لي كُفْأً أحَدٌ)) [3061] أخرجه البخاري (4974). .
قال المظهَريُّ: (قَولُه:
((كذَبَني ابنُ آدَمَ ...)) إلَخ، أي: خالف في القَولِ والِاعتِقادِ ما قُلتُ وأرسَلتُ به رُسُلي من الإخبارِ بإحياءِ الخَلقِ بَعدَ المَوتِ للحِسابِ والجَزاءِ.
((ولَم يَكُن له ذلك)) أي: ولَم يَكُن ذلك التَّكذيبُ حَقًّا وصِدقًا وصَوابًا له، بَل كان خَطَأً وعِصيانًا منه؛ لأنَّ اللهَ تعالى أنعَمَ أنواعَ الإنعامِ والفَضلِ على العِبادِ، فتَكذيبُ العِبادِ رَبَّهم وخالِقَهم ووَليَّ نِعَمِهم وحافِظَهم من الآفاتِ، يَكونُ على غايةِ القُبحِ، بَل لَو خالفَ عَبدٌ سَيِّدَه من المَخلوقاتِ أو خادِمٌ مَخدومَه يَكونُ ذلك قَبيحًا على غايةِ القُبحِ عِندَ النَّاسِ، فكَيفَ لا تَكونُ مُخالَفةُ العَبدِ الرَّبَّ قَبيحًا؟... قَولُه:
((لَن يُعيدَني)) يَعني: من قال: لَن يُحييَني بَعدَ مَوتي كما خَلَقَني.
وقَولُه:
((وليس أوَّلُ الخَلقِ بأهونَ عَلَيَّ مِن إعادَتِه))،
((الخَلقُ)) هاهنا بمَعنى المَخلوقِ، والتَّقديرُ: ليس أوَّلُ خَلقِ الخَلقِ، أي: خَلقِ المَخلوقِ... والباءُ في
((بأهونَ)) زائِدةٌ للتَّأكيدِ، ومَعنى
((أهونَ)) أسهَلُ، من
((هان يَهونُ هونًا)): إذا سَهُلَ الأمرُ. و
((الإعادةُ)) مَصدَرُ أعادَ يُعيدُ: إذا رَدَّ شَيئًا إلى أوَّلِه، والضَّميرُ في
((إعادَتِه)) يَرجِعُ إلى
((الخَلقِ))، يَعني: ليس أوَّلُ الخَلقِ أسهَلَ من إعادَتِه، بَلِ الإعادةُ أسهَلُ من أوَّلِ الخَلقِ، فإذا كُنتُ قادِرًا على خَلقِ الخَلقِ من غَيرِ أن كان منهم أثَرٌ ومِثالٌ، فكَيفَ لا أكونُ قادِرًا على خَلقِهم بَعدَ أن يَكونَ منهم أثَرٌ من العِظامِ أوِ اللَّحمِ أو تُرابِهم، فقال تعالى حُجَّةً عليهم:
يا أيُّها النَّاسُ إن كُنتُم في رَيْبٍ من البَعثِ فإنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ من نُطفةٍ ثُمَّ من عَلقةٍ [الحج: 5] الآيةَ... والمُرادُ بقَولِه:
((كذَبَني ابنُ آدَمَ وشَتَمَني)) همُ الكُفَّارُ؛ لأنَّ المُسلِمينَ لا يَقولونَ مِثلَ هذا)
[3062] يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (1/ 103). .
2- عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ في الإنسانِ عَظمًا لا تَأكُلُه الأرضُ أبَدًا فيه يُرَكَّبُ يَومَ القيامةِ. قالوا: أيُّ عَظمٍ هو يا رَسولَ اللهِ؟ قال: عَجْبُ الذَّنَبِ)) [3063] أخرجه البخاري (4814) بنحوه، ومسلم (2955) واللَّفظُ له. .
وفي رِوايةِ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((كُلُّ ابنِ آدَمَ يَأكُلُه التُّرابُ إلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ، منه خَلقٌ وفيه يُرَكَّبُ)) [3064] أخرجها البخاري (4935) مطولًا بنحوه، ومسلم (2955) واللَّفظُ له. .
قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (قَولُه:
((كُلُّ ابنِ آدَمَ تَأكُلُه الأرضُ)) أي: تُبْليه، وتُصَيِّرُه إلى أصلِه الذي هو التُّرابُ، ... وعَجْبُ الذَّنَبِ، يُقالُ بالباءِ والميمِ، وهو جُزءٌ لَطيفٌ في أسفَلِ الصُّلبِ، وقيلَ: هو رَأسُ العُصعُصِ... وقَولُه:
((منه خُلِقَ وفيه يُرَكَّبُ)) أي: أوَّلُ ما خُلِقَ من الإنسانِ هو، ثُمَّ إنَّ الله تعالى يُبقيه إلى أن يُرَكَّبَ الخَلقُ منه تارةً أخرى)
[3065] يُنظر: ((المفهم)) (7/ 307). .
وقال النَّوَويُّ: (قَولُه:
((عَجْبُ الذَّنَبِ)) هو بفَتحِ العينِ وإسكانِ الجيمِ، أيِ العَظْمُ اللطيفُ الذي في أسفَلِ الصُّلبِ، وهو رَأسُ العُصعُصِ، ويُقالُ له: عَجْم بالميمِ، وهو أوَّلُ ما يُخلَقُ من الآدَميِّ، وهو الذي يَبقى منه ليُعادَ تَركيبُ الخَلقِ عليه. قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((كُلُّ ابنِ آدَمَ يَأكُلُه التُّرابُ إلَّا عَجْمَ الذَّنَبِ)) هذا مَخصوصٌ، فيُخَصُّ منه الأنبياءُ صَلَواتُ اللهِ وسَلامُه عليهم؛ فإنَّ اللهَ حَرَّم على الأرضِ أجسادَهم كما صَرَّحَ به في الحَديثِ)
[3066] يُنظر: ((شرح مسلم)) (18/ 92). .
3- عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ما بينَ النَّفخَتينِ أربَعونَ – قالوا: يا أبا هُريرةَ أربَعونَ يَومًا؟ قال: أبيتُ، قالوا: أربَعونَ شَهرًا؟ قال: أبيتُ، قالوا: أربَعونَ سَنةً؟ قال: أبيتُ، ثُمَّ يُنزِلُ اللهُ من السَّماءِ ماءً فيَنبُتونَ كما يَنبُتُ البَقْلُ، قال: وليس من الإنسانِ شَيءٌ إلَّا يَبلى إلَّا عَظمًا واحِدًا، وهو عَجْبُ الذَّنَبِ، ومنه يُرَكَّبُ الخَلقُ يَومَ القيامةِ )) [3067] أخرجها البخاري (4935)، ومسلم (2955) واللَّفظُ له. .
قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (قَولُه:
((ما بينَ النَّفخَتينِ أربَعونَ)) يَعني: نَفخَتي الصَّعقِ والبَعثِ، يُشيرُ إلى قَولِه تعالى:
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: 68] .
وقَولُ أبي هُريرةَ:
((أبيتُ أبيتُ)) لَمَّا سُئِلَ عن الأربَعينَ ما هيَ، يَدُلُّ على أنَّه كان عِندَه من ذلك عِلمٌ، وامتَنعَ من بَثِّه؛ لأنَّه لا ترهَقُ إليه حاجةٌ، ولا يَتَعَلَّقُ به عَمَلٌ، ويُحتَمَلُ أن لا يَكونَ عِندَه عِلمٌ من ذلك. وقَولُه:
((أبَيتُ، أبَيتُ)) يَعني: أبيتُ أن أسألَ عن ذلك النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفيه بُعدٌ. وقَولُه:
((ثُمَّ يُنزِلُ اللهُ من السَّماءِ ماءً)) يَعني به بَعدَ نَفخةِ الصَّعقِ... فتَتَكَوَّنُ فيه الأجسامُ بقُدرةِ الله تعالى، وعن ذلك عَبَّرَ بقَولِه:
((فيَنبُتونَ كما يَنْبُتُ البَقلُ))، فإذا تَهَيَّأتِ الأجسامُ وكَمَلَت نُفِخَ في الصُّورِ نَفخةُ البَعثِ، فخَرَجَتِ الأرواحُ من المَحالِّ التي هيَ فيها. قال بَعضُهم: فتَأتي كُلُّ رُوحٍ إلى جَسدِه فيُحييها اللهُ تعالى، كُلُّ ذلك في لَحظةٍ، بدَليلٍ قَولِه تعالى:
فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ)
[3068] يُنظر: ((المفهم)) (7/ 306). .
وقال النَّوَويُّ: (مَعناه: أبيتُ أن أجزِمَ أنَّ المُرادَ أربَعونَ يَومًا أو سَنةً أو شَهرًا، بَل الذي أجزِمُ به أنَّها أربَعونَ مُجْمَلةٌ)
[3069] يُنظر: ((شرح مسلم)) (18/ 91). .
4- حَديثُ
عَبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ الله عنهما وفيه:
((ثُمَّ يُنفَخُ في الصُّورِ، فلا يَسمَعُه أحَدٌ إلَّا أصغى لِيتًا ورَفعَ ليتًا. قال: وأوَّلُ مَن يَسمَعُه رَجُلٌ يَلوطُ حَوضَ إبلِه. قال: فيَصعَقُ ويَصعَقُ النَّاسُ. ثُمَّ يُرسِلُ اللهُ -أو قال: يُنزِلُ اللهُ- مَطَرًا كأنَّه الطَّلُّ أوِ الظِّلُّ - نُعمانُ الشَّاكُّ- فتَنبُتُ منه أجسادُ النَّاسِ، ثُمَّ يُنفَخُ فيه أُخرى، فإذا هم قيامٌ يَنظُرونَ، ثُمَّ يُقالُ: يا أيُّها النَّاسُ هَلُمَّ إلى رَبِّكم. وقِفُوهم إنَّهم مَسئولونَ. قال: ثُمَّ يُقالُ: أخرِجوا بَعْثَ النَّارِ. فيقالُ: مِن كم؟ فيقالُ: من كُلِّ ألفٍ تِسعَمِائةٍ وتِسعةً وتِسعينَ. قال: فذاك يَومُ يَجعَلُ الوِلْدانَ شِيبًا، وذلك يَومُ يُكشَفُ عن ساقٍ )) [3070] أخرجه مسلم (2940). .
قال النَّوَويُّ: (
((أصغى لِيتًا ورَفعَ لِيتًا)) اللِّيتُ -بكِسرِ اللامِ وآخِرُه مُثنَّاةٌ فوقَ- وهي صَفحةُ العُنُقِ، وهي جانِبُه، وأصغى: أمالَ. قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((وأوَّلُ مَن يَسمَعُه رَجُلٌ يَلوطُ حَوضَ إبلِه)) أي: يُطَينُه ويُصلِحُه. قَولُه:
((كأنَّه الطَّلُّ أوِ الظِّلُّ)) قال العُلَماءُ: الأصَحُّ الطَّلُّ بالمُهمَلةِ)
[3071] يُنظر: ((شرح مسلم)) (18/ 76). .
5- عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنِّي أوَّلُ مَن يَرفَعُ رَأسَه بَعدَ النَّفخةِ الآخِرةِ، فإذا أنا بموسى مُتَعَلِّقٌ بالعَرْشِ، فلا أدري أكذلك كان أم بَعدَ النَّفخةِ)) [3072] أخرجه البخاري (4813) واللَّفظُ له، ومسلم (2373) مطولًا بنحوه. .
قال الكرمانيُّ: (
((النَّفخةُ الآخِرةُ)) هيَ نَفخةُ الإحياءِ، والنَّفخةُ الأُولى هيَ نَفخةُ الإماتةِ، قَولُه:
((لا أدري)) أنَّه لَم يَمُت عِندَ النَّفخةِ الأُولى واكتَفى بصَعقةِ الطُّورِ، أم أُحْييَ بَعدَ النَّفخةِ الثَّانيةِ قَبلي وتَعَلَّقَ بالعَرْش)
[3073] يُنظر: ((الكواكب الدراري)) (18/ 71). .
وقد أجمَعَ أهلُ العِلمِ على ثُبوتِ البَعثِ.فنَقلَ
أبو الحَسَنِ الأشعَريُّ إجماعَ أهلِ السُّنَّةِ على ذلك فقال: (أجمَعوا على أنَّ عَذابَ القَبرِ حَقٌّ... وعلى أنَّ اللهَ تعالى يُعيدُهم كما بَدَأهم حُفَاةً عُراةً غُرْلًا، وأنَّ الأجسادَ التي أطاعَت وعَصَت هيَ التي تُبعَثُ يَومَ القيامةِ، وكَذلك الجُلودُ التي كانت في الدُّنيا والألسِنةُ والأيدي والأرجُلُ هيَ التي تَشهَدُ عليهم يَومَ القيامةِ)
[3074] يُنظر: ((رسالة إلى أهل الثغر)) (ص: 159-161). .
وأجمَعوا على كُفرِ من أنكَرَ البَعثَ يَومَ القيامةِ.1- قال
ابنُ حَزْمٍ: (اتَّفَقَ جَميعُ أهلِ القِبلةِ على تَنابُذِ فِرَقِهم على القَولِ بالبَعثِ في القيامةِ، وعلى تَكفيرِ من أنكَرَ ذلك)
[3075]يُنظر: ((الفصل)) (4/ 66). .
2- قال
ابنُ عَبدِ البَرِّ: (إنَّ من شَرطِ الشَّهادةِ التي بها يُخرَجُ من الكُفرِ إلى الإيمانِ مَعَ الإقرارِ بأنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللهِ: الإقرارَ بالبَعثِ بَعدَ المَوتِ، وقد أجمَعَ المُسلِمونَ على أنَّ من أنكَرَ البَعثَ فلا إيمانَ له ولا شَهادةَ، وفي ذلك ما يُغني ويَكفي مَعَ ما في القُرآنِ من تَأكيدِ الإقرارِ بالبَعثِ بَعدَ المَوتِ، فلا وجْهَ للإنكارِ في ذلك)
[3076]يُنظر: ((التمهيد)) (9/ 116). .
3- قال
ابنُ تَيميَّةَ عن الرَّجُلِ الذي أمرَ أهلَه أن يَحرِقوه ويذرُّوه في الرِّيحِ حَتَّى لا يَبعَثَه اللهُ تعالى: (فهذا رَجُلٌ شَكَّ في قُدرةِ الله وفي إعادَتِه إذا ذُرِّيَ، بَلِ اعتَقَدَ أنَّه لا يُعادُ، وهذا كُفرٌ باتِّفاقِ المُسلِمينَ)
[3077] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (3/ 231). .
4- قال السَّفارينيُّ: (اعلَم أنَّه يَجِبُ الجَزمُ شَرعًا أنَّ اللهَ تعالى يَبعَثُ جَميعَ العِبادِ، ويُعيدُهم بَعدَ إيجادِهم بجَميعِ أجزائِهمُ الأصليَّةِ، وهيَ التي من شَأنِها البَقاءُ من أوَّلِ العُمرِ إلى آخِرِه، ويَسوقُهم إلى مَحْشَرِهم لفَصلِ القَضاءِ؛ فإنَّ هذا حَقٌّ ثابِتٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ سَلَفِ الأمَّةِ)
[3078] يُنظر: ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 158). .
5-قال
السَّعديُّ: (هذا الأصلُ الثَّالِثُ من الأصولِ التي اتَّفَقَت عليها الرُّسُلُ والشَّرائِعُ كُلُّها، وهيَ: التَّوحيدُ، والرِّسالةُ، وأمرُ المَعادِ وحَشرُ العِبادِ. وهذا قد أكثَرَ اللهُ من ذِكرِه في كِتابِه الكَريمِ، وقَرَّرَه بطُرُقٍ مُتَنَوِّعةٍ:
منها: إخبارُه وهو أصدَقُ القائِلينَ عنه وعَمَّا يَكونُ فيه من الجَزاءِ الأوفى، مَعَ إكثارِ الله من ذِكرِه؛ فقد أقسَمَ عليه في ثَلاثةِ مَواضِعَ من كِتابِه، كقَولِه:
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [القيامة: 1] .
ومنها الإخبارُ بكَمالِ قُدرةِ الله تعالى، ونَفوذِ مَشيئَتِه، وأنَّه لا يُعجِزُه شَيءٌ، فإعادةُ العِبادِ بَعدَ مَوتِهم فردٌ من أفرادِ آثارِ قُدرَتِه.
ومنها تَذكيرُه العِبادَ بالنَّشأةِ الأُولى، وأنَّ الذي أوجَدَهم ولَم يَكَونوا شَيئًا مَذكورًا، لا بُدَّ أن يُعيدَهم كما بَدَأهم، وأنَّ الإعادةَ أهونُ عليه، وأعادَ هذا المَعنى في مَواضِعَ كثيرةٍ بأساليبَ مُتَنَوِّعةٍ.
ومنها: إحياؤُه الأرضَ الهامِدةَ المَيِّتةَ بَعدَ مَوتِها، وأنَّ الذي أحياها سَيُحيي المَوتى، وقَرَّرَ ذلك بقُدرَتِه على ما هو أكبَرُ من ذلك، وهو خَلقُ السَّمَواتِ والأرضِ، والمَخلوقاتِ العَظيمةِ، فمَتى أثبَتَ المُنكِرونَ ذلك، ولَن يَقدِروا على إنكارِه، فلِأيِّ شَيءٍ يَستَبعِدونَ إحياءَ المَوتى؟
وقَرَّرَ ذلك بسَعةِ عِلمِه، وكَمالِ حِكمتِه، وأنَّه لا يَليقُ به، ولا يَحسُنُ أن يَترُكَ خَلْقَه سُدًى مُهمَلينَ، لا يُؤمَرونَ ولا يُنهَونَ، ولا يُثابونَ ولا يُعاقَبونَ. وهذا طَريقٌ قَرَّرَ به النُّبوَّةَ وأمرَ المَعادِ.
ومِمَّا قَرَّرَ به البَعثَ ومُجازاةَ المُحْسِنينَ بإحسانِهم، والمَسيئينَ بإساءتِهم: ما أخبَرَ به من أيَّامِه وسُنَنِه سُبحانَه في الأمَمِ الماضيةِ والقُرونِ الغابِرةِ. وكَيفَ نَجَّى الأنبياءَ وأتباعَهم، وأهلَك المُكَذِّبينَ لهمُ المُنكِرينَ للبَعثِ، ونَوَّعَ عليهمُ العُقوباتِ، وأحَلَّ بهمُ المَثُلَاتِ، فهذا جَزاءٌ مُعَجَّلٌ ونَموذَجٌ من جَزاءِ الآخِرةِ أراه اللهُ عِبادَه؛ ليَهلِكَ من هَلَك عن بَينةٍ، ويَحيا من حَيَّ عن بَينةٍ.
ومن ذلك: ما أرى اللهُ عِبادَه من إحيائِه الأمواتَ في الدُّنيا كما ذَكَرَه اللهُ عن صاحِبِ البَقرةِ، والألوفَ من بني إسرائيلَ، والذي مَرَّ على قَريةٍ وهيَ خاويةٌ على عُروشِها، وقِصَّةُ إبراهيمَ الخَليلِ والطُّيورِ، وإحياءُ عيسى بن مَريَم للأمواتِ، وغَيرُها مِمَّا أراه اللهُ عِبادَه في هذه الدَّارِ، ليَعلَموا أنَّه قَويٌّ ذو اقتِدارٍ، وأنَّ العِبادَ لا بُدَّ أن يَرِدُوا دارَ القَرارِ، إمَّا الجَنَّةَ أوِ النَّارَ.
وهذه المَعاني أبداها اللهُ وأعادَها في مَحالَّ كثيرةٍ. والله أعلَمُ)
[3079] يُنظر: ((القواعد الحسان)) (ص: 25). .
6-قال
ابنُ بازٍ: (وهَكَذا لَو أنكَرَ البَعثَ بَعدَ المَوتِ، أو أنكَرَ الجَنَّةَ أو أنكَرَ النَّارَ، كَفرَ بإجماعِ المُسلِمينَ، ولَو قال: أشهَدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ، وأشهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ الله؛ لأنَّ إنكارَه لهذه الأمورِ تَكذيبٌ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتَكذيبٌ لله فيما أخبَرَ به في كِتابِه)
[3080] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (4/ 117). .
وقال أيضًا: (وهَكَذا من شَكَّ في الآخِرةِ... هَل هناك بَعثٌ ونُشورٌ؟ هَل يَبعَثُ اللهُ الموتى؟ هَل هناك جَنَّةٌ؟ هَل هناك نارٌ؟ ما عِندَه إيمانٌ ويَقينٌ، بَل عِندَه شَكٌّ، هذا يَكونُ كافِرًا، حَتَّى يُؤمِنَ بالبَعثِ والنُّشورِ وبِالجَنةِ والنَّارِ، وأنَّ الله أعَدَّ الجَنةَ للمُتَّقينَ المُؤمِنينَ، وأعَدَّ النَّارَ للكافِرينَ، لا بُدَّ من إيمانِه بهذا بإجماعِ المُسلِمينَ)
[3081] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (4/ 121). .
7- قال
ابنُ عُثَيمين: (البَعثُ: حَقٌّ ثابِتٌ دَلَّ عليه الكِتابُ والسُّنَّةُ وإجماعُ المُسلِمينَ؛ قال اللهُ تعالى:
ثُمَّ إنَّكم بَعدَ ذلك لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إنَّكُمْ يَوْمَ القيامةِ تُبْعَثُونَ، وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
يُحشَرُ النَّاسُ يَومَ القيامةِ حُفاةً غُرْلًا. مُتَّفَقٌ عليه
[3082] أخرجه البخاري (6527)، ومسلم (2859) مطولًا باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عائشة رَضِيَ اللهُ عنها. . وأجمَع المُسلِمونَ على ثُبوتِه، وهو مُقتَضى الحِكمةِ، حَيثُ تَقتَضي أن يَجعَلَ اللهُ تعالى لهذه الخَليقةِ مَعادًا يُجازيهم فيه على ما كلَّفَهم به على ألسِنةِ رُسُلِه، قال اللهُ تعالى:
أفحَسِبْتُمْ أنَّما خَلَقْنَاكُمْ عَبثًا وأنَّكم إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ، وقال لنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلْيَكَ القُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ... وقد أنكَرَ الكافِرونَ البَعثَ بَعدَ المَوتِ زاعِمينَ أنَّ ذلك غَيرُ مُمكِنٍ، وهذا الزَّعمَ باطِلٌ دَلَّ على بُطلانِه الشَّرعُ والحِسُّ والعَقلُ)
[3083] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (5/ 127). .
ومِن أقوالِ أهلِ العِلمِ في شَأنِ البَعثِ:1- قال
أبو حَنيفةَ: (نُقِرُّ بأنَّ اللهَ تعالى يُحيى هذه النُّفوسَ بَعدَ المَوتِ، ويَبعَثُهم، في يَومٍ كان مِقدارُه خَمسينَ ألفَ سَنةٍ بالجَزاءِ والثَّوابِ وأداءِ الحُقوقِ؛ لقَولِه تعالى:
وأنَّ اللهَ يَبعَثُ مَنْ فِي القُبُورِ)
[3084] يُنظر: ((شرح وصية الإمام أبي حنيفة)) للبابرتي (ص: 145). .
2- قال مُحَمَّد عَبد الكَريمِ الشَّهْرَسْتانيُّ: (وأمَّا سائِرُ الأخبارِ السَّمعيَّةِ فإذا ثَبَتَ صِدْقُ النَّبيِّ وجَبَ الإيمانُ بذلك والسَّمعُ والطَّاعةُ له...فمِن ذلك حَشرُ الأجسامِ، وبَعثُ مَن في القُبورِ من الأشخاصِ، فاعلَمْ أنَّه لَم يَرِد في شَريعةٍ ما من الدَّلائِلِ أكثَرُ مِمَّا ورَدَ في شَرعِنا من حَشرِ الأجسامِ، وكَأنَّ الزَّمانَ لَما كان مَقرونًا بالقيامةِ كانتِ الآيةُ أصرَحَ بها، والبَيِّناتُ أدَلَّ عليها، ومُفارَقةُ الأرواحِ للأجسادِ وبَقاءُ الأرواحِ قَدِ اعتَرَفَ به الحُكَماءُ الإلهيُّونَ، وحَشْرُ الأجسادِ لَمَّا كان مُمكِنًا في ذاتِه، وقد ورَدَ به الصَّادِقُ، وجَبَ التَّصديقُ بذلك من غَيرِ أن يُبحَثَ عن كيفيَّةِ ذلك؛ إذِ الرَّبُّ تعالى قادِرٌ على الإعادةِ)
[3085] يُنظر: ((نهاية الإقدام في علم الكلام)) (ص: 261). .
3- قال السَّفارينيُّ: (اعلَمْ أوَّلًا أنَّ المَعادَ الجُسمانيَّ حَقٌّ واقِعٌ وصِدقٌ صادِعٌ، دَلَّ عليه النَّقلُ الصَّحيحُ والنَّصُّ الصَّحيحُ، ولَم يَمنَعْه العَقلُ ولَم يُحِلْه؛ فوَجَبَ الإيمانُ بموجِبِه، وهو أنَّ اللهَ يَبعَثُ المَوتى من القُبورِ بأن يَجمَعَ أجزاءَهمُ الأصليَّةَ ويُعيدَ الأرواحَ إليها؛ لقَولِه تعالى:
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَليمٌ [يس: 79] . والآياتُ القُرآنيَّةُ في ذلك كثيرةٌ جِدًّا، والأحاديثُ النَّبَويَّةُ طافِحةٌ به؛ فلا جَرمَ لا يُنكِرُه إلَّا كافِرٌ مُلحِدٌ، وزِنديقٌ قد عَتى وتَمَرَّدَ، وعدِمَ التَّوفيقَ)
[3086] يُنظر: ((لوائح الأنوار السَّنية)) (2/ 219). .
4- قال
مُحَمَّدُ بنُ إبراهيمَ آل الشَّيخِ: (الأجسادُ تُبعَثُ فتُجازى، والنُّصوصُ في بَعثِ هذا الجَسَدِ نَفسِه أصرَحُ شَيءٍ، وما استَنكَرَ أبو جَهلٍ إلَّا هذا، لَكِن جاءَ أناسٌ تَتَلَمَذوا على الإفرِنجِ ولا دَرُوا أنَّه مَسلَكُ أبي جَهلٍ وأضرابِه، ويُعطى أحَدُهمُ الشَّهادةَ العالميَّةَ؟! فإنسانٌ يُنكِرُ حَقيقةَ البَعثِ، أيُّ شَيءٍ عِندَه من بَحثٍ أو دينٍ؟! ليس عِندَه إلَّا أنَّه أعرَضَ عن القُرآنِ وقَبِلَ رَمْيَ أعدائِه إيَّاه، وهذا داءٌ قَديمٌ وحَديثٌ، لا يَرَونَ العِلمَ إلَّا ما هو حَديثٌ، مَعَ أنَّهم يَتَناقَضونَ ولا يَستَقيمونَ على قَولٍ، فهم يَقولونَ: إنَّ الأصولَ المَنطِقيَّةَ هَذَّبَتْها القِدَمُ، وكَذا وكَذا)
[3087] يُنظر: ((فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ)) (1/ 243). .