المبحثُ الثالثُ: الإجماعُ
أجمَعَ أهلُ العِلمِ على مَجيءِ الرَّبِّ سُبحانَه وتعالى يَومَ القيامةِ وإتيانِه للحِسابِ والقَضاءِ، ونُزولِ المَلائِكةِ في ذلك اليَومِ.
1- قال
أبو الحَسَنِ الأشعَريُّ: (أجمَعوا على أنَّه عزَّ وجَلَّ يَجيءُ يَومَ القيامةِ والمَلَكُ صَفًّا صَفًّا، لعَرضِ الأممِ وحِسابِها، وعِقابِها وثَوابِها، فيَغفِرُ لمَن يَشاءُ من المُذنِبينَ، ويُعذِّبُ منهم من يَشاءُ)
[3532] يُنظر: ((رسالة إلى أهل الثغر)) (ص: 128). .
2- قال ابنُ أبي زيدٍ القيروانيُّ: (مِمَّا أجمَعتْ عليه الأمَّةُ من أمورِ الدِّيانةِ، ومنَ السُّنَنِ التي خِلافُها بدعةٌ وضَلالةٌ:... أنَّه يَجيءُ يَومَ القيامةِ بَعدَ أن لَم يَكُن جائيًا، والمَلَكُ صَفًّا صَفًّا لعَرضِ الأممِ وحِسابِها وعُقوبَتِها وثَوابِها... وكُلُّ ما قَدَّمنا ذِكرَه فهو قَولُ أهلِ السُّنَّةِ وأئِمَّةِ النَّاسِ في الفِقهِ والحَديثِ على ما بَيَّنَّاه، وكُلُّه قَولُ
مالِكٍ؛ فمنه مَنصوصٌ من قَولِه، ومنه مَعلومٌ من مَذهَبِه)
[3533] يُنظر: ((الجامع في السنن والآداب والمغازي والتاريخ)) (ص: 107-117). .
3- نَقلَ
الذَّهَبيُّ عن
ابنِ القَيِّمِ مُقَرِّرًا قَولَه: (قد دَلَّ القُرآنُ والسُّنَّةُ والإجماعُ على أنَّه سُبحانَه يَجيءُ يَومَ القيامةِ، ويَنزِلُ لفَصلِ القَضاءِ بينَ عِبادِه، ويَأتي في ظُلَلٍ من الغَمامِ والمَلائِكةُ)
[3534] يُنظر: ((العرش)) للذهبي (1/234)، ((مختصر الصواعق المرسلة)) لابن الموصلي (ص: 614). .
ومن أقوالِ أهلِ العِلِم ِفي ذلك:1- قال حَمَّادُ بنُ أبي حَنيفةَ: (قُلْنا لهؤلاء أي: نَفاةِ الصِّفاتِ من
الجَهْميَّةِ ونَحوِهم: أرأيتُم قَولَ الله عزَّ وجَلَّ:
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] وقَولَه عزَّ وجَلَّ:
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ [البقرة: 210] فهَل يَجيءُ رَبُّنا كما قال؟ وهَل يَجيءُ المَلائِكةُ صَفًّا صَفًّا؟ قالوا: أمَّا المَلائِكةُ فيجيئونَ صَفًّا صَفًّا، وأمَّا الرَّبُّ تعالى فإنَّا لا نَدري ما عنى بذلك؟ ولا نَُري كيفَ جِيئَتُه؟ فقُلنا لهم: إنَّا لَم نُكلِّفْكم أن تَعلَموا كيفَ جِيئَتُه، ولَكِنَّا نُكَلِّفُكم أن تُؤمِنوا بمَجيئِه، أرأيتُم من أنكَرَ أنَّ المَلَكَ لا يَجيءُ صَفًّا صَفًّا، ما هو عِندَكم؟ قالوا: كافِرٌ مُكَذِّبٌ، قُلنا: فكَذلك من أنكَرَ أنَّ الله سُبحانَه لا يَجيءُ، فهو كافِرٌ مُكَذِّبٌ!)
[3535] يُنظر: ((عقيدة السلف وأصحاب الحديث)) للصابوني (ص: 233). .
2- قال
أبو الحَسَن الأشعَريُّ: (هذه حِكايةُ جُملةِ قَولِ أصحابِ الحَديثِ وأهلِ السُّنَّةِ:... ويُقِرُّونَ أنَّ الله سُبحانَه يَجيءُ يَومَ القيامةِ، كما قال:
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] )
[3536] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 226-228). .
3- قال الأزهَريُّ في قَولِ الله تعالى:
هَل يَنظُرونَ إلَّا أنْ يَأتيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة: 210] : (فالغَمامُ مَعروفٌ في كَلامِ العَرَبِ، إلَّا أنَّا لا نَدري كيفَ الْغَمَامُ الذي يَأتي اللهُ جَلَّ وعزَّ يَومَ القيامةِ في ظُلَلٍ منه؟ فنَحنُ نُؤمِنُ به، ولا نُكيِّفُ صِفَتَه. وكَذلك سائِرُ صِفاتِ اللهِ جَلَّ وعَزَّ)
[3537] يُنظر: ((تهذيب اللغة)) (3/156). .
4- قال ابنُ أبي زيدٍ القيروانيُّ: (وأنَّ اللهَ تَبارك وتعالى يَجيءُ يَومَ القيامةِ والمَلَكُ صَفًّا صَفًّا، لعَرضِ الأممِ وحِسابِها، وعُقوبَتِها وثَوابِها)
[3538] يُنظر: ((عقيدة السلف - مقدمة ابن أبي زيد القيرواني لكتابه الرسالة)) (ص: 59). .
5-قال
أبو عَمْرو الدَّاني في اعتِقادِ أهلِ السُّنَّةِ: (مِن قَولِهم: أنَّ اللهَ سُبحانَه يُعيدُ العِبادَ، ويُحيي الأمواتَ، ويَبعَثُ مَن في القُبورِ، ويَجيءُ يَومَ القيامةِ لفَصلِ القَضاءِ، يَجيءُ والمَلائِكةُ صَفًّا صَفًّا على ما أخبَرَ به تعالى)
[3539] يُنظر: ((الرسالة الوافية لمذهب أهل السنة في الاعتقادات وأصول الديانات)) (ص: 202). .
6- قال أبو عُثمانَ الصَّابونيُّ وهو يُبَيِّنُ عَقيدةَ السَّلَفِ أصحابِ الحَديثِ: (... وكَذلك يُثبِتونَ ما أنزَلَه اللهُ عَزَّ اسمُه في كِتابِه من ذِكرِ المَجيءِ والإتيانِ المَذكورينِ في قَولِه عزَّ وجَلَّ:
هَلْ يَنظُرُونَ إلَّا أن يَأتيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ [البقرة: 210] ، وقَولِه عَزَّ اسمُه:
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] .
وقَرَأتُ في رِسالةِ الشَّيخِ أبي بَكرٍ الإسماعيليِّ إلى أهلِ جيلانَ
[3540] قال الإسماعيلي: (وأنه عزَّ وجلَّ ينزل إلى السَّماء الدنيا على ما صحَّ به الخبرُ عن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بلا اعتقادِ كيفٍ فيه). يُنظر: ((اعتقاد أئمة الحديث)) (ص: 62). أنَّ الله سُبحانَه يَنزِلُ إلى السَّماءِ الدُّنيا على ما صَحَّ به الخَبَرُ عن الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقد قال اللهُ عزَّ وجَلَّ:
هَلْ يَنظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة: 210] ، وقال:
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] ، ونُؤمِنُ بذلك كُلِّه على ما جاءَ بلا كيفٍ، فلَو شاءَ سُبحانَه أن يُبَيِّنَ لَنا كيفيَّةَ ذلك فَعلَ)
[3541] يُنظر: ((عقيدة السلف وأصحاب الحديث)) (ص: 192). .
7-قال
ابنُ عَبدِ البَرِّ: (قَولُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((يَنزِلُ رَبُّنا إلى السَّماءِ الدُّنيا )) عِندَهم مِثلُ قَولِ اللهِ عزَّ وجَلَّ
فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ، ومِثلُ قَولِه:
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا كُلُّهم يَقولُ: يَنزِلُ ويَتَجَلَّى ويَجيءُ بلا كيفٍ، لا يَقولونَ: كيفَ يَجيءُ، وكَيفَ يَتَجَلَّى، وكَيفَ يَنزِلُ، ولا من أينَ جاءَ، ولا من أينَ تَجلَّى، ولا من أينَ يَنزِلُ؟ لأنَّه ليس كشَيءٍ من خَلقِه، وتعالى عن الأشياءِ ولا شَريكَ له)
[3542] يُنظر: ((التمهيد)) (7/ 153). .
8-قال
أبو يَعلى: (قَولُه:
وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر: 22] ، مَعناه: مَجيءُ ذاتِه؛ لأنَّ حَملَه على مَجيءِ الأمرِ والمَلَكِ يُسقِطُ فائِدةَ التَّخصيصِ بذلك اليَومِ؛ لأنَّ أمرَه سابِقٌ، ولِأنَّ هذا يوجِبُ تَأويلَ:
((تَرَونَ رَبَّكم)) [3543] أخرجه البخاري (554)، ومسلم (633) مطولًا باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ جرير بن عبد الله رَضِيَ اللهُ عنه. [3544] يُنظر: ((إبطال التأويلات)) (ص: 131). .
9-قال
ابنُ تَيميَّةَ: (أمَّا دُنُوُّه نَفسِه وتَقَرُّبُه من بَعضِ عِبادِه، فهذا يُثبِتُه مَن يُثبِتُ قيامَ الأفعالِ الِاختياريَّةِ بنَفسِه، ومَجيئَه يَومَ القيامةِ، ونُزولُه واستِواءَه على العَرْشِ، وهذا مَذهَبُ أئِمَّةِ السَّلَفِ وأئِمَّةِ الإسلامِ المَشهورينَ وأهلِ الحَديثِ، والنَّقلُ عنهم بذلك مُتَواتِرٌ)
[3545] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (5/ 466). .
10-قال ابنُ الموصليِّ: (قَولُه:
وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر: 22] ، وقَولُه:
هَلْ يَنظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [الأنعام: 158] ونَظائِرُه، قيلَ: هو من مَجازِ الحَذفِ، تَقديرُه: وجاءَ أمرُ رَبِّكَ، وهذا باطِلٌ من وُجوه...
«الرَّابِعُ» أنَّ في السِّياقِ ما يُبطِلُ هذا التَّقديرَ، وهو قَولُه:
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ [الفجر: 22] فعَطْفُ مَجيءِ المَلَكِ على مَجيئِه سُبحانَه يَدُلُّ على تَغايُرِ المَجيئينِ، وأنَّ مَجيئَه سُبحانَه حَقيقةٌ، كما أنَّ مَجيءَ المَلكِ حَقيقةٌ، بَل مَجيءُ الرَّبِّ سُبحانَه أَولى أن يَكونَ حَقيقةً من مَجيءِ المَلَكِ، وكَذلك قَولُه:
هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتُ رَبِّكَ [الأنعام: 158] ففَرَّقَ بينَ إتيانِ المَلائِكةِ وإتيانِ الرَّبِّ وإتيانِ بَعضِ آياتِ رَبِّكَ، فقَسَّمَ ونَوَّع، ومَعَ هذا التَّقسيمِ يَمتَنِعُ أن يَكونَ القِسمانِ واحِدًا، فتَأمَّلْه. ولِهذا مَنعَ عُقلاءُ الفَلاسِفةِ حَملَ مِثلِ هذا اللَّفظِ على مَجازِه، وقالوا: هذا يَأباه التَّقسيمُ والتَّرديدُ والِاطِّرادُ)
[3546] يُنظر: ((مختصر الصواعق المرسلة)) (ص: 469). .
11- قال
ابنُ كثيرٍ: (لِرَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَسليمًا تَشريفاتٌ يَومَ القيامةِ لا يَشرَكُه فيها أحَدٌ، وتَشريفاتٌ لا يُساويه فيها أحَدٌ... وله الشَّفاعةُ العُظمى عِندَ اللهِ ليَأتيَ لفَصلِ القَضاءِ بينَ الخَلائِقِ، وذلك بَعدَما يَسألُ النَّاسُ آدَم ثُمَّ نوحًا ثُمَّ إبراهيمَ ثُمَّ موسى ثُمَّ عيسى، فكُلٌّ يَقولُ:
((لَستُ لها)) حَتَّى يَأتُوا إلى مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيَقولُ:
((أنا لها، أنا لها )) [3547] أخرجه البخاري (7510)، ومسلم (193) من حديث أنس رضي الله عنه. ولفظ البخاري: ((إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض، فيأتون آدم فيقولون: اشفع لنا إلى ربك. فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم فإنه خليل الرحمن. فيأتون إبراهيم، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله. فيأتون موسى، فيقول لست لها، ولكن عليكم بعيسى فإنه روح الله وكلمته. فيأتون عيسى، فيقول لست لها، ولكن عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم. فيأتوني، فأقول: أنا لها..)) [3548] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/ 104). .
12-قال
ابنُ رَجَب: (لَم يَتَأوَّلِ الصَّحابةُ ولا التَّابِعونَ شَيئًا من ذلك، ولا أخرَجوه عن مَدلولِه، بَل رُوِيَ عنهم ما يَدُلُّ على تَقريرِه والإيمانِ به وإمرارِه كما جاءَ... وأصحابُنا في هذا على ثَلاثِ فِرَقٍ:
فمنهم: مَن يُثبِتُ المَجيءَ والإتيانَ، ويُصرحُ بلوازِمِ ذلك في المَخلوقاتِ، ورَبَّما ذَكروه عن
أحمَدَ من وُجوهٍ لا تَصِحُّ أسانيدُها عنه.
ومنهم: مَن يَتَأوَّلُ ذلك على مَجيءِ أمرِه.
ومنهم: مَن يُقِرُّ ذلك، ويُمِرُّه كما جاءَ ولا يُفَسِّرُه، ويَقولُ: هو مَجيءٌ وإتيانٌ يَليقُ بجَلالِ اللهِ وعَظَمَتِه سُبحانَه.
وهذا هو الصَّحيحُ عن
أحمَدَ، ومن قَبلَه من السَّلَفِ، وهو قَولُ إسحاقَ وغَيرِه من الأئِمةِ.
وكان السَّلَفُ يَنسُبونَ تَأويلَ هذه الآياتِ والأحاديثِ الصَّحيحةِ إلى
الجَهْميَّةِ؛ لأنَّ جَهمًا وأصحابَه أوَّلُ من اشتَهرَ عنهم أنَّ اللهَ تعالى مُنَزَّهٌ عَمَّا دَلَّتْ عليه هذه النُّصوصُ بأدِلَّةِ العُقولِ التي سَمَّوها أدِلَّةً قَطعيَّةً هيَ المُحَكِّماتُ، وجَعَلوا ألفاظَ الكِتابِ والسُّنَّةِ هيَ المُتَشابِهاتِ! فعَرضوا ما فيها على تلك الخيالاتِ، فقَبِلوا ما دَلَّتْ على ثُبوتِه بزَعمِهم، ورَدُّوا ما دَلَّتْ على نَفْيِه بزَعمِهم، ووافَقَهم على ذلك سائِرُ طَوائِفِ أهلِ الكَلامِ من
المُعتَزِلةِ وغَيرِهم.
وزَعموا أنَّ ظاهرَ ما يَدُلُّ عليه الكِتابُ والسُّنَّةُ تَشبيهٌ وتَجسيمٌ وضَلالٌ، واشتَقُّوا من ذلك لِمَن آمَنَ بما أنزَلَ اللهُ على رَسولِه أسماءً ما أنزَلَ اللهُ بها من سُلطانٍ، بَل هيَ افتِراءٌ على اللهِ، يُنفِّرونَ بها عن الإيمانِ باللهِ ورَسولِه.
وزَعموا أنَّ ما ورَدَ في الكِتابِ والسُّنَّةِ من ذلك -مَعَ كثرَتِه وانتِشارِه- من بابِ التَّوَسُّعِ والتَّجَوُّزِ، وأنَّه يُحمَلُ على مَجازاتِ اللُّغةِ المُستَبعَدةِ، وهذا من أعظَمِ أبوابِ القَدْحِ في الشَّريعةِ المُحكَمةِ المُطهَّرةِ، وهو من جِنسِ حَملِ الباطِنيَّةِ نُصوصَ الإخبارِ عن الغُيوبِ كالمَعادِ والجَنةِ والنَّارِ على التَّوَسُّعِ والمَجازِ دونَ الحَقيقةِ، وحَملِهم نُصوصَ الأمرِ والنَّهيِ على مِثلِ ذلك، وهذا كُلُّه مُروقٌ عن دينِ الإسلامِ.
ولَم يَنْهَ عُلَماءُ السَّلَفِ الصَّالِحِ وأئِمَّةُ الإسلامِ، ك
الشَّافِعيِّ و
أحمَدَ وغَيرِهما، عن الكَلامِ وحَذَّروا عنه إلَّا خَوفًا من الوُقوعِ في مِثلِ ذلك، ولَو عِلمَ هؤلاء الأئِمَّةُ أنَّ حَملَ النُّصوصِ على ظاهرِها كُفرٌ لوَجَبَ عليهم تَبيينُ ذلك وتَحذيرُ الأمَّةِ منه؛ فإنَّ ذلك من تَمامِ نَصيحةِ المُسلِمينَ، فكَيفَ كان يَنصَحونَ الأمَّةَ فيما يَتَعَلَّقُ بالأحكامِ العَمَليَّةِ ويَدَعُونَ نَصيحَتَهم فيما يَتَعَلَّقُ بأصولِ الِاعتِقاداتِ؟ هذا من أبطَلِ الباطِلِ)
[3549] يُنظر: ((فتح الباري)) (5/97). .
13- قال
أبو الثَّناءِ الألوسيُّ: (قَولُه سُبحانَه:
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا [الزمر: 69] إشارةٌ إلى تَجلِّيه عزَّ وجَلَّ لفَصلِ القَضاءِ، وقد يُعَبَّرُ عنه بالإتيانِ، وقد صَرَّحَ به في قَولِه تعالى:
يَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ [البقرة: 210] ، ولَم يَتَأوَّلْ ذلك السَّلَفُ، بَل أثبَتوه له سُبحانَه، كالنُّزولِ، على الوَجه الذي أثبَتَه عزَّ وجَلَّ لنَفسِه)
[3550] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (12/ 285). .
14- قال مُحَمَّد خَليل هرَّاس في صِفَتَيِ الإتيانِ والمَجيءِ لله تعالى يَومَ القيامةِ: (الذي عليه أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ الإيمانُ بذلك على حَقيقَتِه، والِابتِعادُ عن التَّأويلِ الذي هو في الحَقيقةِ إلحادٌ وتَعطيلٌ... إنَّ الآياتِ صَريحةٌ في بابِها، لا تَقبَلُ شَيئًا من تلك التَّأويلاتِ. فالآيةُ الأولى
[3551] هي قول الله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [البقرة: 210] . تَتَوَعَّدُ هؤلاء المُصِرِّينَ على كُفرِهم وعنادِهم واتِّباعِهم للشَّيطانِ بأنَّهم ما يَنتَظِرونَ إلَّا أن يَأتيَهمُ اللهُ عزَّ وجَلَّ في ظُلَلٍ من الْغَمَامِ لفَصلِ القَضاءِ بينَهم، وذلك يَومُ القيامةِ؛ ولِهذا قال بَعدَ ذلك:
وَقُضِيَ الْأَمْرُ، والآيةُ الثَّانيةُ
[3552] هي قول الله عز وجل: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام: 158] . أشَدُّ صَراحةً؛ إذ لا يُمكِنُ تَأويلُ الإتيانِ فيها بأنَّه إتيانُ الأمرِ أوِ العَذابِ؛ لأنَّه رَدَّدَ فيها بينَ إتيانِ المَلائِكةِ وإتيانِ الرَّبِّ، وإتيانِ بَعضِ آياتِ الرَّبِّ سُبحانَه. وقَولُه في الآيةِ التي بَعدَها:
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا لا يُمكِنُ حَملُها على مَجيءِ العَذابِ؛ لأنَّ المُرادَ مُجيئُه سُبحانَه يَومَ القيامةِ لفَصلِ القَضاءِ، والمَلائِكةُ صُفوفٌ؛ إجلالًا وتَعظيمًا له، وعِندَ مَجيئِه تَنشَقُّ السَّماءُ بالغَمامِ)
[3553] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) (ص: 112). .
15-قال
ابنُ عُثَيمين: (أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ يُثبِتونَ أنَّ اللهَ يَأتي بنَفسِه هو؛ لأنَّ اللهَ تعالى ذَكرَ ذلك عن نَفسِه، وهو سُبحانَه أعلَمُ بنَفسِه وبِغَيرِه، وأصدَقُ قيلًا من غَيرِه وأحسَنُ حَديثًا، فكَلامُه مُشتَمِلٌ على أكمَلِ العِلمِ والصِّدقِ والبَيانِ والإرادةِ، فاللهُ عزَّ وجَلَّ يُريدُ أن يُبَيِّنَ لَنا الحَقَّ وهو أعلَمُ وأصدَقُ وأحسَنُ حَديثًا. لَكِن يَبقى السُّؤالُ: هَل نَعلَمُ كيفيَّةَ هذا المَجيءِ؟
الجَوابُ: لا نَعلَمُه؛ لأنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى أخبَرَنا أنَّه يَجيءُ، ولَم يُخبِرنا كيفَ يَجيءُ، ولِأنَّ الكَيفيَّةَ لا تُعلَمُ إلَّا بالمُشاهَدةِ أو مُشاهَدةِ النَّظيرِ أوِ الخَبَرِ الصَّادِقِ عنها، وكُلُّ هذا لا يوجَدُ في صِفَاتِ اللهِ تعالى، ولِأنَّه إذا جُهِلَتِ الذَّاتُ، جُهِلَتِ الصِّفاتُ، أي: كيفيَّتُها، فالذَّاتُ مَوجودةٌ وحَقيقيَّةٌ ونَعرِفُها ونَعرِفُ ما مَعنى الذَّاتِ وما مَعنى الذَّاتِ وما مَعنى النَّفسِ، وكَذلك نَعرِفُ ما مَعنى المَجيءِ، لَكِنَّ كيفيَّةَ الذَّاتِ أوِ النَّفسِ وكَيفيَّةَ المَجيءِ غَيرُ مَعلومٍ لَنا. فنَؤمِنُ بأنَّ اللهَ يَأتي حَقيقةً وعلى كيفيَّةٍ تَليقُ به، مَجهولةٌ لَنا)
[3554] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (8/233). .