المَبحَثُ الأوَّلُ: الأدَلَّةُ من القُرآنِ الكَريمِ
1- قال اللهُ تعالى:
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 21، 22].
قال
ابنُ كثيرٍ: (يُخبِرُ تعالى عَمَّا يَقَعُ يَومَ القيامةِ من الأهوالِ العَظيمةِ، فقال:
كَلَّا أي: حَقًّا
إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا أي: وُطِئَت ومُهِّدَت وسُوِّيتِ الأرضُ والجِبالُ، وقامَ الخَلائِقُ من قُبورِهم لرَبِّهم،
وَجَاءَ رَبُّكَ يَعني: لفَصلِ القَضاءِ بينَ خَلقِه، وذلك بَعدَ ما يَستَشفِعونَ إليه بَسَيِّدِ ولَدِ آدَم على الإطلاقِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بَعدَما يَسألونَ
أُولي العَزمِ من الرُّسُلِ واحِدًا بَعدَ واحِدٍ، فكُلُّهم يَقولُ: لَستُ بصاحِبِ ذاكم، حَتَّى تَنتَهيَ النَّوبةُ إلى مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيَقولُ:
((أنا لها، أنا لها )). فيَذهَبُ فيَشفَعُ عِندَ اللهِ في أن يَأتيَ لفَصلِ القَضاءِ، فيُشفِّعُه اللهُ في ذلك، وهيَ أوَّلُ الشَّفاعاتِ، وهيَ المَقامُ المَحمودُ كما تَقَدَّمَ بَيانُه في سورةِ سُبحانَ، فيَجيءُ الرَّبُّ تعالى لفَصلِ القَضاءِ كما يَشاءُ، والمَلائَكةُ يَجيئونَ بينَ يَدَيه صُفوفًا صُفوفًا)
[3505] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/ 399). .
وقال
السَّعديُّ: (يَجيءُ اللهُ تعالى لفَصلِ القَضاءِ بينَ عِبادِه في ظُلَلٍ من الغَمامِ، وتَجيءُ المَلائِكةُ الكِرامُ، أهلُ السَّمَواتِ كُلُّهم صَفًّا صَفًّا، أي: صَفًّا بَعدَ صَفٍّ، كُلُّ سَماءٍ يَجيءُ مَلائِكَتُها صَفًّا، يُحيطونَ بمن دونَهم من الخَلقِ، وهذه الصُّفوفُ صُفوفُ خُضوعٍ وذُلٍّ للمَلِكِ الجَبَّارِ)
[3506] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 924). .
2- قال اللهُ سُبحانَه:
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ [الأنعام: 158] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (يَقولُ جَلَّ ثَناؤُه: هَل يَنتَظِرُ هؤلاء العادِلونَ برَبِّهمُ الأوثانَ والأصنامَ إلَّا أن تَأتيَهمُ المَلائِكةُ بالمَوتِ، فتَقبِضَ أرواحَهم، أو أن يَأتيَهم رَبُّك يا مُحَمَّدُ بينَ خَلقِه في مَوقِفِ القيامةِ،
أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَقولُ: أو أن يَأتيَهم بَعضُ آياتِ رَبِّكَ، وذلك فيما قال أهلُ التَّأويلِ: طُلوعُ الشَّمسِ من مَغرِبِها)
[3507] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/ 11). .
وقال
الشِّنقيطيُّ: (قَولُه تعالى:
هَل يَنظُرونَ إلَّا أن تَأتيَهُمُ المَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ الآية، ذكَرَ تعالى في هذه الآيةِ الكَريمةِ إتيانَ اللهِ جَلَّ وعلا ومَلائِكَتَه يَومَ القيامةِ، وذَكرَ ذلك في مَوضِعٍ آخَرَ، وزادَ فيه أنَّ المَلائِكةَ يَجيئونَ صُفوفًا، وهو قَولُه تعالى:
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا، وذَكرَه في مَوضِعٍ آخَرَ، وزادَ فيه أنَّه جَلَّ وعَلا يَأتي في ظُلَلٍ من الغَمامِ، وهو قَولُه تعالى:
هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ والْمَلَائِكَةُ الآيةُ.
ومِثلُ هذا من صِفاتِ الله تعالى التي وَصَفَ بها نَفسَه يُمَرُّ كما جاءَ، ويُؤمَنُ بها، ويُعتَقَدُ أنَّه حَقٌّ، وأنَّه لا يُشبِهُ شَيئًا من صِفاتِ المَخلوقينَ، فسُبحانَ من أحاطَ بكُلِّ شَيءٍ عِلمًا:
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا)
[3508] يُنظر: ((أضواء البيان)) (1/ 549). .
3- قال اللهُ عَزَّ وجلَّ:
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [البقرة: 210] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (يَقولُ تعالى مُهَدِّدًا للكافِرينَ بمُحَمَّدٍ صَلَواتُ اللهِ وسَلامُه عليه:
هَل يَنظُرونَ إلَّا أن يَأتيَهُمُ اللهُ في ظُلَلٍ مِنَ الغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ يَعني: يَومَ القيامةِ، لفَصلِ القَضاءِ بينَ الأوَّلينَ والآخِرينَ، فيَجزي كُلَّ عامِلٍ بعَمَلِه؛ إنْ خَيرًا فخيرٌ، وإنْ شَرًّا فشَرٌّ؛ ولِهذا قال:
وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ، كما قال:
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى [الفجر: 21 -23] ، وقال:
هَلْ يَنْظُرونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ الآية
[الأنعام: 158] )
[3509] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/ 566). .
وقال
السَّعديُّ: (هذا فيه من الوَعيدِ الشَّديدِ والتَّهديدِ ما تَنخَلِعُ له القُلوبُ، يَقولُ تعالى: هَل يَنتَظِرُ السَّاعونُ في الفَسادِ في الأرضِ، المُتَّبِعونَ لخُطواتِ
الشَّيطانِ، النَّابِذونَ لأمرِ اللهِ إلَّا يَومَ الجَزاءِ بالأعمالِ، الذي قد حُشِيَ من الأهوالِ والشَّدائِدِ والفَظائِعِ ما يُقَلقِلُ قُلوبَ الظَّالِمينَ، ويَحِقُّ به الجَزاءُ السَّيِّئُ على المُفسِدينَ.
وذلك أنَّ اللهَ تعالى يَطوي السَّمَواتِ والأرضَ، وتُنثَرُ الكَواكِبُ، وتُكَوَّرُ الشَّمسُ والقَمَرُ، وتَنزِلُ المَلائِكةُ الكِرامُ، فتُحيطُ بالخَلائِقِ، ويَنزِلُ الباري تَبارك تعالى:
فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ؛ ليَفصِلَ بينَ عِبادِه بالقَضاءِ العَدْلِ.
فتوضَعُ المَوازينُ، وتُنشَرُ الدَّواوينُ، وتَبيَضُّ وُجوهُ أهلِ السَّعادةِ، وتَسودُّ وُجوهُ أهلِ الشَّقاوةِ، ويَتَمَيَّزُ أهلُ الخَيرِ من أهلِ الشَّرِّ، وكُلٌّ يُجازى بعَمَلِه، فهنالِك يَعَضُّ الظَّالِمُ على يَدَيه إذا عَلِمَ حَقيقةَ ما هو عليه.
وهذه الآيةُ وما أشبَهها دَليلٌ لمَذهَبِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، المُثبِتينَ للصِّفاتِ الِاختياريَّةِ، كالِاستِواءِ، والنُّزولِ، والمَجيءِ، ونَحوِ ذلك من الصِّفاتِ التي أخبَرَ بها تعالى، عن نَفسِه، أو أخبَرَ بها عنه رَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيُثبِتونَها على وجهٍ يَليقُ بجَلالِ الله وعَظمَتِه، من غَيرِ تَشبيهٍ ولا تَحريفٍ، خِلافًا للمُعطِّلةِ على اختِلافِ أنواعِهم، من
الجَهْميَّةِ و
المُعتَزِلةِ و
الأشعَريَّةِ ونَحوِهم مِمَّن يَنفي هذه الصِّفاتِ، ويَتَأوَّلُ لأجلِها الآياتِ بتَأويلاتٍ ما أنزلَ اللهُ عليها من سُلْطانٍ، بَل حَقيقَتُها القَدْحُ في بَيانِ اللهِ وبَيانِ رَسولِه، والزَّعمُ بأنَّ كلامَهم هو الذي تَحصُلُ به الهدايةُ في هذا البابِ، فهؤلاء ليس مَعَهم دَليلٌ نَقليٌّ، بَل ولا دَليلٌ عَقليٌّ، أمَّا النَّقليُّ فقَدِ اعتَرَفوا أنَّ النُّصوصَ الوارِدةَ في الكِتابِ والسُّنَّةِ ظاهرُها بَل صَريحُها دالٌّ على مَذهَبِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، وأنَّها تَحتاجُ لدَلالتِها على مَذهَبِهمُ الباطِلِ أن تَخرُجَ عن ظاهرِها ويُزادَ فيها ويُنقَصَ، وهذا كما تَرى لا يَرتَضيه مَن في قَلبِه مِثقالُ ذَرَّةٍ من إيمانٍ.
وأمَّا العَقلُ فليس في العَقلِ ما يَدُلُّ على نَفيِ هذه الصِّفاتِ، بَلِ العَقلُ دَلَّ على أنَّ الفاعِلَ أكمَلُ من الذي لا يَقدِرُ على الفِعلِ، وأنَّ فِعلَه تعالى المُتَعَلِّقَ بنَفسِه والمُتَعَلِّقَ بخَلقِه هو كمالٌ، فإنْ زَعموا أنَّ إثباتَها يَدُلُّ على التَّشبيهِ بخَلقِه، قيلَ لهم: الكَلامُ على الصِّفاتِ يَتبَعُ الكَلامَ على الذَّاتِ، فكَما أنَّ لله ذاتًا لا تُشبِهُها الذَّواتُ، فلِلهِ صِفاتٌ لا تُشبِهها الصِّفاتُ، فصِفاتُه تَبَعٌ لذاتِه، وصِفاتُ خَلقِه تَبَعٌ لذَواتِهم، فليس في إثباتِها ما يَقتَضي التَّشبيهَ بوَجهٍ.
ويُقالُ أيضًا لِمَن أثبَت بَعضَ الصِّفاتِ ونَفى بَعضًا، أو أثبَتَ الأسماءَ دونَ الصِّفاتِ: إمَّا أن تُثبِتَ الجَميعَ كما أثبَته اللهُ لنَفسِه، وأثبَتَه رَسولُه، وإمَّا أن تَنفيَ الجَميعَ، وتَكونَ مُنكِرًا لرَبِّ العالَمينَ، وأمَّا إثباتُك بَعضَ ذلك ونَفْيُك لبَعضِه، فهذا تَناقُضٌ)
[3510] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 94). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (قَولُه تعالى:
إلَّا أن يَأتيَهُمُ اللهُ أي: يَأتيهمُ اللهُ نَفسُه؛ هذا ظاهرُ الآيةِ، ويَجِبُ المُصيرُ إليه؛ لأنَّ كُلَّ فِعلٍ أضافَه اللهُ إليه فهو له نَفسِه، ولا يُعدَلُ عن هذا الظَّاهرِ إلَّا بدَليلٍ من عِندِ اللهِ.
قَولُه تعالى:
فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمَامِ... هذا الغَمامُ يَأتي مُقَدِّمةً بينَ يَدَي مَجيءِ الله عزَّ وجَلَّ، كما قال تعالى:
ويَومَ تَشَقُّقُ السَّماءَ بالغَمَامِ [الفرقان: 25] ؛ فالسَّماءُ تَشَقَّقُ -لا تَنشَقُّ- كأنَّها تَنبَعِثُ من كُلِّ جانِبٍ... و"الغَمَامُ": قالوا: إنَّه السَّحابُ الأبيضُ الرَّقيقُ، لَكِن ليس كسَحابِ الدُّنيا؛ فالِاسمُ هو الِاسمُ، ولَكِنَّ الحَقيقةَ غَيرُ الحَقيقةِ؛ لأنَّ المُسَمَّياتِ في الآخِرةِ وإن شارَكَتِ المُسَمَّياتِ في الدُّنيا في الِاسمِ إلَّا أنَّها تَختَلِفُ مِثلَما تَختَلِفُ الدُّنيا عن الآخِرةِ.
قَولُه تعالى:
والمَلائِكةُ بالرَّفعِ عَطفًا على لَفظِ الجِلالةِ، يَعني: وتَأتيهمُ المَلائِكةُ أيضًا مُحيطةً بهم، كما قال اللهُ تعالى:
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 21، 22]، وفي حَديثِ الصُّورِ الطَّويلِ الذي ساقَه
ابنُ جَريرٍ وغَيرُه أنَّ السَّماءَ تَشَقَّقُ، فتَشَقَّقُ السَّماءُ الدُّنيا بالغَمامِ، وتَنزِلُ المَلائِكةُ، فيُحيطونَ بأهلِ الأرضِ، ثُمَّ السَّماءُ الثَّانيةُ، والثَّالِثةُ، والرَّابِعةُ .. ؛ كُلٌّ من وراءِ الآخَرِ؛ ولِهذا قال تعالى:
صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] يَعني: صَفًّا بَعدَ صَفٍّ، ثُمَّ يَأتي الرَّبُّ عزَّ وجَلَّ للقَضاءِ بينَ عِبادِه، ذلك الإتيانُ الذي يَليقُ بعَظمَتِه وجَلالِه، ولا أحَدَ يُحيطُ عِلمًا بكَيفيَّتِه؛ لقَولِه تعالى:
وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه: 110] ...
الفَوائِدُ:...
منها: إثباتُ إتيانِ اللهِ عزَّ وجَلَّ يَومَ القيامةِ للفَصلِ بينَ عِبادِه، وهو إتيانٌ حَقيقيٌّ يَليقُ بجَلالِه لا تُعلَمُ كيفيَّتُه، ولا يُسألُ عنها، كسائِرِ صِفاتِه...وقد ذَهَبَ أهلُ
التَّعطيلِ إلى أنَّ المُرادَ بإتيانِ الله: إتيانُ أمرِه؛ وهذا تَحريفٌ للكَلمِ عن مَواضِعِه، وصَرفٌ للكَلامِ عن ظاهرِه بلا دَليلٍ، إلَّا ما زَعموه دَليلًا عَقليًّا، وهو في الحَقيقةِ وهَميٌّ، وليس عَقليًّا؛ فنَحنُ نَقولُ: الذي نَسَبَ فِعلَ الإتيانِ إليه هو اللهُ عزَّ وجَلَّ، وهو أعلَمُ بنَفسِه، وهو يُريدُ أن يُبَيِّنَ لعِبادِه، كما قال تعالى:
يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء: 176] ، وإذا كان يُريدُ أن يُبَيِّنَ، وهو أعلَمُ بنَفسِه، وليس في كلامِه عِيٌّ وعَجزٌ عن التَّعبيرِ بما أرادَ، وليس في كلامِه نَقصٌ في
البَلاغةِ، إذن فكَلامُه في غايةِ ما يَكونُ من العِلمِ، وغايةِ ما يَكونُ من إرادةِ الهُدى، وغايةِ ما يَكونُ من الفَصاحةِ و
البَلاغةِ، وغايةِ ما يَكونُ من الصِّدقِ؛ فهَل بَعدَ ذلك يُمكِنُ أن نَقولَ: إنَّه لا يُرادُ به ظاهرُه؟! كَلَّا لا يُمكِنُ هذا إلَّا إذا قال اللهُ هو عن نَفسِه إنَّه لَم يُرِد ظاهِرَه، إذن المُرادُ إتيانُ اللهِ نَفسِه، ولا يُعارِضُ ذلك أنَّ الله قد يُضيفُ الإتيانَ إلى أمرِه، مِثلُ قَولِه تعالى:
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحلُ: 1] ، ومِثلُ قَولِه تعالى:
أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ [النحل: 33] ؛ لأنَّنا نَقولُ: إنَّ هذا من أمورِ الغَيبِ، والصِّفاتُ تَوقيفيَّةٌ؛ فنَتَوَقَّفُ فيها على ما ورَدَ؛ فالإتيانُ الذي أضافَه اللهُ إلى نَفسِه يَكونُ المُرادُ به إتيانَه بنَفسِه، والإتيانُ الذي أضافَه اللهُ إلى أمرِه يَكونُ المُرادُ به إتيانَ أمرِه؛ لأنَّه ليس لَنا أن نَقولَ على اللهِ ما لا نَعلَمُ، بَل علينا أن نَتَوَقَّفَ فيما ورَدَ على حَسَبِ ما ورَدَ)
[3511] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/ 11-15). .
4- قال اللهُ تعالى:
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا [الفرقان: 25، 26].
قال
السَّعديُّ: (يُخبِرُ تعالى عن عَظمةِ يَومِ القيامةِ وما فيه من الشِّدَّةِ والكُروبِ، ومُزعِجاتِ القُلوبِ، فقال:
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالغَمَامِ وذلك الغَمامُ الذي يَنزِلُ اللهُ فيه، يَنزِلُ من فوقِ السَّمَواتِ فتَنفَطِرُ له السَّماواتُ وتَشَقَّقُ وتَنزِلُ مَلائِكةُ كُلِّ سَماءٍ، فيَقِفونَ صَفًّا صَفًّا، إمَّا صَفًّا واحِدًا مُحيطًا بالخَلائِقِ، وإمَّا كُلُّ سَماءٍ يُكونونَ صَفًّا، ثُمَّ السَّماءُ التي تَليها صَفًّا، وهَكَذا.
القَصدُ أنَّ المَلائِكةَ -على كثرَتِهم وقوَّتِهم- يَنزِلونَ مُحيطينَ بالخَلقِ مَذعِنينَ لأمرِ رَبِّهم، لا يَتَكَلَّمُ منهم أحَدٌ إلَّا بإذْنٍ من الله، فما ظَنُّك بالآدَميِّ الضَّعيفِ خُصوصًا الذي بارَز مالِكَه بالعَظائِمِ، وأقدَمَ على مَساخِطِه ثُمَّ قَدِمَ عليه بذُنوبٍ وخَطايا لَم يَتُبْ منها؟! فيَحكمُ فيه المَلِكُ الحَقُّ بالحُكمِ الذي لا يَجورُ ولا يَظلِمُ مِثقالَ ذَرَّةٍ؛ ولِهذا قال:
وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا لصُعوبَتِه الشَّديدةِ، وتَعَسُّرِ أمورِه عليه، بخِلافِ المُؤمِنِ فإنَّه يَسيرٌ عليه خَفيفُ الحِملِ)
[3512] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 581). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (قَولُه:
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا [الفرقان: 25] . يعني: اذكُر يَومَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بالغَمامِ. و
تَشَقَّقُ: أبلَغُ من تَنشَقُّ؛ لأنَّ ظاهرَها تَشَقَّقُ شَيئًا فشَيئًا، ويَخرُجُ هذا الغَمامُ، يَثورُ ثَوَرانَ الدُّخانِ، يَنبَعِثُ شَيئًا فشَيئًا.
تَشَقَّقُ السَّماءُ بالغَمامِ، مِثلُ ما يُقالُ: تَشَقَّقُ الأرضُ بالنَّباتِ، يَعني: يَخرُجُ الغَمامُ من السَّماءِ ويَثورُ مُتَتابِعًا، وذلك لمَجيءِ اللهِ عزَّ وجَلَّ للفَصلِ بينَ عَباده، فهو يَومٌ رَهيبٌ عَظيمٌ.
قَولُه:
وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا: يَنزِلونَ من السَّمَواتِ شَيئًا فشَيئًا، تَنزِلُ مَلائِكةُ السَّماءِ الدُّنيا، ثُمَّ الثَّانيةِ، ثُمَّ الثَّالِثةِ .. وهَكَذا.
وهذه الآيةُ في سياقِها ليس فيها ذِكرُ مَجيءِ اللهِ، لَكِن فيها الإشارةُ إلى ذلك؛ لأن تَشَقُّقَ السَّماءِ بالغَمامِ إنَّما يَكونُ لمَجيءِ اللهِ تعالى)
[3513] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) (1/ 278). .
وقال أيضًا: (ووَجهُ ذِكرِ المُؤَلِّفِ
ابنِ تَيميَّةَ من أدِلَّةِ مَجيءِ اللهِ قَولَه تعالى:
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا مَعَ أنَّه ليس في الآيةِ ذِكرُ المَجيءِ: أنَّ تَشَقُّقَ السَّماءِ بالغَمامِ وتَنزيلَ المَلائِكةِ إنَّما يَكونانِ عِندَ مَجيءِ اللهِ للقَضاءِ بينَ عِبادِه، فيَكونُ من بابِ الِاستِدلالِ بأحَدِ الأمرينِ على الآخَرِ لِما بينَهما من التَّلازُمِ)
[3514] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (4/ 273). .
5- قال اللهُ سُبحانَه:
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا * يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا * وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا [النبأ: 17 - 19] قال
السَّمعانيُّ: (قَولُه:
وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ أي: جُعِلَتْ طُرُقًا، وقيلَ: فُتِحتْ أبوابُ السَّماءِ لنُزولِ المَلائِكةَ)
[3515] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (6/ 138). .
وقال
البَغَويُّ: (
وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ، قَرَأ أهلُ الكوفةِ
فُتِحَتْ بالتَّخفيفِ، وقَرَأ الآخَرونَ بالتَّشديدِ، أي شُقَّتْ لنُزولِ المَلائِكةَ،
فَكَانَتْ أَبْوَابًا، أي: ذاتَ أبوابٍ. وقيلَ: تَنحَلُّ وتَتَناثَرُ حَتَّى تَصيرَ فيها أبوابٌ وطُرُقٌ)
[3516] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (5/ 200). .
وقال
ابنُ الجَوزيِّ: (وإنَّما تُفتَحُ لنُزولِ المَلائِكةِ، فكانت أبوابًا، أي: ذاتَ أبوابٍ)
[3517] يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/ 389). .
وقال
القُرطُبيُّ: (قَولُه تعالى:
وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا أي: لنُزولِ المَلائِكةِ، كما قال تعالى:
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان: 25] ))
[3518] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (19/ 176). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (
وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا أي: طُرُقًا ومَسالِكَ لنُزولِ المَلائِكةِ)
[3519] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/ 305). .
وقال
السَّعديُّ: (وتَشَقَّقُ السَّماءُ حَتَّى تَكونَ أبوابًا، ويَفصِلُ اللهُ بينَ الخَلائِقِ بحُكمِه الذي لا يَجورُ)
[3520] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 907). .
6- قال اللهُ عَزَّ وجلَّ:
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ [الزمر: 69] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (يَقولُ تعالى ذِكرُه: فأضاءَتِ الأرضُ بنُورِ رَبِّها، يُقالُ: أشرَقتِ الشَّمسُ: إذا صَفَتْ وأضاءَت، وأشرَقَت: إذا طَلَعتْ، وذلك حينَ يَبرُزُ الرَّحمَنُ لفَصلِ القَضاءِ بينَ خَلقِه، وبِنَحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التَّأويلِ)
[3521] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/ 261). .
وقال
البَغَويُّ: (قَولُه عزَّ وجَلَّ:
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ، أضاءَت،
بِنُورِ رَبِّهَا بنورِ خالِقِها، وذلك حينَ يَتَّجَلَّى الرَّبُّ لفَصلِ القَضاءِ بينَ خَلقِه، فما يَتَضارُّونَ في نَورِه كما لا يَتَضارُّونَ في الشَّمسِ في اليَومِ الصَّحْوِ)
[3522] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/ 101). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (قَولُه عزَّ وجَلَّ:
وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها فهذا إشراقُها يَومَ القيامةِ بنُورِه تعالى إذا جاءَ لفَصلِ القَضاءِ)
[3523] يُنظر: ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (ص: 19). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (قَولُه:
وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها أي: أضاءَت يَومَ القيامةِ إذا تَجلَّى الحَقُّ تَبارك وتعالى، للخَلائِقِ لفَصلِ القَضاءِ)
[3524] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/ 118). .
وقال
السَّعديُّ: (
وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها عُلِمَ من هذا أنَّ الأنوارَ المَوجودةَ تَذهَبُ يَومَ القيامةِ وتَضمَحِلُّ، وهو كذلك؛ فإنَّ اللهَ أخبَرَ أنَّ الشَّمسَ تُكَوَّرُ، والقَمَرَ يُخسَفُ، والنُّجومَ تَندَثِرُ، ويَكونُ النَّاسُ في ظُلمةٍ، فتُشرِقُ عِندَ ذلك الأرضُ بنورِ رَبِّها، عِندَما يَتَجَلَّى ويَنزِلُ للفَصلِ بينَهم، وذلك اليَومُ يَجعَلُ اللهُ للخَلقِ قوَّةً، ويُنشِئُهم نَشأةً يَقْوَونَ على ألَّا يَحرِقَهم نُورُه، ويَتَمَكَّنونَ أيضًا من رُؤيَتِه، وإلَّا فنُورُه تعالى عَظيمٌ، لَو كشَفَه لأحرَقَت سُبُحاتُ وَجْهِه ما انتَهى إليه بصَرُه من خَلقِه)
[3525] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 729). .