المَطلَبُ الخامِسُ: إقامةُ الشُّهودِ
قال اللهُ تعالى:
إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر: 51] .
عن زيدِ بنِ أسلَمَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: الأشهادُ أربَعةٌ: الْمَلائِكةُ الذينَ يُحْصُونَ أعمالَنا، وقَرَأ:
وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ، والنَّبيُّونُ شُهَداءُ على أُمَمِهم، وقَرَأ:
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وأمَّةُ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شُهداءُ على الأُمَمِ، وقَرَأ:
لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ والأجسادُ والجُلودُ، وقَرَأ:
وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [3666] يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (10/ 3267). .
وقال
البَيضاويُّ: (الأشهادُ جَمعُ شاهدٍ كصاحِبٍ وأصحابٍ، والمُرادُ بهم مَن يَقومُ يَومَ القيامةِ للشَّهادةِ على النَّاسِ من المَلائِكةِ والأنبياءِ والمُؤمِنينَ)
[3667] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/ 60). .
وقال
ابنُ عاشور: (الأشهادُ: جَمعُ شاهدٍ. والقيامُ: الوُقوفُ في المَوقِفِ. والأشهادُ: الرُّسُلُ، والمَلائِكةُ الحَفَظةُ والمُؤمِنونَ من هذه الأمَّةِ، كما أشارَ إليه قَولُه:
لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] ، وذلك اليَومُ هو يَومُ الحَشرِ، وشَهادةُ الرُّسُلِ على الذينَ كَفَروا بهم من جُملةِ نَصرِهم عليهم، وكَذلك شَهادةُ المُؤمِنينَ)
[3668] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/ 168). .
فمِنَ الشُّهودِ يَومَ القيامةِ المَلائِكةُ عليهمُ السَّلامُ، وذلك على أحَدِ الأقوالِقال اللهُ تعالى:
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق: 20، 21].
قال
ابنُ جَريرٍ: (يَقولُ تعالى ذِكرُه: وجاءَت يَومَ يُنفَخُ في الصُّورِ كُلُّ نَفسٍ رَبَّها، مَعَها سائِقٌ يَسوقُها إلى اللهِ، وشَهيدٌ يَشهَدُ عليها بما عَمِلَت في الدُّنيا من خَيرٍ أو شَرٍّ)
[3669] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/ 429). .
وقال
ابنُ الجَوزيِّ: (قَولُه تعالى:
مَعَهَا سائِقٌ فيه قَولانِ: أحَدُهما: أنَّ السَّائِقَ مَلَكٌ يَسوقُها إلى مَحْشَرِها، قاله أبو هُريرةَ: والثَّاني: أنَّه قَرِينُها من الشَّياطينِ، سُمِّي سائِقًا؛ لأنَّه يَتبَعُها وإن لَم يَحُثَّها. وفي (الشَّهيدِ) ثَلاثةُ أقوالٍ: أحَدُها: أنَّه مَلكٌ يَشهَدُ عليها بعَمَلِها، قاله عُثمانُ بْنُ عَفَّانَ والحَسَنُ. وقال مُجاهِدٌ: المَلَكانِ سائِقٌ وشَهيدٌ. وقال ابنُ السَّائِبِ:
السَّائِقُ الذي كان يَكتُبُ عليه السَّيِّئاتِ، والشَّهيدُ الذي كان يَكتُبُ الحَسَناتِ. والثَّاني: أنَّه العَمَلُ يَشهَدُ على الإنسانِ، قاله أبو هُريرةَ. والثَّالِثُ: الأيدي والأرجُلُ تَشهَدُ عليه بعَمَلِه، قاله الضَّحَّاكُ)
[3670]يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/ 161). .
قال
البَيضاويُّ: (
وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ مَلكانِ أحَدُهما يَسَوقُه والآخَرُ يَشهَدُ بعَمَلِه، أو مَلَكٌ جامِعٌ للوَصفينِ. وقيلَ: السَّائِقُ كاتِبُ السِّيِّئاتِ، والشَّهيدُ كاتِبُ الحَسَناتِ. وقيلَ: السَّائِقُ نَفسُه أو قَرينُه، والشَّهيدُ جَوارِحُه أو أعمالُه)
[3671] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/ 141). .
ومنَ الشُّهودِ يَومَ القيامةِ الرُّسُلُ عليهمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فيَشهَدُ كُلُّ رَسولٍ على أمَّتِه بالبَلاغِ كما يَشهَدُ على تَكذيبِهم لهقال اللهُ سُبحانَه:
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا [النساء: 41].
قال
السَّمعانيُّ: (مَعناه: فكَيفَ الحالُ إذا جِئْنا من كُلِّ أمَّةٍ بشَهيدٍ؟ وأرادَ بالشَّهيدِ من كُلِّ أمَّةٍ نَبيَّها، وشَهيدُ هذه الأمَّةِ: نَبيُّنا.
واختَلَفوا على أنَّ شَهادَتَهم على ماذا؟ منهم من قال: يَشهَدونَ على تَبليغِ الرِّسالةِ، ومنهم من قال: يَشهَدونَ على الأمَّةِ بالأعمالِ)
[3672] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (1/ 428). .
وقال
البَغَويُّ: (قَولُه تعالى:
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، أي: فكَيفَ الحالُ وكَيفَ يَصنَعونَ إذا جِئْنا من كُلِّ أمَّةٍ بشَهيدٍ، يَعني: نَبيَّها يَشهَدُ عليهم بما عَمِلوا، وجِئْنا بك -يا مُحَمَّدُ- على هؤلاء شَهيدًا، شاهدًا يَشهَدُ على جَميعِ الأمَّةِ على من رَآه ومن لَم يَرَهْ)
[3673] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (1/ 624). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (يَقولُ تعالى مُخبِرًا عن هولِ يَومِ القيامةِ وشِدَّةِ أمرِه وشَأنِه: فكَيفَ يَكونُ الأمرُ والحالُ يَومَ القيامةِ وحينَ يَجيءُ من كُلِّ أمَّةٍ بشَهيدٍ، يَعني الأنبياءَ عليهمُ السَّلامُ؟ كما قال تعالى:
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الزمر: 69] وقال تعالى:
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89] )
[3674] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/ 306). .
وقال
السَّعديُّ: (أي: كيفَ تَكونُ تلك الأحوالُ وكَيفَ يَكونُ ذلك الحُكمُ العَظيمُ الذي جَمَعَ أنَّ من حَكَمَ به كامِلُ العِلمِ كامِلُ العَدْلِ كامِلُ الحِكمةِ بشَهادةِ أزكى الخَلقِ، وهمُ الرُّسُلُ على أُمَمِهم، مَعَ إقرارِ المَحكومِ عليه؟ فهذا -واللهِ- الحُكمُ الذي هو أعَمُّ الأحكامِ وأعدَلُها وأعظَمُها)
[3675] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 179). .
وقال اللهُ عَزَّ وجلَّ:
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَـؤُلاء [النحل: 89] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (يَقولُ تعالى ذِكرُه:
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَقولُ: نَسألُ نَبيَّهمُ الذي بَعَثناه إليهم للدُّعاءِ إلى طاعَتِنا، وقال:
مِنْ أَنْفُسِهِمْ؛ لأنَّه تعالى ذِكرُه كان يَبعَثُ إلى الأمَمِ أنبياءَها منها: ماذا أجابوكم، وما رَدُّوا عليكم؟
وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ يَقولُ لنَبيِّه مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وجِئْنا بك يا مُحَمَّدُ شاهدًا على قَومِك وأمَّتِك الذينَ أرسَلْتُك إليهم بمَ أجابوك؟ وماذا عَمِلوا فيما أرسَلْتُك به إليهم؟)
[3676] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/ 333). .
وقال ابنُ عَطِيَّةَ: (المَعنى: واذكُرْ يَومَ نَبعَثُ في كُلِّ أمَّةٍ شَهيدًا عليها، وهو رَسولُها الذي شاهَدَ في الدُّنيا تَكذيبَها وكُفْرَها، وإيمانَها وهُداها، ويَجوزُ أن يَبعَثَ اللهُ شَهيدًا من الصَّالِحينَ مَعَ الرُّسُلِ...
مِنْ أَنْفُسِهِمْ بحَسَبِ أنَّ بَعثةَ الرُّسُلِ كذلك، في الدُّنيا، وذلك أنَّ الرَّسولَ الذي من نَفسِ الأمَّةِ في اللِّسانِ والسَّيرِ وفَهمِ الأغراضِ والإشاراتِ يَتَمَكَّنُ له إفهامُهم والرَّدُّ على مُعانِدِيهم، ولا يَتَمَكَّنُ ذلك من غَيرِ مَن هو مِن الأمَّةِ؛ فلِذلك لَم يَبعَثِ اللهُ قَطُّ نَبيًّا إلَّا من الأمَّةِ المَبعوثِ إليهم)
[3677] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/ 415). .
ومنَ الشُّهودِ يَومَ القيامةِ أمَّةُ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمقال اللهُ تعالى:
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (مَعنى ذلك: وكَذلك جَعَلْناكم أمَّةً وسَطًا عُدولًا؛ لتكُونوا شُهَداءَ لأنبيائي ورُسُلي على أمَمِها بالبَلاغِ أنَّها قد بَلَّغَت ما أُمِرَتْ ببَلاغِه من رِسالاتي إلى أمَمِها، ويَكونَ رَسولي مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَهيدًا عليكم بإيمانِكم به، وبِما جاءَكم به من عِندي)
[3678] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/ 629). .
وقال
السَّمعانيُّ: (
لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وذلك يَومُ القيامةِ، حينَ يَسألُ الأممَ عن إبلاغِ الرُّسُلِ، فيُنكِرونَ تَبليغَهمُ الرِّسالةَ. فيَسألُ الرُّسُلَ فيَقولونَ: بَلَّغْنا، فيُقالُ لهم: ومَن يَشهَدُ لَكم؟ فيَأتون بهذه الأمَّةِ فيَشهَدونَ لهم بالبَلاغِ. فتَقولُ الأممُ: إنَّهم أتَوا بَعْدَنا فكَيفَ يَشهَدونَ بذلك؟ فيَسألُ هذه الأمَّةَ. فيَقولونَ: أرسَلْتَ إلينا رَسولًا، وأنزَلْتَ علينا كِتابًا، وأخبَرْتَنا فيه ببَلاغِ الرُّسُلِ، وأنتَ صادِقٌ فيما أخبَرْتَ، فبِذلك نَشهَدُ لهم بالبَلاغِ.
وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا على أعمالِكم. وقيلَ: مَعناه مُزكِّيًا مُصدِّقًا على شَهادَتِكم)
[3679] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (1/ 149). .
وقال
الشَّوكانيُّ: (
لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ أي: يَومَ القيامةِ تَشهَدونَ للأنبياءِ على أُمَمِهم أنَّهم قد بَلَّغوهم ما أمرَهمُ اللهُ بتَبليغِه إليهم، ويَكونَ الرَّسولُ شَهيدًا على أمَّتِه بأنَّهم قد فعَلوا ما أمرَه بتَبليغِه إليهم، ومِثلُه قَولُه تعالى:
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا)
[3680] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (1/ 175). .
ومنَ الشُّهودِ يَومَ القيامةِ: أعضاءُ الإنسانِ وجَوارِحُهقال اللهُ تعالى:
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [فصلت: 21 - 23] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (قَولُه:
حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ يَقولُ: حَتَّى إذا ما جاؤوا النَّارَ شَهِدَ عليهم سَمعُهم بما كانوا يُصْغُونَ به في الدُّنيا إليه، ويَستَمِعونَ له، وأبصارُهم بما كانوا يُبصِرونَ به ويَنظُرونَ إليه في الدُّنيا
وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [فصلت: 20] )
[3681] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/ 406). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (قَولُه:
حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا أي: وُقِفوا عليها،
شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أي: بأعمالِهم مِمَّا قَدَّموه وأخَّروه، لا يُكتَمُ منه حَرفٌ.
وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا أي: لاموا أعضاءَهم وجُلودَهم حينَ شَهِدوا عليهم، فعِندَ ذلك أجابَتْهمُ الأعضاءُ:
قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أي: فهو لا يُخالَفُ ولا يُمانَعُ، وإليه تُرجَعونَ)
[3682] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/ 170). .
وقال
السَّعديُّ: (
حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا أي: حَتَّى إذا ورَدوا على النَّارِ، وأرادوا الإنكارَ، أو أنكَروا ما عَمِلوه من المُعاصي،
شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ عُمومٌ بَعدَ خُصوصٍ.
بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أي: شَهِدَ عليهم كُلُّ عُضوٍ من أعضائِهم، فكُلُّ عُضوٍ يَقولُ: أنا فعَلتُ كذا وكَذا يَومَ كذا وكَذا. وخَصَّ هذه الأعضاءَ الثَّلاثةَ؛ لأنَّ أكثَرَ الذُّنوبِ إنَّما تَقَعُ بها أو بسَبَبِها)
[3683] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 747). .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه قال: قالوا: يا رَسولَ اللهِ، هَل نَرى رَبَّنا يَومَ القيامةِ؟ قال:
((هَل تُضارونَ في رُؤيةِ الشَّمسِ في الظَّهيرةِ، ليست في سَحابةٍ؟)) قالوا: لا، قال:
((فهَلْ تُضارونَ في رُؤيةِ القَمَرِ لَيلةَ البَدرِ، ليس في سَحابةٍ؟)) قالوا: لا، قال:
((فوالذي نَفسي بيدِه لا تُضارونَ في رُؤيةِ رَبِّكم، إلَّا كما تُضارونَ في رُؤيةِ أحَدِهما، قال: فيَلقى العَبدَ، فيَقولُ: أيْ فُلُ ألمْ أُكرِمْك، وأُسَوِّدْك، وأزَوِّجْك، وأسخِّرْ لَك الخَيلَ والإبلَ، وأذَرْك تَرْأَسُ وتَرْبعُ؟ فيَقولُ: بَلى، قال: فيَقولُ: أفَظنَنتَ أنَّك مُلاقِيَّ؟ فيَقولُ: لا، فيَقولُ: فإنِّي أنساكَ كما نَسيتَني، ثُمَّ يَلقى الثَّانيَ فيَقولُ: أيْ فُلُ ألمْ أُكرِمْك، وأُسَوِّدْك، وأزَوِّجْك، وأسخِّرْ لَك الخَيلَ والإبلَ، وأذَرْك تَرْأَسُ وتَرْبعُ؟ فيَقولُ: بَلى أيْ رَبِّ، فيَقولُ: أفَظنَنتَ أنَّك مُلاقِيَّ؟ فيَقولُ: لا، فيَقولُ: فإنِّي أنساكَ كما نَسيتَني، ثُمَّ يَلقى الثَّالِثَ، فيَقولُ له مِثلَ ذلك، فيَقولُ: يا رَبِّ آمَنتُ بك وبِكِتابِك وبِرُسُلِك، وصَلَّيتُ وصُمتُ وتَصَدَّقتُ، ويُثني بخَيرٍ ما استَطاعَ، فيَقولُ: هاهنا إذًا، قال: ثُمَّ يُقالُ له: الآنَ نَبعَثُ شاهِدَنا عليك، ويَتَفَكَّرُ في نَفسِه: من ذا الذي يَشهَدُ عليَّ؟ فيُختَمُ على فيه، ويُقالُ لفَخِذِه ولَحمِه وعِظامِه: انطِقي، فتَنطِقُ فَخِذُه ولَحمُه وعِظامُه بعَمَلِه، وذلك ليُعذِرَ من نَفسِه، وذلك المُنافِقُ، وذلك الذي يَسخَطُ اللهُ عليه! )) [3684] أخرجه مسلم (2968). .
قال
النَّوَويُّ: (قَوله:
((فيَقولُ: هاهنا إذًا)) مَعناه: قِفْ هاهنا حَتَّى يَشهَدَ عليك جَوارِحُك إذ قد صِرْتَ مُنكِرًا)
[3685] يُنظر: ((شرح مسلم)) (18/ 104). .
وقال
البَيضاويُّ: (
((فيُختَمُ على فيه، ويُقالُ لفَخِذِه: انطِقي، فتَنطِقُ فَخِذُه ولَحمُه وعِظامُه بعَمَلِه، وذلك ليُعذِرَ من نَفسِه)) أي: ليُزالَ عُذرُه من قِبَلِ نَفسِه بشَهادةِ أعضائِه على كثرةِ ذُنوبِه)
[3686] يُنظر: ((تحفة الأبرار)) (3/ 402). .
وعن
أنسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ الله عنه قال: كُنَّا عِندَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فضَحِكَ فقال:
((هَل تَدرونَ مِمَّ أضحَكُ؟)) قال: قُلنا: اللهُ ورُسولُه أعلَمُ، قال:
((مِن مُخاطَبةِ العَبدِ رَبَّه، يَقولُ: يا رَبِّ ألم تُجِرْني من الظُّلمِ؟ قال: يَقولُ: بَلى، قال: فيَقولُ: فإنِّي لا أُجيزُ على نَفسي إلَّا شاهدًا مِني، قال: فيَقولُ: كفى بنَفسِك اليَومَ عليك شَهيدًا، وبِالكِرامِ الكاتِبينَ شُهودًا، قال: فيُختَمُ على فيه، فيُقالُ لأركانِه: انطِقي، قال: فتَنطِقُ بأعمالِه، قال: ثُمَّ يُخلَّى بينَه وبينَ الكَلامِ، قال: فيَقولُ: بُعدًا لَكُنَّ وسُحقًا، فعنكُنَّ كُنتُ أُناضِلُ )) [3687] أخرجه مسلم (2969). .
قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (قَولُه:
((فيُختَمُ على فيه)) أي: يُمنَعُ من الكَلامِ المُكتَسبِ له، ويَنطِقُ لسانُه وسائِرُ أركانِه بكَلامٍ ضَروريٍّ لا كسبَ له فيه، ولا قُدرةَ على مَنعِه، كما قال تعالى:
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فإذا شَهِدَتْ عليه أركانُه بعَمَلِه خُلِّي بينَه وبينَ الكَلامِ المَقدورِ له فيلومُ جَوارِحَه الشَّاهدةَ عليه بقَولِه: ويَلَكُنَّ فعنكُنَّ كُنتُ أناضِلُ، أي: أدافِعُ وأحتَجُّ)
[3688] يُنظر: ((المفهم)) (7/ 198). .
وقال المظهَريُّ: (قَولُه:
((فيُختَمُ على فيه)) أي: على فمِه،
((فيُقالُ لأركانِه)) أي: لجَوارِحِه:
((انطِقي)) فتَنطِقُ بأعمالِه.
يَعني: تَشهَدُ جَوارِحُه بذُنوبِه، فتَقولُ يَدُه مَثَلًا: سَرَقْتَ بي المالَ الفُلانيَّ، وتَقولُ رِجْلُه: بي خَطَوتَ إلى المَعاصي، وتَقولُ العَينُ: بي نَظَرتَ إلى الحَرامِ، وتَقولُ الأذُنُ: بي سَمِعتَ الغَيبةَ والبُهتانَ، ومِصداقُ هذا قَولُه تعالى:
الْيَومَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس: 65] )
[3689] يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (5/ 490). .
ومنَ الشُّهودِ يَومَ القيامةِ: الأرضُقال تعالى:
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة: 1-5] .
قال
السَّمعانيُّ: (قَولُه:
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا أي: تُحَدِّثُ بما عَمِلَ عليها من خَيرٍ وشَرٍّ يَعني الأرضَ)
[3690] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (6/ 267). .
وقال
السَّعديُّ: (
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ الأرضُ
أَخْبَارَهَا أي: تَشهَدُ على العامِلينَ بما عَمِلوا على ظَهرِها من خَيرٍ وشَرٍّ، فإنَّ الأرضَ من جُملةِ الشُّهودِ الذينَ يَشهَدونَ على العِبادِ بأعمالِهم، ذلك
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا أي: وأمرَها أن تُخبِرَ بما عُمِلَ عليها، فلا تَعصي لأمْرِه)
[3691] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 932). .