الفَرعُ الأولُ: طَعامُ أهلِ الجَنَّةِ وشَرابُهم
قال اللهُ تعالى:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [المرسلات: 41-42] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (
وَعُيُونٌ أنهارٌ تَجري خِلالَ أشجارِ جَنَّاتِهم.
وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ يَأكُلُونَ مِنها كُلَّما اشتَهَوا لا يَخافُونَ ضَرَّها، ولا عاقِبةَ مَكرُوهِها.
وقَولُه:
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ يَقُولُ تعالى ذِكرُه: يُقالُ لَهم: كُلُوا أيُّها القَومُ مِن هذه الفَواكِه، واشرَبُوا مِن هذه العُيُونِ كُلَّما اشتَهيتُم.
هَنِيئًا يَقُولُ: لا تَكديرَ عَليكم، ولا تَنغيصَ فيما تَأكلُونَه وتَشرَبُونَ مِنه، ولَكِنَّه لَكم دائِمٌ لا يَزُولُ، ومَريءٌ لا يُورِثُكم أذًى في أبدانِكم)
[4788] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/ 611). .
وقال اللهُ سُبحانَه:
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ [الزخرف: 72-73] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (
لَكُمْ فِيهَا يَقُولُ: لَكم في الجَنَّةِ فاكِهةٌ كَثيرةٌ مِن كُلِّ نَوعٍ
مِنْهَا تَأكُلُونَ يَقُولُ: مِنَ الفاكِهةِ تَأكلُونَ ما اشتَهيتُم)
[4789] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/ 647). .
وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة: 24] .
قال
الشَّوكانيُّ: (
كُلُوا واشرَبُوا أي: يُقالُ لَهم: كُلُوا واشرَبُوا في الجَنَّةِ هَنيئًا، أي: أكلًا وشُربًا هَنيئًا لا تَكديرَ فيه ولا تَنغيصَ؛ بما أسلَفْتُم في الأيَّامِ الخاليةِ، أي: بسَبَب ما قَدَّمتُم مِنَ الأعمالِ الصَّالِحةِ في الدُّنيا. وقال مُجاهِدٌ: هي أيَّامُ الصِّيامِ)
[4790] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/ 340). .
وقال
السَّعْديُّ: (يُقالُ لَهم إكرامًا:
كُلُوا وَاشْرَبُوا أي: مِن كُلِّ طَعامٍ لَذيذٍ، وشَرابٍ شَهيٍّ،
هَنِيئًا أي: تامًّا كامِلًا مِن غيرِ مُكَدِّرٍ ولا مُنغِّصٍ. وذَلِكَ الجَزاءُ حَصَلَ لَكم
بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ مِنَ الأعمالِ الصَّالِحةِ وتَركِ الأعمالِ السّيِّئةِ؛ مِن صَلاةٍ وصيامٍ، وصَدَقةٍ وحجٍّ، وإحسانٍ إلى الخَلقِ، وذِكْرٍ للهِ وإنابةٍ إليه)
[4791] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 883). .
وقال اللهُ تعالى:
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وِظِلُّهَا [الرعد: 35] .
قال
ابنُ كَثيرٍ: (قَولُه:
أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا أي: فيها المَطاعِمُ والفَواكِهُ والمَشارِبُ، لا انقِطاعَ لَها ولا فَناءَ.
وفي الصَّحيحينِ مِن حَديثِ
ابنِ عَبَّاسٍ في صلاةِ الكُسُوفِ، وفيه قالُوا: يا رَسولَ اللهِ، رَأيناكَ تَناولتَ شيئًا في مَقامِكَ هذا، ثُمَّ رَأيناكَ تَكَعكَعْتَ، فقال:
((إنِّي رَأيتُ الجَنَّةَ -أو: أُريتُ الجَنَّةَ- فتَناولْتُ مِنها عُنقُودًا، ولَو أخَذْتُه لأكلْتُم مِنه ما بَقِيَتِ الدُّنيا )) [4792] أخرجه مطولًا البخاري (5197) واللَّفظُ له، ومسلم (907). [4793] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 465). .
وقال اللهُ سُبحانَه في جزاءِ السَّابقينَ المُقَرَّبينَ:
وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الواقعة: 20، 21].
قال
السَّعْديُّ: (
وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخيَّرُونَ أي: مَهما تَخيَّرُوا وراقَ في أعيُنِهم، واشتَهَتْه نَفُوسُهم، مِن أنواعِ الفَواكِه الشَّهيَّةِ، والجَنى اللَّذيذِ؛ حَصَلَ لَهم على أكمَلِ وجهٍ وأحسَنِه.
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي: مِن كُلِّ صِنفٍ مِنَ الطُّيُورِ يَشتَهونَه، ومِن أيِّ جِنسٍ مِن لَحمِه أرادُوا، وإن شاءُوا مَشويًّا، أو طَبيخًا، أو غيرَ ذَلِكَ)
[4794] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 833). .
وقال
ابنُ عُثيمين: (أي: ويَطَوفُ عليهمُ الولْدانُ بفاكِهةٍ
وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخيَّرُونَ [الواقعة: 20] لِطِيبِها مَنظَرًا وطيبِها مَشَمًّا وطِيبِها مَأكَلًا، هذه الفاكِهةُ طيبةٌ في مَنظَرِها، طيبةٌ في رائِحَتِها، طيبةٌ في مَأكَلِها ومَذاقِها؛ لِأنَّ اللهَ قال:
مِمَّا يَتَخيَّرُونَ [الواقعة:20] وكَونُ الإنسانِ يَعافُ الشَّيءَ إمَّا لِقُبحِ مَنظَرِه، أو لِقُبحِ رائِحَتِه، أو لِقُبحٍ مَأكَلِه، الفاكِهةُ في الجَنَّةِ لا، بَل بالعَكسِ، طيِّبةٌ في لَونِها وحَجمِها وريحِها ومَذاقِها، وسُبحانَ اللَّه! يُؤتَونَ بها مُتَشابهةً؛ مُتَشابهةً في اللَّونِ والحَجمِ والرَّائِحةِ، لَكِن في المَذاقِ مُختَلِفةٌ، وهذا مِمَّا يَزيدُ الإنسانَ فرحًا وسُرُورًا، وإيمانًا بقُدرةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ،
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يُشتَهونَ [الواقعة: 21] أي: ويَطُوفُ عليهم هَؤُلاءِ الوَلْدانُ بلَحمِ طيرٍ، وذَكَرَ لَحمَ الطَّيرِ؛ لِأنَّ لُحُومَ الطَّيرِ أنعَمُ اللُّحُومِ وألذُّها، وهذا الطَّيرُ مِن أينَ يَتَغَذَّى؟ الجَوابُ ليسَ لَنا أن نَسألَ هذا السُّؤالَ؛ لِأنَّ أُمُورَ الغَيبِ يَجِبُ عَلينا فيها أن نُؤمِنَ بها بدُونِ السُّؤالِ عَمَّا لَم يَصِلْ إلينا الخَبَرُ عَنه، فنَقُولُ: إن كانَت هذه الطُّيُورُ تَحتاجُ إلى غِذاءٍ فما أكثَرَ ما تَتَغَذَّى به؛ لِأنَّها في الجَنةِ، وإن كانَت لا تَحتاجُ إلى غِذاءٍ فاللهُ على كُلِّ شيءٍ قَديرٌ)
[4795] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) (رقم اللقاء: 196). .
وعَن
جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ أهلَ الجَنَّةِ يَأكُلُونَ فيها ويَشرَبُونَ، ولا يَتفلُونَ ولا يَبُولُونَ ولا يَتَغَوَّطُونَ ولا يَمتَخِطُونَ، قالُوا: فما بالُ الطَّعامِ؟ قال: جُشاءٌ ورَشْحٌ كَرَشحِ المِسْكِ، يُلهَمُونَ التَّسبيحَ والتَّحميدَ كَما تُلْهَمُونَ النَّفَسَ )) [4796] أخرجه مسلم (2835). .
قال النَّوويُّ: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّ أهلَ الجَنَّةِ يَأكُلُونَ فيها ويَشرَبُونَ)) مَذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ وعامَّةِ المُسلِمينَ أنَّ أهلَ الجَنَّةِ يَأكُلُونَ فيها ويَشرَبُونَ يَتَنَعَّمُونَ بذَلِكَ وبغيرِه مِن مَلاذِّ وأنواعِ نَعيمِها تَنعُّمًا دائِمًا لا آخِرَ لَه ولا انقِطاعَ أبَدًا، وأنَّ تَنعُّمَهم بذَلِكَ على هيئةِ تَنعُّمِ أهلِ الدُّنيا، إلَّا ما بينَهما مِنَ التَّفاضُلِ في اللذَّةِ والنَّفاسةِ الَّتي لا تشارِكُ نَعيمَ الدُّنيا إلَّا في التَّسميةِ وأصلِ الهيئةِ، وإلَّا في أنَّهم لا يَبُولُونَ ولا يَتَغَوطُونَ ولا يَتَمَخَّطُونَ ولا يَبصُقُونَ، وقَد دَلَّت دَلائِلُ القُرآنِ والسُّنَّةِ في هذه الأحاديثِ الَّتي ذَكَرَها
مُسلِمٌ وغيرُه أن نَعيمَ الجَنَّةِ دائِمٌ لا انقِطاعَ لَه أبَدًا)
[4797] يُنظر: ((شرح مسلم)) (17/ 173). .
وقال
ابنُ عُثيمين: (إنَّ أهلَ الجَنَّةِ يَأكُلُونَ ويَشرَبُونَ لَكِنَّهم لا يَبُولُونَ ولا يَتَغَوطُونَ ولا يَتَمَخَّطُونَ؛ لِأنَّ جَميعَ فضَلاتِهم ليسَت كَفَضَلاتِ أهلِ الدُّنيا، إنَّما فضَلاتُهم تَخرُجُ رَشحًا يَعني كالعَرَقِ أَطيبَ مِن ريحِ المِسْكِ، وجُشاءٌ أَطْيَبُ مِن رائِحةِ المِسْكِ؛ لِأنَّهم في نَعيمٍ مُقيمٍ)
[4798] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) (6/ 729). .
وعَن زيدِ بن أرقَمَ رَضِيَ اللهُ عَنه قال:
((قال: أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَجُلٌ مِنَ اليُهودِ، فقال: يا أبا القاسِمِ، ألَسْتَ تَزعُمُ أنَّ أهلَ الجَنَّةِ يَأكُلُونَ فيها ويَشرَبُونَ؟ وقال لِأصحابه: إنْ أقَرَّ لي بهذه خَصَمْتُه. قال: فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: بلى والَّذي نَفسي بيدِه، إنَّ أحَدَهم ليُعطى قُوةَ مِائةِ رَجُلٍ في المَطعَمِ والمَشرَبِ والشَّهوةِ والجِماعِ. قال: فقال لَه اليُهوديُّ: فإنَّ الَّذي يَأكُلُ ويَشرَبُ تَكُونُ لَه الحاجةُ. قال: فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: حاجةُ أحَدِهم عَرَقٌ يَفيضُ مِن جُلُودِهم مِثلَ ريحِ المِسْكِ، فإذا البَطنُ قَد ضَمُرَ )) [4799] أخرجه أحمد (19269) واللَّفظُ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (11478)، وابن حبان (7424). صحَّحه ابن حبان (7424)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (1627)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (350)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (19269)، وصحَّح إسنادَه ابن حزم في ((الأصول والفروع)) (188)، وابن القيم على شرط الصحيح في ((حادي الأرواح)) (169)، والعراقي في ((تخريج الإحياء)) (5/305). .