المَطْلَب الأولُ: طَعامُ أهلِ النَّارِ
مِن طَعامِ أهلِ النَّارِ: الضَّريعُ.قال اللهُ تعالى:
لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ [الغاشية: 6-7] .
قال
ابنُ كَثيرٍ: (قَولُه:
لَيْسَ لَهم طَعَامٌ إلَّا مِنْ ضَرِيعٍ قال عليُّ بنُ أبي طَلحةَ، عَنِ
ابنِ عَبَّاسٍ: شَجَرٌ مِن نارٍ.
وقال سَعيدُ بنُ جُبَيرٍ: هو الزَّقُّومُ. وعَنه: أنَّها الحِجارةُ. وقال
ابنُ عَبَّاس، ومُجاهِدٌ، وعِكرِمةُ، وأبُو الجَوزاءِ، وقَتادةُ: هو الشَّبرَقُ. قال قَتادةُ: قُرَيشٌ تُسَمِّيه في الرَّبيعِ الشَّبرَقَ، وفي الصَّيفِ الضَّريعَ. قال عِكرِمةُ: وهو شَجَرةٌ ذاتُ شَوكٍ لاطِئةٌ بالأرضِ.
وقال
البُخاريُّ: قال مُجاهِدٌ: الضَّريعُ نَبتٌ يُقالُ لَه: الشبرَقُ، يُسَمِّيه أهلُ الحِجازِ الضَّريعَ إذا يَبِسَ، وهو سُمٌّ. وقال مَعْمَرٌ عَن قَتادةَ:
إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ هو الشَّبرقُ، إذا يَبِسَ سُمِّيَ الضَّريعَ. وقال سَعيدٌ عَن قَتادةَ:
لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ مِن شَرِّ الطَّعامِ وأبشَعِه وأخبَثِه. وقَولُه:
لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ يَعني: لا يَحصُلُ به مَقصُودٌ، ولا يَندَفِعُ به مَحذُورٌ)
[5169] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/ 385). .
وقال
السَّعْديُّ: (وأمَّا طَعامُهم فـ
لَيْسَ لَهم طَعَامٌ إلَّا مِنْ ضَريعٍ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ وذَلِكَ أنَّ المَقصُودَ مِنَ الطَّعامِ أحَدُ أمرينِ: إمَّا أن يَسُدَّ جُوعَ صاحِبِه ويُزيلَ عَنه ألَمَه، وإمَّا أن يُسَمِنَ بَدَنَه مِنَ الهزالِ، وهذا الطَّعامُ ليسَ فيه شيءٌ مِن هذينِ الأمرينِ، بَل هو طَعامٌ في غايةِ المَرارةِ والنَّتنِ والخِسَّةِ. نَسألُ اللهَ العافيةَ)
[5170] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 922). .
ومِن طعامِهم: الزَّقُّومُ.قال اللهُ تعالى:
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان: 43-46] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (يَقُولُ تعالى ذِكرُه:
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ الَّتي أخبَرَ أنَّها تَنبُتُ في أصلِ الجَحيمِ، الَّتي جَعَلَها طَعامًا لِأهلِ الجَحيمِ، ثَمَرُها في الجَحيمِ طَعامُ الآثِمِ في الدُّنيا برَبِّه، والأثيمُ: ذُو الإثمِ... وعَنى به في هذا المَوضِعِ: الَّذي إثمُه الكُفْرُ برَبِّه دُونَ غيرِه مِنَ الآثامِ... وقَولُه:
كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ يَقُولُ تعالى ذِكرُه: إنَّ شَجَرةَ الزَّقُّومِ الَّتي جَعَلَ ثَمَرَتَها طَعامَ الكافِرِ في جَهَنَّم، كالرَّصاصِ أوِ الفِضَّةِ، أو ما يُذابُ في النَّارِ إذا أُذيبَ بها، فتَناهَت حَرارَتُه، وشدَّت حُمِّيَّتُه في شِدَّةِ السَّوادِ)
[5171] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/ 53). .
وقال اللهُ سُبحانَه:
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ [الصافات: 62-68] .
قال
البَغَويُّ: (أذلِكَ، أي: ذَلِكَ الَّذي ذُكِرَ لِأهلِ الجَنةِ، خيرٌ نُزُلًا أم شَجَرةُ الزَّقُّومِ، الَّتي هي نُزُلُ أهلِ النَّارِ، والزَّقُّومُ: ثَمَرةُ شَجَرةٍ خَبيثةٍ مُرَّةٍ كِريهةِ الطَّعمِ، يُكرَه أهلُ النَّارِ على تَناوُلِها، فهم يَتَزَقَّمُونَه على أشَدِّ كَراهيةٍ، ومِنه قَولُهم: تَزَقَّمَ الطَّعامَ: إذا تَناولَه على كُرِه ومَشَقَّةٍ.
إِنَّا جَعَلْنَاهَا فتِنْةً لِلظَّالِمِينَ: لِلكافِرينَ، وذَلِكَ أنَّهم قالُوا: كيفَ يَكُونُ في النَّارِ شَجَرةٌ والنَّارُ تَحْرِقُ الشَّجَرَ؟ وقال ابنُ الزِّبَعْرى لِصَناديدِ قُرَيشٍ: إنَّ مُحَمَّدًا يُخَوِّفُنا بالزَّقُّومِ، والزَّقُّومَ بلسانِ برْبَرٍ: الزُّبدُ والتَّمُرُ! فأدخَلَهم أبُو جَهلٍ بيتَه، وقال يا جاريةُ: زَقِّمينا، فأتَتْهمُ بالزُّبدِ والتَّمْرِ، فقال: تَزَقَّمُوا فهذا ما يُوعِدُكم به مُحَمَّدٌ! فقال اللهُ تعالى:
إِنَّها شَجَرَةٌ تَخرُجُ في أَصْلِ الجَحِيمِ: قَعرِ النَّارِ، وقال الحَسَنُ: أصلُها في قَعرِ جَهَنَّم، وأغصانُها تَرتَفِعُ إلى دَرَكاتِها.
طَلْعُهَا: ثَمَرُها سُمِّيَ طَلعًا لِطُلُوعِه.
كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ: قال
ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهما: همُ الشَّياطينُ بأعيانِهم، شُبِّهَ بها لِقُبحِها، لِأنَّ النَّاسَ إذا وصَفُوا شيئًا بغايةِ القُبحِ قالُوا: كَأنَّه شيطانٌ، وإن كانَتِ الشَّياطينُ لا تُرى؛ لِأنَّ قُبحَ صُورَتِها مُتَصَوَّرٌ في النَّفسِ، وهذا مَعنى قَولِ
ابنِ عَبَّاسٍ والقرظيِّ، وقال بَعضُهم: أرادَ بالشَّياطينِ الحيَّاتِ، والعَرَبُ تُسَمِّي الحيَّةَ القَبيحةَ المَنظَرِ شَيطانًا. وقيلَ: هي شَجَرةٌ قَبيحةٌ مُرَّةٌ مُنتِنةٌ تَكُونُ في الباديةِ تُسَمِّيها العَربُ رُؤُوسَ الشَّياطينِ.
فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ: المَلءُ حَشوُ الوِعاءِ بما لا يَحتَمِلُ الزِّيادةَ عليه.
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا: خَلْطًا ومِزاجًا
مِنْ حَمِيمٍ: مِن ماءٍ حارٍّ شَديدِ الحَرارةِ، يُقالُ: إنَّهم إذا أكَلُوا الزَّقُّومَ شَرِبُوا عليه الحَميمَ، فيشُوبُ الحَميمُ في بُطُونِهمِ الزَّقُّومَ فيَصيرُ شَوْبًا لَه.
ثُمَّ إنَّ مَرْجِعَهُمْ: بَعدَ شُربِ الحَميمِ،
لَإِلَى الجَحِيمِ: وذَلِكَ أنَّهم يُورَدُونَ الحَميمَ لِشُربِه، وهو خارِجٌ مِنَ الجَحيمِ كَما يُورَدُ الإبلُ الماءَ، ثُمَّ يَرِدُونَ إلى الجَحيمِ، يَدُلُّ عليه قَولُه تعالى:
يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [سورة الرحمن])
[5172] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/ 32). .
وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِّنْ زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ [الواقعة: 51-56].
قال
ابنُ عُثيمين: (
ثُمَّ إنَّكُمْ أي بَعدَ البَعثِ
أيُّهَا الضَّالُّونُ المُكَذِّبُونِ الضَّالُّونَ في العَمَلِ فهم لا يَعمَلُونَ المُكَذِّبُونَ لِلخَبَرِ فهم لا يُصَدِّقُونَ والعياذُ باللهِ
لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ أي: آكِلُون مِن شَجَرٍ، وهذا الشَّجَرُ نَوعُه مِن زَقُّومٍ، كَما تَقُولُ: خاتَمٌ مِن حَديدٍ، وبٌبٍ مِن خَشَبٍ، وجِدارٌ مِن طينٍ... وسُمِّيَ زَقُّومًا لِأنَّ الإنسانَ -والعياذُ باللهِ- إذا أكَلَه يَتَزَقَّمُه تَزَقُّمًا، لِشِدَّةِ بَلعِه لا يَبتَلِعُه بسُهولةٍ
فَمَالِئُونَ مِنْهَا البُطُونَ أي: أنَّهم يَملَؤونَ البُطُونَ مِن هذا الشَّجَرِ، مَعَ أنَّ هذا الشَّجَرَ مُرٌّ خَبيثُ الرَّائِحةِ، كَرِيهُ المُنظَرِ، لَكِن لِشِدَّةِ جُوعِهم يَأكُلُونَه كَما يَأكُلُ الجائِعُ المُضطَرُّ، فهم يَأكُلُونَه على تَكَرُّهٍ... ثُمَّ إذا مَلَؤوا بُطُونَهم مِن هذا الطَّعامِ اشتَدَّت حاجَتُهم إلى الشُّربِ، فكيفَ يَشرَبُونَ؟ قال اللهُ تعالى:
فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ الحَميمُ: هو الماءُ الحارُّ، يَشرَبُونَ ماءً حارًّا بَعدَ أن يَستَغيثُوا مُدَّةً طَويلةً، وقَد وصَفَ اللهُ هذا الماءَ بقَولِه:
بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا، وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ فتَأمَّلْ يا أخي هذا: إذا قَرَّبُوه مِنَ الوَجهِ يَشْويه وإذا دَخَلَ بطُونَهم قَطَّعَ أمعاءَهم، ومَعَ ذَلِكَ يَشرَبُونَه بشِدَّةٍ:
شُرْبَ الْهِيمِ أي: شُرْبَ الإبلِ، والهِيمُ: جَمعُ هائِمةٍ، أو جَمعُ هَيْماءَ، يَعني أنَّها شَديدةُ العَطَشِ لا يَرْويها الشَّيءُ القَليلُ، فيَملَؤونَ بطُونَهم والعياذُ باللهِ مِنَ الشَّجَرِ الزَّقُّومِ، ويَشرَبُونَ مِنَ الحَميمِ شُرْبَ الهيمِ، أسألُ اللهَ أن يُجيرَني وإيَّاكم مِنَ النَّارِ.
هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ أي: هذه ضيافَتُهم، بخِلافِ المُؤمِنينَ)
[5173] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الحجرات والحديد)) (ص: 340). .
فيُفهَمُ مِن هذه الآياتِ أنَّ هذه الشَّجَرةَ شَجَرةٌ خَبيثةٌ، جُذُورُها تَضرِبُ في قَعرِ النَّارِ، وفُرُوعُها تَمتَدُّ في أرجائِها، وثَمَرُ هذه الشَّجَرةِ قَبيحُ المَنظَرِ؛ ولِذَلِكَ شَبَّهه برُؤُوسِ الشَّياطينِ، وقَدِ استَقَرَّ في النُّفُوسِ قُبحُ رُؤُوسِهم وإن كانُوا لا يَرَونَهم، ومَعَ خُبْثِ هذه الشَّجَرةِ وخُبثِ طَلْعِها، إلَّا أنَّ أهلَ النَّارِ يُلقى عليهمُ الجُوعُ بحيثُ لا يَجِدُونَ مَفرًّا مِنَ الأكلِ مِنها إلى دَرَجةِ مَلءِ البُطُونِ، فإذا امتَلَأتْ بُطُونُهم أَخَذَت تَغلي في أجوافِهم كَما يَغلي دُردِيُّ الزَّيتِ، فيَجِدُونَ لِذَلِكَ آلامًا مُبَرِّحةً، فإذا بَلَغَتِ الحالُ بهم هذا المَبلَغَ اندَفَعُوا إلى الحَميمِ، وهو الماءُ الحارُّ الَّذي تَناهى حَرُّه، فشَرِبُوا مِنه كَشُربِ الإبلِ الَّتي تَشرَبُ وتَشرَبُ ولا تَرْوى لِمَرَضٍ أصابها، وعِندَ ذَلِكَ يَقطَعُ الحَميمُ أمعاءَهم. هذه هي ضيافَتُهم في ذَلِكَ اليَومِ العَظيمِ! وإذا أكَلَ أهلُ النَّارِ هذا الطَّعامَ الخَبيثَ مِنَ الضَّريعِ والزَّقُّومِ غُصُّوا به لِقُبحِه وخُبْثِه وفَسادِه
إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا [المَزمل: 12-13] . والطَّعامُ ذُو الغُصَّةِ هو الَّذي يَغَصُّ به آكِلُه؛ إذ يَقِفُ في حَلْقِه
[5174] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/ 32)، ((التخويف من النار)) لابن رجب (ص: 142-147)، ((الضياء اللامع)) لابن عثيمين (8/ 646)، ((الجنة والنار)) لعمر الأشقر (ص: 88). .
ومن طعامِ أهلِ النَّارِ الغِسْلِينُ.قال اللهُ تعالى:
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ [الحاقة: 35-37] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (يَقُولُ جَلَّ ثَناؤُه: ولا لَه طَعامٌ كَما كانَ لا يَحُضُّ في الدُّنيا على طَعامِ المِسْكينِ، إلَّا طَعامٌ مِن غِسلينٍ، وذَلِكَ ما يَسيلُ مِن صَديدِ أهلِ النَّارِ)
[5175] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/ 240). .
وقال
السَّمعانيُّ: (قَولُه:
وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ الغِسلينُ: صَديدُ أهلِ النَّارِ.
وعَنِ الرَّبِيعِ بن أنسٍ قال: هو شَجَرةٌ تُخرِجُ طَعامًا هو أخبَثُ أطعِمةِ أهلِ النَّارِ)
[5176] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (6/ 41). .