المَبحَثُ الثاني: معنى القَضاءِ والقَدَرِ اصطلاحًا
القَضاءُ والقَدَرُ في الاصطلاحِ: هو تقديرُ اللهِ تعالى الأشياءَ منذُ القِدَمِ، وعِلْمُه سُبحانَه أنها ستقعُ في أوقاتٍ معلومةٍ عنده، وعلى صفاتٍ مخصوصةٍ، وكتابتُه سُبحانَه لذلك، ومشيئتُه له، ووقوعُها على حَسَبِ ما قدَّرها، وخَلْقُه لها(
يُنظر: ((العقيدة الواسطية)) لابن تيمية (ص: 105)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 83)، ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 118)، ((لوامع الأنوار البهية)) للسفاريني (1/ 348). .
قال
الخطابيُّ: (قد يحسَبُ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ أنَّ معنى القَدَرِ مِنَ اللهِ والقَضاءِ منه معنى الإجبارِ والقَهرِ للعَبدِ على ما قضاه وقدَّره... وليس الأمرُ في ذلك على ما يتوهَّمونه، وإنما معناه الإخبارُ عن تقدُّمِ عِلمِ اللهِ سُبحانَه بما يكونُ من أفعالِ العبادِ وأكسابِهم، وصُدورُها عن تقديرٍ منه وخَلقٍ لها خيرِها وشَرِّها، والقَدَرُ اسمٌ لِما صدر مُقدَّرًا عن فعلِ القادِرِ كما الهَدمُ والقَبضُ والنَّشرُ أسماءٌ لما صدر عن فعلِ الهادِمِ والقابضِ والنَّاشرِ، يقال: قَدَرْتُ الشَّيءَ وقَدَّرْتُ، خفيفةً وثقيلةً بمعنًى واحدٍ، والقَضاءُ في هذا معناه الخَلقُ، كقَولِه عزَّ وجَلَّ
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: 12] أي: خلقَهنَّ، وإذا كان الأمرُ كذلك فقد بقي عليهم من وراءِ عِلمِ اللهِ فيهم أفعالُهم وأكسابُهم ومباشرتُهم تلك الأمورَ وملابسَتُهم إيَّاها عن قَصدٍ وتعَمُّدٍ وتقديمِ إرادةٍ واختيارٍ، فالحُجَّةُ إنما تلزَمُهم بها واللائِمةُ تلحَقُهم عليها)(
يُنظر: ((معالم السنن)) (4/ 322). .
وقال
ابنُ عثيمين: (القَدَرُ في اللُّغةِ بمعنى: التقديرِ؛ قال تعالى:
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49]، وقال تعالى:
فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ [المرسلات: 23] .
- وأمَّا القَضاءُ فهو في اللُّغةِ: الحُكمُ.
ولهذا نقولُ: إنَّ القَضاءَ والقَدَرَ متباينانِ إن اجتَمَعا، ومترادفان إن تفَرَّقا؛ على حَدِّ قَولِ العُلَماءِ: هما كَلِمتان: إن اجتَمَعتا افترقَتا، وإن افتَرَقتا اجتَمَعتا.
فإذا قيل: هذا قدَرُ اللهِ، فهو شامِلٌ للقَضاءِ، أمَّا إذا ذُكِرا جميعًا فلكُلِّ واحدٍ منهما معنًى.
- فالتقديرُ: هو ما قدَّره اللهُ تعالى في الأزَلِ أن يكونَ في خَلْقِه.
- وأمَّا القَضاءُ فهو ما قضى به اللهُ سُبحانَه وتعالى في خَلْقِه من إيجادٍ أو إعدامٍ أو تغييرٍ، وعلى هذا يكونُ التقديرُ سابِقًا.
* فإن قال قائِلٌ: متى قلنا: إنَّ القَضاءَ هو ما يقضيه اللهُ سُبحانَه وتعالى في خَلْقِه من إيجادٍ أو إعدامٍ أو تغييرٍ، وإنَّ القَدَرَ سابِقٌ عليه إذا اجتمعا؛ فإن هذا يعارِضُ قَولَه تعالى:
وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان: 2] ؛ فإنَّ هذه الآيةَ ظاهِرُها أنَّ التقديرَ بعد الخَلْقِ؟
فالجوابُ على ذلك من أحَدِ وَجهَينِ:
- إمَّا أن نقولَ: إنَّ هذا من بابِ الترتيبِ الذِّكْري لا المعنويِّ...
وهذا لا يدُلُّ على أنَّ المتأخِّرَ في اللَّفظِ متأخِّرٌ في الرُّتبةِ.
- أو نقول: إنَّ التقديرَ هنا بمعنى التسويةِ، أي: خلقه على قَدرٍ مُعَيَّنٍ؛ كقَولِه تعالى:
الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى [الأعلى: 2] ؛ فيكونُ التقديرُ بمعنى التسويةِ. وهذا المعنى أقرَبُ مِنَ الأوَّلِ؛ لأنَّه مطابِقٌ تمامًا لقَولِه تعالى:
الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى؛ فلا إشكالَ)(
يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) (2/187). .