المَبحَثُ الثَّاني: مَنزِلةُ توحيدِ الرُّبوبيَّةِ
- توحيدُ الرُّبوبيَّةِ فيه إقرارٌ بعَظَمةِ اللهِ، وتفرُّدِه بالخَلْقِ والمِلْكِ والتَّدبيرِ. قال اللهُ تعالى:
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ [الأنعام: 102] .
وقال اللهُ سُبحانَه:
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [يونس: 31-32] وعن
عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سألتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّ الذَّنبِ أعظَمُ عندَ اللهِ؟ قال:
((أن تجعَلَ للهِ نِدًّا وهو خلَقَك )) [363] أخرجه البخاري (4477) ومسلم (86). .
قال
أبو عَمرٍو الدَّاني مبينًا عقيدةَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ: (ومن قَولِهم: إنَّ اللهَ سُبحانَه مُقَدِّرٌ أرزاقَ الخَلْقِ، ومؤقِّتٌ لآجالهم، وخالقٌ لأفعالهم، وقادرٌ على مقدوراتهم، وأنَّه إلهٌ وربٌّ لنا، لا خالِقَ غَيرُه، ولا رَبَّ سِواه، على ما أخبَرَ به جلَّ ثناؤه في قَولِه:
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [الروم: 40] ، وقال:
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 58] ، وقال:
فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف: 34] ، وقال:
هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [فاطر: 3] ، وقال:
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [النحل: 20] ، وقال:
وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان: 2] )
[364])) يُنظر: ((الرسالة الوافية لمذهب أهل السنة في الاعتقادات وأصول الديانات)) (ص: 151). .
- توحيدُ الرُّبوبيَّةِ يؤدِّي إلى الإقرارِ بتوحيدِ الإلهيَّةِ، أي: إفرادِ اللهِ عزَّ وجلَّ بالعبادةِ وَحْدَه لا شَريكَ له. قال اللهُ تعالى:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 21، 22] .
قال ابنُ أبي الرَّبيعِ الإشبيليُّ السبتيُّ في تفسيرِ هذه الآياتِ: (الرَّبُّ هو: المالِكُ، والرَّبُّ أيضًا هو: المصلِحُ، وهو سُبحانَه مالِكٌ للخَلْقِ، ومُصلِحٌ لأمورِهم، فهو الرَّبُّ على الحقيقةِ، وقال تعالى:
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة: 31] ، وكانوا يُسمُّون أصنامَهم التي يعبدونها أربابًا، فقال سُبحانَه:
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة: 21] ، أي: انظُروا من الذي خلَقَكم فاعبُدوه، والأحبارُ لم يَخْلُقوا، ولا العبادُ خَلَقوا، بل خُلِقوا، ولا الأصنامُ، بل عُمِلَت؛ فالذي يستحِقُّ العبادةَ الرَّبُّ الذي خلق الخَلْقَ، ولم يستعِنْ على خَلْقِهم بشَيءٍ، بل قال: كُنْ فكانوا، هذا هو الذي يستحِقُّ أن يُعبَدَ)
[365])) يُنظر: ((تفسير القرآن الكريم)) (ص: 166). .
ثمَّ قال في قَولِه تعالى:
فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 22] : (أتى بالجَمعِ على جِهةِ الاستبعادِ لقَولِهم؛ لأنَّ جعْلَهم للهِ أندادًا من سَخفِ عُقولِهم وضَعْفِها؛ لأنَّه سُبحانَه لا نِدَّ له ولا مِثْلَ، فإذا لم يكُنْ له نِدٌّ واحِدٌ فكيف تكون له أندادٌ؟ وهذه القاعِدةُ أنَّه سُبحانَه لا نِدَّ له مُسَلَّمةٌ عند العُقَلاءِ كُلِّهم؛ لأنَّه الخالِقُ والرَّازِقُ والنَّافِعُ والضَّارُّ، وليس غيرُه يَخلُقُ ولا يَرزُقُ ولا يَضُرُّ ولا ينفَعُ، فكيف يكونُ نِدًّا؟)
[366] يُنظر: ((تفسير القرآن الكريم)) لابن أبي الربيع الإشبيلي (ص: 176). .
وقال
ابنُ كثيرٍ : (شَرَع تبارك وتعالى في بيانِ وَحدانيَّةِ أُلُوهيتِه، بأنَّه تعالى هو المنعِمُ على عَبيدِه بإخراجِهم من العَدَمِ إلى الوُجودِ، وإسباغِه عليهم النِّعَمَ الظَّاهِرةَ والباطِنةَ... ومَضمونُه: أنَّه الخالِقُ الرَّازِقُ، مالِكُ الدَّارِ وساكِنيها، ورازقُهم، فبهذا يَستَحِقُّ أن يُعبَدَ وَحْدَه ولا يُشرَكَ به غيرُه؛ ولهذا قال:
فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 22] )
[367] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/194). .
قال
ابنُ القَيِّمِ : (إذا تيقَّن أنَّ الضُّرَّ والنَّفعَ، والعَطاءَ والمَنعَ، والهُدى والضَّلالَ، والسَّعادةَ والشَّقاءَ؛ كُلُّ ذلك بيَدِ اللهِ لا بيَدِ غَيرِه، وأنَّه الذي يقلِّبُ القُلوبَ، ويُصَرِّفها كيف يشاءُ، وأنَّه لا مُوَفِّقَ إلَّا من وفَّقه وأعانه، ولا مَخذولَ إلَّا من خذَلَه وأهانه وتخَلَّى عنه، وأنَّ أصَحَّ القُلوبِ، وأسلَمَها وأقوَمَها، وأرقَّها وأصفاها، وأشَدَّها وأليَنَها؛ من اتخَذَه وَحْدَه إلهًا ومعبودًا، فكان أحبَّ إليه من كُلِّ ما سِواه، وأخوفَ عنده مِن كُلِّ ما سِواه، وأرجى له من كُلِّ ما سِواه، فتتقدَّمُ محبَّتُه في قَلْبِه جميعَ المحابِّ، فتَنْساقُ المحابُّ تبعًا لها كما يَنساقُ الجيَشُ تَبَعًا للسُّلطانِ، ويتقدَّمُ خَوفُه في قَلْبِه جميعَ المخُوفاتِ، فتَنْساقُ المخاوِفُ كُلُّها تَبَعًا لخَوفِه، ويتقدَّمُ رجاؤُه في قَلْبِه جميعَ الرَّجاءِ، فينساقُ كُلُّ رجاءٍ تَبَعًا لرَجائِه. فهذا علامةُ توحيدِ الإلهيَّةِ في هذا القَلْبِ، والبابُ الذي دَخَل إليه منه توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، أي: بابُ توحيدِ الإلهيَّةِ هو توحيدُ الرُّبوبيَّةِ؛ فإنَّ أوَّلَ ما يتعلَّقُ القَلبُ يتعلَّقُ بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ، ثمَّ يرتقي إلى توحيدِ الإلهيَّةِ، كما يدعو اللهُ سُبحانَه عبادَه في كِتابِه بهذا النَّوعِ مِنَ التَّوحيدِ إلى النَّوعِ الآخَرِ، ويحتَجُّ عليهم به، ويُقرِّرُهم به، ثمَّ يخبِرُ أنَّهم يَنقُضونَه بشِركِهم به في الإلهيَّةِ)
[368] يُنظر: ((مدارج السالكين)) (1/412). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/284)، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (1/36). .
وقال عبدُ اللَّطيفِ بنُ عبدِ الرَّحمنِ آل الشَّيخ: (توحيدُ الرُّبوبيَّةِ يَستَلزِمُ توحيدَ الأُلوهيَّةِ؛ لأنَّ توحيدَ الرُّبوبيَّةِ دَليلٌ على توحيدِ الإلهيَّةِ والعِبادةِ والقَصْدِ، ووَسيلةٌ له)
[369] يُنظر: ((البراهين الإسلامية في رد الشبهة الفارسية)) (ص: 10) بتصرف يسير. .
وقال
الشِّنقيطيُّ : (يَكثُر في القُرآنِ العَظيمِ الاستِدلالُ على الكُفَّارِ باعتِرافِهم برُبوبيَّتِه جلَّ وعلا على وُجوبِ توحيدِه في عِبادتِه)
[370] يُنظر: ((أضواء البيان)) (3/19)، ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/194)، ((أصول الدعوة)) لزيدان (ص: 22). .
انظر أيضا:
عرض الهوامش