المَبحَثُ الأوَّلُ: فطريَّةُ الإقرارِ برُبوبيَّةِ اللهِ
إنَّ الإقرارَ برُبوبيَّةِ اللهِ أمرٌ فِطْريٌّ، وهو من أعظَمِ الأُمورِ الضَّروريَّةِ التي تَشهَدُ بها عُقولُ جميعِ النَّاسِ.
قال اللهُ تعالى:
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف: 172] .
قال الكلبي: (أخَذَ مِيثاقَهم أنَّه ربُّهم، فأعَطَوه ذلك، ولا يُسألُ أحدٌ -كافِرٌ ولا غيرُه-: مَن ربُّك؟ إلَّا قال: اللهُ)
[371] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/561). .
وقال السُّدِّيُّ: (ليس في الأرضِ أحدٌ مِن وَلَدِ آدَمَ إلَّا وهو يَعرِفُ أنَّ رَبَّه اللهُ)
[372] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/561). .
ولم ينازِعْ في ذلك المشرِكونَ الذين دعاهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى عِبادةِ اللهِ وَحْدَه؛ فقد كانوا مُعتَرِفينَ باللهِ، مُقِرِّينَ بأنَّه ربُّهم وخالِقُهم ورازِقُهم، وأنَّه ربُّ السَّمَواتِ والأرضِ
[373] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (1/314). .
قال اللهُ تعالى:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [العنكبوت: 61] .
وقال اللهُ سُبحانَه:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [العنكبوت: 63] .
وقال اللهُ عزَّ وجلَّ:
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [يونس: 22] .
وعن مجاهِدٍ في قَولِه تعالى:
وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف: 106] قال: (إيمانُهم قَولُهم: اللهُ خالِقُنا ويَرزُقُنا ويُميتُنا)
[374] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/374). .
وعن قَتادةَ في قَولِه سُبحانَه:
فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت: 65] قال: (فالخَلقُ كُلُّهم يُقِرُّونَ لله أنَّه رَبُّهم، ثمَّ يُشرِكونَ بَعْدَ ذلك)
[375] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/441). .
وقال الرَّاغِبُ الأصفهانيُّ: (مَعرِفةُ اللهِ تعالى العامِّيَّةُ مَركوزةٌ في النَّفسِ، وهي مَعرِفةُ كُلِّ أحدٍ أنَّه مَفعولٌ، وأنَّ له فاعِلًا فعَلَه ونقَلَه في الأحوالِ المختَلِفةِ... فهذا القَدْرُ من المَعرِفةِ في نَفْسِ كُلِّ أحدٍ، ويتنَبَّهُ الغافِلُ عنه إذا نُبِّه عليه، فيَعرِفُه)
[376] يُنظر: ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) (ص: 153). .
وقال الشهرستانيُّ: (إنَّ الفِطَرَ السَّليمةَ الإنسانيَّةَ شَهِدَت بضرورةِ فِطْرَتِها وبديهةِ فِكرتِها على صانعٍ حكيمٍ عالمٍ قديرٍ:
أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [إبراهيم: 10] ،
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف: 9] ، وإن هم غفلوا عن هذه الفطرة في حال السَّرَّاءِ فلا شَكَّ أنَّهم يلوذون إليه في حالِ الضَّرَّاءِ،
دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [يونس: 22] ،
وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 67] ؛ ولهذا لم يَرِدِ التكليفُ بمعرفةِ وُجودِ الصَّانعِ، وإنَّما ورد بمعرفةِ التوحيدِ ونَفْيِ الشَّريكِ:
((أُمِرْتُ أن أقاتِلَ النَّاسَ حتى يقولوا: لا إلهَ إلَّا اللهُ )) [377] أخرجه البخاري (2946)، ومسلم (21) مطولاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه البخاري (392) مطولاً من حديث أنس رضي الله عنه. ؛ ولهذا جَعَل محَلَّ النِّزاعِ بين الرُّسُلِ وبين الخَلقِ في التوحيدِ
ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا [غافر: 12] )
[378] يُنظر: ((نهاية الإقدام في علم الكلام)) (ص: 74). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (لَمَّا كان الإقرارُ بالصَّانِعِ فِطْريًّا، فإنَّ الفِطرةَ تتضَمَّنُ الإقرارَ باللهِ والإنابةَ إليه، وهو معنى لا إلهَ إلَّا اللهُ، فإنَّ الإلهَ هو الذي يُعرَفُ ويُعبَدُ، ولم يَذكُرِ اللهُ جُحودَ الصَّانِعِ إلَّا عن فِرعَونِ موسى؛ فإنَّ جُحودَ الصَّانِعِ لم يكُنْ دِينًا غالِبًا على أمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ قَطُّ، وإنَّما كان دِينُ الكُفَّارِ الخارِجينَ عن الرِّسالةِ هو الإشراكَ)
[379] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (2/6). .
وقال
ابنُ عاشور في تفسيرِ قَولِه تعالى:
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ... [الأنبياء: 22] : (هذه الآيةُ استدِلالٌ على استِحالةِ وُجودِ آلهةٍ غيرِ اللهِ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَواتِ والأرضِ؛ لأنَّ المُشرِكين لم يكونوا يُنكِرون أنَّ اللهَ هو خالِقُ السَّمَواتِ والأرضِ؛ قال تعالى:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزمر: 38] ، وقال تعالى:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ في سورة
[الزخرف: 9] ؛ فهي مَسوقةٌ لإثباتِ الوَحدانيَّةِ لا لإثباتِ وُجودِ الصَّانِعِ؛ إذ لا نزاعَ فيه عند المخاطَبينَ، ولا لإثباتِ انفرادِه بالخَلْقِ؛ إذ لا نزاعَ فيه كذلك)
[380])) يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/39). .