المَبحَثُ الثَّاني: عدمُ كفايةِ الإقرارِ بالرُّبوبيَّةِ للسَّلامةِ مِنَ الشِّركِ والنَّجاةِ مِنَ النَّارِ
توحيدُ الرُّبوبيَّةِ هو أحدُ أنواعِ التَّوحيدِ الثَّلاثةِ، فلا يكفي وَحْدَه للنَّجاةِ مِن عذابِ اللهِ؛ فقد كان المُشرِكونَ زَمَنَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُقَرِّين باللهِ خالِقًا ورازِقًا ومُدَبِّرًا، لكِنَّهم أشرَكوا به في عبادتِه، فاستحقُّوا بذلك عذابَ اللهِ ولم ينفَعْهم مُجَرَّدُ إقرارِهم برُبوبيَّةِ الله
[381] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (1/29)، ((تجريد التوحيد المفيد)) للمقريزي (ص: 8)، ((تطهير الاعتقاد)) للصنعاني (ص: 51)، ((تيسير العزيز الحميد)) لسليمان آل الشيخ (ص: 17)، ((الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني)) (1/186، 336). .
قال اللهُ تعالى:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [الزخرف: 87] .
وقال اللهُ سُبحانَه:
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون: 84- 89] .
وقال اللهُ عزَّ وجلَّ:
وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف: 106] .
قال
الشِّنقيطيُّ: (قال
ابنُ عبَّاسٍ، والحَسَنُ، ومجاهِدٌ، وعامِرٌ الشَّعبيُّ، وأكثَرُ المفسِّرينَ: إنَّ معنى هذه الآيةِ أنَّ أكثَرَ النَّاسِ -وهم الكفَّارُ- ما كانوا يؤمِنونَ باللهِ بتَوحيدِهم له في رُبوبيَّتِه إلَّا وهم مُشرِكونَ به غيَره في عبادتِه، فالمرادُ بإيمانِهم اعترافُهم بأنَّه ربُّهم الذي هو خالِقُهم، ومُدَبِّرُ شُؤونِهم، والمرادُ بشِرْكِهم عِبادتُهم غيَره معه)
[382] يُنظر: ((أضواء البيان)) (2/218(. ويُنظر: ((التفسير المحرر - سورة يوسف)) (ص: 343). .
قال عِكْرِمةُ: (تَسْأُلُهم: من خلَقَهم، ومن خَلَق السَّمواتِ والأرضَ؟ فيقولونَ: اللهُ، فذلك إيمانُهم باللهِ، وهم يَعبُدونَ غَيْرَه!)
[383] أخرجه الطبري في ((التفسير)) (19955). .
وقال عبدُ الرَّحمنِ بنُ زَيدِ بنِ أسلَمَ: (ليس أحدٌ يَعبُدُ مع اللهِ غَيْرَه إلَّا وهو مؤمِنٌ باللهِ، ويَعرِفُ أنَّ اللهَ رَبُّه، وأنَّ اللهَ خالِقُه ورازِقُه، وهو يُشرِكُ به، ألا ترى كيف قال إبراهيمُ:
قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ؟
[الشعراء: 75- 77] قد عَرَف أنَّهم يَعبُدونَ رَبَّ العالَمينَ مع ما يَعبُدونَ، فليس أحدٌ يُشرِكُ به إلَّا وهو مؤمِنٌ به، ألا ترى كيف كانت العَرَبُ تلبِّي؛ تقولُ: لبَّيك اللَّهُمَّ لبَّيك، لَبَّيكَ لا شَريكَ لك، إلَّا شريكٌ هو لك، تملِكُه وما مَلَك؟ المشرِكونَ كانوا يقولون هذا)
[384] أخرجه الطبري في ((التفسير)) (13/376) واللفظ له، وابن أبي حاتم في ((التفسير)) (12856). .
فلم يكُنِ المُشرِكونَ يَعتَقِدونَ أنَّ الأصنامَ هي التي تُنزِلُ الغَيثَ، وتَرزُقُ العالَمَ، وتُدَبِّرُ شُؤونَه، بل كانوا يَعتَقِدونَ أنَّ ذلك من خصائِصِ الرَّبِّ سُبحانَه، ويُقِرُّون أنَّ أوثانَهم التي يدْعونَ مِن دُونِ اللهِ مَخلوقةٌ لا تَملِكُ لأنفُسِها ولا لعابِدِيها ضَرًّا ولا نَفعًا استِقلالًا، ولا مَوتًا ولا حياةً ولا نُشورًا، ولا تَسمَعُ ولا تُبصِرُ، ويقِرُّون أنَّ اللهَ هو المتفَرِّدُ بذلك لا شَريكَ له، ليس إليهم ولا إلى أوثانِهم شَيءٌ من ذلك، وأنَّه سُبحانَه الخالِقُ، وما عداه مخلوقٌ، والرَّبُّ، وما عَداه مربوبٌ، غَيرَ أنَّهم جَعَلوا له مِن خَلْقِه شُرَكاءَ يَشفَعونَ لهم بزَعْمِهم عند اللهِ، ويُقَرِّبونهم إليه زُلفى، كما قال اللهُ تعالى:
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3] ، ومع هذا الإقرارِ العامِّ من المُشرِكينَ للهِ بالرُّبوبيَّةِ فإنَّه لم يُدخِلْهم في الإسلامِ، بل حَكَم اللهُ فيهم بأنَّهم مُشرِكون كافِرونَ، وتوعَّدهم بالنَّارِ والخُلودِ فيها، واستباحَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دماءَهم وأموالَهم؛ لكَونِهم لم يحقِّقوا لازمَ توحيدِ الرُّبوبيَّةِ، وهو توحيدُ اللهِ في العِبادةِ.
وبهذا يتبيَّنُ أنَّ الإقرارَ بتَوحيدِ الرُّبوبيَّةِ وَحْدَه دونَ الإتيانِ بلازمِه، وهو توحيدُ الأُلوهيَّةِ، لا يكفي ولا ينجِّي مِن عَذابِ اللهِ، بل هو حُجَّةٌ بالِغةٌ على الإنسانِ تَقتضي إخلاصَ الدِّينِ لله وَحْدَه، وتَستلزِمُ إفرادَ اللهِ بالعِبادةِ
[385] يُنظر: ((تيسير العزيز الحميد)) لسليمان آل الشيخ (ص: 17)، ((أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة)) لنخبة من العلماء (ص: 15). .
قال
ابنُ القَيِّمِ: (توحيدُ الأُلوهيَّةِ هو المنجِّي من الشِّركِ دونَ توحيدِ الرُّبوبيَّةِ بمجَرَّدِه؛ فإنَّ عُبَّادَ الأصنامِ كانوا مُقِرِّين بأنَّ اللهَ وَحْدَه خالِقُ كُلِّ شَيءٍ ورَبُّه ومَلِيكُه، ولكِنْ لَمَّا لم يأتُوا بتوحيدِ الأُلوهيَّةِ -وهو عِبادتُه وَحْدَه لا شَريكَ له- لم ينفَعْهم توحيدُ رُبوبيَّتِه)
[386] يُنظر: ((عدة الصابرين)) (ص: 46). .
وقال
المقريزيُّ: (لا وَلِيَّ ولا حَكَمَ ولا رَبَّ إلَّا اللهُ الذي مَن عَدَلَ به غيرَه فقد أشرك في ألوهِيَّتِه، ولو وحَّد رُبوبيَّتَه؛ فتوحيدُ الرُّبوبيَّةِ هو الذي اجتمَعَت فيه الخلائِقُ مُؤمِنُها وكافِرُها، وتوحيدُ الإلهيَّةِ مَفْرِقُ الطُّرُقِ بين المؤمِنينَ والمُشرِكين؛ ولهذا كانت كَلِمةُ الإسلامِ: لا إلهُ إلَّا اللهُ، ولو قال: لا رَبَّ إلَّا اللهُ، لَمَا أجزأه عند المحَقِّقين، فتوحيدُ الألوهيَّةِ هو المطلوبُ من العِبادِ)
[387] يُنظر: ((تجريد التوحيد المفيد)) (ص: 8). .
وقال سُلَيمانُ بنُ عبدِ اللهِ آل الشَّيخ: (وهذا التَّوحيدُ -أي: توحيدُ الرُّبوبيَّةِ- لا يَكفي العبدَ في حُصولِ الإسلامِ، بل لا بدَّ أن يأتيَ مع ذلك بلازِمِه من توحيدِ الأُلوهيَّةِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى حكى عن المُشرِكينَ أنَّهم مُقِرُّون بهذا التَّوحيدِ للهِ وَحْدَه ... الكُفَّارُ يَعرِفونَ اللهَ ويَعرِفونَ رُبوبيَّتَه ومُلكَه وقَهْرَه، وكانوا مع ذلك يَعبُدونَه ويُخلِصون له أنواعًا من العِباداتِ؛ كالحَجِّ، والصَّدَقةِ، والذَّبحِ، والنَّذْرِ، والدُّعاءِ وَقْتَ الاضطرارِ، ونحوِ ذلك، ويدَّعونَ أنَّهم على ملَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ... وبَعضُهم يؤمِنُ بالبَعْثِ والحِسابِ، وبَعْضُهم يؤمِنُ بالقَدَرِ... فوجَبَ على كُلِّ من عَقَل عن اللهِ تعالى أن ينظُرَ ويَبحَثَ عن السَّبَبِ الذي أوجَبَ سَفْكَ دمائِهم، وسَبْيَ نِسائِهم، وإباحةَ أموالِهم، مع هذا الإقرارِ والمَعرِفةِ، وما ذاك إلَّا لإشراكِهم في توحيدِ العِبادةِ الذي هو معنى لا إلهَ إلَّا اللهُ)
[388] يُنظر: ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 17). .
وقال
الشَّوكانيُّ: (اعلَمْ أنَّ اللهَ لم يبعَثْ رُسُلَه، ويُنزِلْ كُتُبَه لتعريفِ خَلْقِه بأنَّه الخالِقُ لهم، والرَّازِقُ، ونحوُ ذلك؛ فإنَّ هذا يُقِرُّ به كُلُّ مُشرِكٍ قَبلَ بَعثةِ الرُّسُلِ،
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ...
[الزخرف: 87] ولهذا تجِدُ كلَّ ما ورد في الكتابِ العزيزِ في شأنِ خالِقِ الخَلْقِ ونحوِه في مخاطبةِ الكُفَّارِ مُعَنْونًا باستفهامِ التقريرِ:
هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فاطر: 3] أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ...
[إبراهيم: 10] بل بعَثَ اللهُ رُسُلَه، وأنزل كُتُبَه لإخلاصِ توحيدِه، وإفرادِه بالعِبادةِ
يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِهِ [هود: 84] )
[389])) يُنظر: ((الدر النضيد)) (ص: 45). .
وقال عبدُ الرَّحمنِ بنُ حَسَن آل الشَّيخِ: (فليس كلُّ من أقرَّ بأنَّ اللهَ تعالى ربُّ كلِّ شيءٍ وخالِقُه يكونُ عابِدًا له دونَ ما سِواه، داعيًا له دونَ ما سِواه، راجيًا له خائِفًا منه دونَ ما سِواه، يوالي فيه، ويعادي فيه، ويُطيعُ رُسُلَه، ويأمُرُ بما أمَرَ به، وينهى عمَّا نهى عنه، وعامَّةُ المُشرِكينَ أقرُّوا بأنَّ اللهَ خالِقُ كُلِّ شَيءٍ، وأثبَتوا الشُّفعاءَ الذين يُشرِكونَهم به، وجَعَلوا له أندادًا ... ولهذا كان مِنْ أتباعِ هؤلاء من يَسجُدُ للشَّمسِ والقَمَرِ والكواكِبِ ويَدْعوها ويَصومُ ويَنسُكُ لها ويتقرَّبُ إليها، ثمَّ يَقولُ: إنَّ هذا ليس بشِركٍ، إنَّما الشِّرْكُ إذا اعتقَدْتُ أنَّها المدَبِّرةُ لي، فإذا جعَلْتُها سببًا وواسطةً لم أكنْ مُشرِكًا! ومن المعلومِ بالاضطرارِ مِن دينِ الإسلامِ أنَّ هذا شِرْكٌ)
[390] يُنظر: ((فتح المجيد)) (ص: 13). .
وقال محمود شكري الألوسي في دفاعِه عن
محمَّدِ بنِ عبدِ الوهَّابِ: (أبدى رحمه الله تعالى من التقاريرِ المفيدةِ، والأبحاث ِالفَريدةِ على كَلِمةِ الإخلاصِ والتوحيدِ -شهادة أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ- ما دَلَّ عليه الكتابُ المصَدَّقُ، والإجماعُ المُستبين المحقَّق، من نَفْيِ استحقاقِ العبادةِ والإلهيَّةِ عَمَّا سِوى اللهِ، وإثباتِ ذلك لله سبحانَه على وَجهِ الكَمالِ المُنافي لكُلِّيَّاتِ الشِّركِ وجُزئيَّاتِه، وأنَّ هذا هو معناها وَضْعًا ومُطابقةً، خِلافًا لِمن زعم غيرَ ذلك من المتكَلِّمين، كمن يُفَسِّرُ ذلك بالقُدرةِ على الاختراعِ، أو بأنَّه تعالى غَنِيٌّ عمَّا سِواه، مُفتقِرٌ إليه ما عداه؛ فإنَّ هذا لازمُ المعنى؛ إذ الإلهُ الحَقُّ لا يكونُ إلَّا قادرًا غنيًّا عِمَّا سِواه، وأمَّا كونُ هذا هو المعنى المقصودَ بالوَضْعِ، فليس كذلك، والمتكَلِّمون خَفِيَ عليهم هذا، وظنُّوا أنَّ تحقيقَ توحيدِ الرُّبوبيَّةِ والقُدرة هو الغايةُ المقصودةُ، والفناءُ فيه هو تحقيقُ التوحيدِ، وليس الأمرُ كذلك، بل هذا لا يكفي في الإيمانِ وأصلِ الإسلامِ إلَّا إذا أضيفَ إليه واقتَرَن به توحيدُ الإلهيَّةِ، وإفرادُ اللهِ بالعبادةِ والحُبِّ، والخُضوعِ والتعظيمِ، والإنابةِ والتوكُّلِ، والخَوفِ والرَّجاءِ، وطاعةِ اللهِ وطاعةِ رَسولِه، هذا أصلُ الإسلامِ وقاعِدتُه)
[391] يُنظر: ((غاية الأماني)) (1/ 136). .
وقال المعصومي الخُجَندي: (اعلَمْ أنَّ «لا إله إلَّا اللهُ» هي الكَلِمةُ الفارقةُ بين الكُفرِ والإسلامِ، فمن قالها عالِمًا بمعناها ومعتقدًا إيَّاها، فقد دخل في الإسلامِ، وصار من أهلِ دارِ السَّلامِ: الجنَّةِ، وأمَّا من قال: لا خالِقَ إلَّا اللهُ، أو لا رازِقَ إلَّا اللهُ، أو لا رَبَّ إلَّا اللهُ... أو نحوَ ذلك، فلا يكونُ مُسلِمًا، ولا يكونُ من أهلِ دارِ السَّلامِ، وهذه الكَلِماتُ وإن كانت كَلِماتٍ حَقَّةً، ولكِنْ يشتَرِكُ في القولِ بها سائِرُ النَّاسِ من المُشرِكين والمجوسِ والنَّصارى واليَهودِ وغَيرِهم... كما يَشهَدُ القُرآنُ بذلك)
[392])) يُنظر: ((مفتاح الجنة لا إله إلا لله)) (ص: 39). .