الفَرعُ الثَّاني: أنواعُ النِّفاقِ
تمهيدٌالنِّفاقُ كالكُفرِ والشِّركِ والفِسقِ والظُّلمِ: دَرَجاتٌ ومراتِبُ؛ منها ما هو مخرِجٌ من الإسلامِ، ومنها غيرُ مخرجٍ منه.
واختلفت عباراتُ الأئِمَّةِ في إيضاحِ هذين النَّوعينِ:
فبعض الأئِمَّةِ -ك
التِّرمذيِّ، و
ابنِ العَربيِّ المالكي، و
ابنِ كثيرٍ، و
ابنِ حَجَر- يُقَسِّمون النِّفاقَ إلى نفاقٍ اعتقاديٍّ، وهو المخرِجُ من المِلَّةِ وإلى نفاقٍ عَمَليٍّ.
قال
الترمذيُّ في تعليقِه على حديثِ:
((أربعٌ من كُنَّ فيه كان مُنافِقًا ...)) [2592] أخرجه البخاري (34)، ومسلم (58) من حَديثِ عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. : (إنَّما معنى هذا عند أهل العِلم: نفاقُ العَمَلِ، وإنَّما نفاقُ التكذيبِ على عهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، هكذا رُوِيَ عن
الحسنِ البصريِّ شيءٌ من هذا؛ أنَّه قال: النِّفاقُ نفاقان، نفاقُ عَمَلٍ، ونِفاقُ التَّكذيبِ)
[2593] يُنظر: ((سنن الترمذي)) (4/ 316). والمقصود بنفاقِ التكذيبِ أن يظهِرَ الإيمانَ بلسانِه أو فِعْلِه، وهو مكذِّبٌ بقلبه، كالمنافقين على عَهدِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. .
وقال
ابنُ العربي: (النِّفاقُ هو إظهارُ القَولِ باللِّسانِ أو الفِعلِ، بخلافِ ما في القَلبِ مِن القَولِ والاعتقادِ.
«أصولُه» وهي قِسمانِ:
أحَدُهما: أن يكونَ الخَبَرُ أو الفِعلُ في توحيدِ اللهِ وتصديقِه، أو يكونُ في الأعمالِ، فإن كان في التوحيدِ كان صريحًا، وإن كان في الأعمالِ كانت معصيةً، وكان نفاقًا دون نفاقٍ، كما تقدَّم القولُ في كُفرٍ دونَ كُفرٍ)
[2594] يُنظر: ((عارضة الأحوذي)) (10/97). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (النِّفاقُ هو إظهارُ الخيرِ وإسرارُ الشَّرِّ، وهو أنواعٌ: اعتقاديٌّ، وهو الذي يخَلِّدُ صاحِبَه في النَّارِ، وعَمَليٌّ، وهو من أكبرِ الذُّنوبِ)
[2595] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/ 176). وقال
ابنُ حَجَرٍ: (النِّفاقُ لغةً: مخالَفةُ الباطِنِ للظَّاهِرِ، فإن كان في التركِ اعتقادُ الإيمانِ فهو نفاقُ الكُفرِ، وإلَّا فهو نفاقُ العمَلِ، ويدخُلُ فيه الفِعلُ والتركُ، وتتفاوتُ مراتِبُه)
[2596] يُنظر: ((فتح الباري)) (1/89). .
وبعضُ الأئِمَّةِ -ك
ابنِ تيميَّةَ و
ابنِ القَيِّمِ و
ابنِ رَجَبٍ- يعبِّرون عن ذلك بتقسيمِ النِّفاقِ إلى نفاقٍ أكبَرَ مخرجٍ مِن المِلَّةِ، وإلى نفاقٍ أصغَرَ غيرِ مُخرِجٍ من المِلَّة.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (فمن النِّفاقِ ما هو أكبَرُ، يكون صاحِبُه في الدَّركِ الأسفَلِ من النَّارِ، كنفاقِ عبدِ اللهِ بنِ أُبيٍّ وغيرِه، بأن يظهِرَ تكذيبَ الرَّسولِ،... فهذا ضربُ النِّفاقِ الأصغَرِ، فهو النِّفاقُ في الأعمالِ ونحوِها)
[2597] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (28/434). .
وقال أيضًا: (النِّفاقُ كالكُفرِ نفاقٌ دونَ نفاقٍ؛ ولهذا كثيرًا ما يقال: كفرٌ ينقُلُ عن المِلَّة، وكفرٌ لا ينقُلُ، ونفاقٌ أكبرُ، ونفاقٌ أصغَرُ، كما يقال: الشِّركُ شِركان: أصغَرُ، وأكبَرُ)
[2598] يُنظر: ((الإيمان الأوسط)) (ص: 66). .
وقال
ابنُ القَيِّم في بيانِ أقسامِ النِّفاق: (هو نوعانِ: أكبَرُ، وأصغَرُ؛ فالأكبَرُ: يُوجِبُ الخلودَ في النَّارِ في دَرْكِها الأسفَلِ، وهو أن يُظهِرَ للمُسلِمين إيمانَه باللهِ وملائِكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليومِ الآخِرِ، وهو في الباطِنِ مُنسَلِخٌ من ذلك كُلِّه، مُكذِّبٌ به)
[2599] يُنظر: ((مدارج السالكين)) (1/376). .
وقال
ابنُ رجب: (النِّفاقُ الأكبَرُ وهو أن يُظهِرَ الإنسانُ الإيمانَ باللهِ وملائكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليَومِ الآخِرِ، ويُبطِنَ ما يناقِضُ ذلك كُلَّه أو بعضَه، وهذا هو النِّفاقُ الذي كان على عهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ونزل القُرآنُ بذَمِّ أهلِه وتكفيرِهم، وأخبر أنَّهم في الدَّركِ الأسفَلِ من النَّارِ)
[2600] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) (ص: 403). .
المسألةُ الأولى: النِّفاقُ الأكبَرُ المُخرِجُ من المِلَّةِ، والموجِبُ للخُلودِ في الدَّركِ الأسفَلِ من النَّارِهو إبطانُ الكُفرِ في القَلبِ، وإظهارُ الإيمانِ على اللِّسانِ والجوارِحِ، ويترتَّبُ على هذا النَّوعِ ما يترتَّبُ على الكُفرِ الأكبَرِ؛ من حيث انتفاءُ الإيمانِ عن صاحِبِه، وخلودُه في جهنَّمَ، لكِنَّ المُنافِقَ أشَدُّ عذابًا من الكافِرِ؛ لأنَّه في الدَّركِ الأسفَلِ من النَّارِ إذا مات عليه.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (فمِن النِّفاقِ ما هو أكبَرُ، ويكونُ صاحِبُه في الدَّركِ الأسفَلِ مِن النَّارِ؛ كنِفاقِ عبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ وغيرِه؛ بأن يُظهِرَ تكذيبَ الرَّسولِ، أو جُحودَ بَعْضِ ما جاء به أو بُغْضَه، أو عَدَمَ اعتقادِ وُجوبِ اتِّباعِه، أو المسَرَّةَ بانخفاضِ دينِه، أو المساءةَ بظُهورِ دينِه، ونحوَ ذلك مِمَّا لا يكونُ صاحِبُه إلَّا عَدُوًّا لله ورَسولِه، وهذا القَدْرُ كان موجودًا في زَمَنِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وما زال بَعْدَه، بل هو بَعْدَه أكثَرُ منه على عَهْدِه)
[2601] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (28/434). .
وقال أيضًا: (فأمَّا النِّفاقُ المحْضُ الذي لا رَيْبَ في كُفرِ صاحِبِه فألَّا يرى وجوبَ تصديقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما أخبَرَ به، ولا وجوبَ طاعتِه فيما أمر به، وإن اعتقد مع ذلك أنَّ الرَّسولَ عظيمُ القَدْرِ عِلمًا وعملًا، وأنَّه يجوزُ تصديقُه وطاعتُه، لكِنَّه يقولُ: إنَّه لا يَضُرُّ اختلافُ المِلَلِ إذا كان المعبودُ واحدًا، ويرى أنَّه تحصُلُ النَّجاةُ والسَّعادةُ بمتابعةِ الرَّسولِ وبغيرِ مُتابعتِه، إمَّا بطريقِ الفَلْسفةِ والصُّبوءِ، أو بطريقِ التهَوُّدِ والتنَصُّر)
[2602] يُنظر: ((الإيمان الأوسط)) (ص180). .
وقال
مُحَمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ: (فأمَّا النِّفاقُ الاعتقاديُّ فهو سِتَّةُ أنواعٍ: تكذيبُ الرَّسولِ، أو تكذيبُ بَعْضِ ما جاء به الرَّسولُ، أو بُغضُ الرَّسولِ، أو بُغْضُ ما جاء به الرَّسولُ، أو المسرَّةُ بانخفاضِ دينِ الرَّسولِ، أو الكراهِيَةُ لانتصارِ دين ِالرَّسولِ؛ فهذه الأنواعُ السِّتَّةُ صاحِبُها من أهلِ الدَّركِ الأسفَلِ مِن النَّارِ)
[2603] يُنظر: ((مجموعة التوحيد)) (ص7). .
ومن الآياتِ في تكفيرِهم ومَصيرِهم في الآخِرةِ:قَولُ اللهِ تعالى:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة: 8] ،
قال
السَّمعانيُّ: (أكثَرُ المُفَسِّرين على أنَّه في شأنِ المنافِقين. ومعناه: ومن النَّاس ناسٌ تقولُ: آمَنَّا باللهِ وباليومِ الآخِرِ، يعني: القيامةَ.
وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ نفى الإيمانَ عنهم؛ حيث أظهروا الإسلامَ باللِّسانِ ولم يعتَقِدوا بالجَنانِ)
[2604] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (1/ 47). .
وقَولُ اللهِ سُبحانَه:
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145] .
قال
ابنُ جريرٍ: (يعني جَلَّ ثناؤه بقَولِه:
إنَّ المُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ إنَّ المُنافِقين في الطَّبَقِ الأسفَلِ مِن أطباقِ جَهنَّمَ. وكُلُّ طبقٍ من أطباقِ جَهنَّمَ دَرَكٌ)
[2605] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/ 619). .
وقَولُ اللهِ عزَّ وجَلَّ:
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا [التوبة: 68] .
قال
ابنُ جريرٍ: (يقولُ تعالى ذِكْرُه:
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ باللهِ
نَارَ جَهَنَّمَ أن يُصْلِيهُموها جميعًا
خَالِدِينَ فِيهَا يقولُ: ماكثين فيها أبدًا، لا يحْيَون فيها ولا يموتون)
[2606] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/ 550). .
وقَولُ اللهِ تعالى:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا [التوبة: 73-74] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (أمر تعالى رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بجِهادِ الكُفَّارِ والمُنافِقين والغِلظةِ عليهم، كما أمره بأن يخفِضَ جناحَه لمن اتَّبَعَه من المؤمنين، وأخبره أنَّ مصيرَ الكُفَّارِ والمُنافِقين إلى النَّارِ في الدَّارِ الآخرةِ)
[2607] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 178). .
والمُنافِقُ: إذا لم يُظهِرْ ما في باطِنِه من مخالفةِ الدِّينِ، وأظهر الأعمالَ الظَّاهِرةَ من الإسلامِ؛ فهو في الظَّاهِرِ مُسلِمٌ، وتجري عليه أحكامُ الإسلامِ الظَّاهرةُ في الدُّنيا، ويعامَلُ مُعامَلة المُسلِمين؛ لأنَّنا لم نؤمَرْ بالشَّقِّ عن القلوب، وهذا في الأصلِ خارجٌ عن نطاقِ وقُدرةِ ابنِ آدَمَ؛ لأنَّ الإيمانَ الظَّاهِرَ الذي تجري عليه الأحكامُ في الدُّنيا لا يستلزِمُ الإيمانَ الباطِنَ الذي يكونُ صاحِبُه من المؤمنين حقًّا.
والنِّفاقُ إذا أُطلِقَ ذِكرُه في القُرآنِ فالمرادُ به النِّفاقُ الأكبَرُ المنافي للإيمانِ، بخِلافِ الكُفرِ؛ فإنَّه يأتي أحيانًا بمعنى الكُفرِ الأصغَرِ، وكذلك الظُّلمُ والفِسقُ والشِّركُ.
قال
السَّعديُّ: (اعلَمْ أنَّ النِّفاقَ هو: إظهارُ الخيرِ وإبطانُ الشَّرِّ، ويدخُلُ في هذا التَّعريفِ النِّفاقُ الاعتقاديُّ، والنِّفاقُ العَمَليُّ، كالذي ذَكَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قَولِه:
((آيةُ المنافِقِ ثلاتٌ: إذا حَدَّث كَذَب، وإذا وَعَد أخلَفَ، وإذا اؤتُمِنَ خان))، وفي روايةٍ:
((وإذا خاصَمَ فجَرَ)). وأمَّا النِّفاقُ الاعتِقاديُّ المخرِجُ عن دائرةِ الإسلامِ، فهو الذي وَصَف اللهُ به المنافِقين في هذه السُّورةِ وغَيرِها، ولم يكُنِ النِّفاقُ موجودًا قبل هِجْرةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من مكَّةَ إلى المدينةِ، وبعد أن هاجَرَ، فلَمَّا كانت وقعةُ "بدر" وأظهر اللهُ المُؤمِنين وأعَزَّهم، ذَلَّ مَن في المدينةِ مِمَّن لم يُسلِمْ، فأظهَرَ بَعْضُهم الإسلامَ خوفًا ومخادَعةً، ولِتُحقَنَ دِماؤُهم، وتَسلَمَ أموالُهم، فكانوا بين أظهُرِ المُسْلِمين في الظَّاهِرِ أنَّهم منهم، وفي الحقيقةِ ليسُوا منهم، فمِن لُطفِ اللهِ بالمُؤمِنين أنْ جَلَّى أحوالَهم ووصَفَهم بأوصافٍ يتمَيَّزون بها؛ لئلَّا يغتَرَّ بهم المُؤمِنون، ولِيَنقَمِعوا أيضًا عن كثيرٍ مِن فُجورِهم)
[2608] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 42). .
المَسألةُ الثَّانيةُ: النِّفاقُ الأصغَرُ غيرُ المُخرِجِ مِن المِلَّةِهو النِّفاقُ العَمَليُّ، واختلافُ السِّرِّ والعلانيَة في الواجباتِ، وذلك بعَمَلِ شيءٍ من أعمال المُنافِقين، مع بقاءِ أصلِ الإيمانِ في القَلْبِ، وصاحِبُه لا يخرُجُ من المِلَّة، ولا يُنفى عنه مُطلَقُ الإيمانِ، ولا مُسَمَّى الإسلامِ، وهو معرَّضٌ للعذابِ كسائِرِ المعاصي، دونَ الخلودِ في النَّارِ، وصاحِبُه ممَّن تنالُه شفاعةُ الشَّافعين بإذن الله.
وهذا النَّوعُ من النِّفاقِ مُقَدِّمةٌ وطريقٌ للنِّفاقِ الأكبر؛ لِمن سلكه وكان ديدَنَه.
وأمثلةُ ذلك: الكَذِبُ في الحديثِ، وإخلافُ الوَعْدِ، وخيانةُ الأمانةِ، والفُجورُ في الخُصومةِ، والغَدرُ بالعُهودِ، وكالرِّياءِ الذي لا يكونُ في أصلِ العَمَلِ، وإظهارِ المودَّةِ للغَيرِ، والقيامِ له بالخِدمةِ مع إضمارِ عَكْسِه في النَّفسِ.
عن
عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم قال:
((أربعٌ من كُنَّ فيه كان مُنافِقًا خالصًا، ومن كانت فيه خَصلةٌ منهنَّ كانت فيه خَصلةٌ من النِّفاقِ حتى يدَعَها: إذا اؤتُمِن خان، وإذا حدَّث كَذَب، وإذا عاهَدَ غدَر، وإذا خاصم فجَرَ )) [2609] أخرجه البخاري (34) واللَّفظُ له، ومسلم (58). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((آيةُ المُنافِق ثلاثٌ: إذا حَدَّث كَذَب، وإذا وعد أخلَفَ، وإذا اؤتُمِن خان)) [2610] أخرجه البخاري (33)، ومسلم (59). .
قال
الخطَّابيُّ: (هذا القَولُ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنما خرج على سَبيلِ الإنذارِ للمَرءِ المُسلِمِ، والتحذيرِ له أن يعتادَ هذه الخِصالَ؛ شَفَقًا أن تُفضِيَ به إلى النِّفاقِ، وليس المعنى أن من بدَرَت منه هذه الخِلالُ، وكان ما يفعَلُ منها على غيرِ وَجهِ الاختيارِ والاعتيادِ له؛ أنَّه مُنافِقٌ)
[2611] يُنظر: ((أعلام الحديث)) (1/ 165). .
وقال
النَّوويُّ: (معناه أنَّ هذه الخِصالَ خِصالُ نفاقٍ، وصاحِبُها شبيهٌ بالمُنافِقينَ في هذه الخِصالِ، ومتخَلِّقٌ بأخلاقِهم؛ فإنَّ النِّفاقَ إظهارُ ما يبطِنُ خِلافَه، وهذا المعنى موجودٌ في صاحِبِ هذه الخِصالِ، ويكونُ نفاقُه في حَقِّ من حَدَّثَه ووَعَدَه وائتَمَنَه وخاصَمَه وعاهَدَه من النَّاسِ، لا أنَّه مُنافِقٌ في الإسلامِ فيُظهِرُه وهو يبطِنُ الكُفرَ، ولم يُرِدِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقَولِه بهذا أنَّه مُنافِقٌ نفِاقَ الكُفَّارِ المخَلَّدين في الدَّركِ الأسفَلِ من النَّار؛ قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((كان مُنافِقًا خالصًا)) معناه شديدَ الشَّبَهِ بالمُنافِقين بسَبَبِ هذه الخِصالِ، قال بعضُ العُلَماءِ: هذا فيمن كانت هذه الخِصالُ غالبةً عليه، فأمَّا من يَندُرُ ذلك منه فليس داخلًا فيه، فهذا هو المختارُ في معني الحديثِ)
[2612] يُنظر: ((شرح مسلم)) (2/46). .
وقال
ابنُ رجبٍ بعد شَرْحِه تلك الخِصالَ: (حاصِلُ الأمرِ أنَّ النِّفاقَ الأصغَرَ كُلُّه يرجِعُ إلى اختلافِ السَّريرةِ والعلانيةِ، كما قاله الحسَنُ)
[2613] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) (ص: 406). .
ومن هذا البابِ حديثُ
أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((آيةُ الإيمانِ حُبُّ الأنصارِ، وآيةُ النِّفاقِ بُغضُ الأنصارِ )) [2614] أخرجه البخاري (17) واللَّفظُ له، ومسلم (74). .
قال
العيني: (المقصودُ من الحديثِ الحَثُّ على حُبِّ الأنصارِ، وبيانِ فَضْلِهم؛ لِما كان منهم من إعزازِ الدِّينِ وبَذلِ الأموالِ والأنفُسِ، والإيثارِ على أنفُسِهم، والإيواءِ والنَّصرِ وغيرِ ذلك،… فحُبُّهم لذلك المعنى محْضُ الإيمانِ، وبُغضُهم محْضُ النِّفاقِ... وقال القرطبيُّ: وأمَّا من أبغض -والعياذُ باللهِ- أحدًا منهم من غيرِ تلك الجِهةِ لأمرٍ طارئٍ مِن حَدَثٍ وقع لمخالفةِ غَرَض، أو لضَرَرٍ ونَحوِه، لم يَصِرْ بذلك مُنافِقًا ولا كافرًا، فقد وقع بينهم حروبٌ ومخالفاتٌ، ومع ذلك لم يحكُمْ بعضُهم على بعضٍ بالنِّفاقِ، وإنَّما كان حالُهم في ذلك حالَ المجتهدينَ في الأحكامِ)
[2615] يُنظر: ((عمدة القاري)) (1/ 152). .
ومن هذا البابِ أيضًا: الإعراضُ عن الجِهادِ؛ فإنَّه من خِصالِ المُنافِقين
[2616] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/436). .
فعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((من مات ولم يَغْزُ ولم يحَدِّثْ به نَفْسَه، مات على شُعبةٍ من نفاقٍ )) [2617] أخرجه مسلم (1910). .
قال ابنُ هبيرة: (في هذا الحديثِ مِن الفِقهِ الحَثُّ على الجهادِ أو تمَنِّيه لِمن لم يمكِنْه النهوضُ إليه، فإن لم ينهَضْ فهو على شُعبةٍ من النِّفاقِ؛ فإنَّ النِّفاقَ ضِدُّ الصِّدقِ، والصِّدقُ في أعداءِ اللهِ تجريدُ حَربِهم سِرًّا وجهرًا، فشأنُ المؤمِنِ أن يكونَ محاربًا لأعداءِ اللهِ إنِ استطاع ذلك مُعلِنًا به، وإلَّا كان ناويًا وعازمًا عليه؛ فإذا ضرب عن ذلك في جَهْرِه، ثم أضرب عنه في سِرِّه؛ فإنَّه على شُعبةٍ من النِّفاقِ؛ إذ الشُّعبةُ قد تؤدِّي إلى الوادي)
[2618] يُنظر: ((الإفصاح)) (8/ 73). .
قال
ابنُ رجب: (لَمَّا تقَرَّر عند الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم أنَّ النِّفاقَ هو اختلافُ السِّرِّ والعلانيَة، خَشِيَ بَعضُهم على نفسِه أن يكونَ إذا تغَيَّرَ عليه حضورُ قَلْبِه ورِقَّتُه وخُشوعُه عند سماعِ الذِّكرِ، برجوعِه إلى الدُّنيا والاشتغالِ بالأهلِ والأولادِ والأموالِ؛ أن يكونَ ذلك منه نفاقًا، كما في «صحيح مُسلِم» عن حَنظَلةَ الأسيديِّ: أنَّه مرَّ ب
أبي بكرٍ وهو يبكي، فقال: ما لك؟ قال: نافَقَ حَنْظلةُ يا
أبا بكرٍ؛ نكونُ عند رَسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يذكِّرُنا بالجَنَّةِ والنَّارِ كأنَّا رأيَ عَينٍ، فإذا رجَعْنا عافسنا الأزواجَ والضَّيعةَ، فنَسينا كثيرًا! قال
أبو بكر: فواللهِ إنَّا لكذلك! فانطلَقْنا إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال:
((ما لك يا حنظلةُ؟)) قال: نافق حنظلةُ يا رسولَ اللهِ! وذكر له مِثْلَ ما قال ل
أبي بكرٍ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لو تدومون على الحالِ التي تقومون بها من عندي، لصافحَتْكم الملائكةُ على مجالِسِكم وفي طُرُقِكم، ولكِنْ يا حنظلةُ ساعةٌ وساعةٌ))
[2619] أخرجه مسلم (2750) باختِلافٍ يسيرٍ. ، ومما ورد في هذا المعنى -أي: خَوفِ الصَّحابةِ من النِّفاقِ- ما قاله ابنُ أبي مُلَيكةَ: أدركتُ ثلاثين من أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كُلُّهم يخافُ النِّفاقَ على نَفْسِه، ما منهم أحدٌ يقولُ: إنَّه على إيمانِ
جِبريلَ و
ميكائيلَ)
[2620] أخرجه البخاري معلَّقًا بصيغة الجزم قبل حديث رقم (48) واللَّفظُ له، وأخرجه موصولًا الخَلَّال في ((السنة)) (3/607-608)، ومحمد بن نصر المروزي في ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/634). قال ابن رجب في ((فتح الباري)) (1/177) معروف عنه من رواية الصَّلتِ بن دينار عنه، وفي الصَّلتِ ضعفٌ، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (1/135): روي في معناه حديثٌ مرفوعٌ إسناده ضعيف. [2621] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) (ص: 408). .
وقال
ابنُ حجَرٍ في تعليقِه على هذا الأثَرِ الأخيرِ: (الصَّحابةُ الذين أدركهم ابنُ أبي مُلَيكةَ من أجَلِّهم
عائشةُ وأختُها
أسماءُ، و
أمُّ سَلمةَ، والعبادِلَة الأربعةُ، وأبو هُرَيرةَ، وعُقبةُ بن الحارثِ، والمِسْوَرُ بنُ مَخْرَمةَ، فهؤلاء ممن سمع منهم، وقد أدرك بالسِّنِّ جماعةً أجلَّ من هؤلاء؛ كعَلِيِّ بنِ أبي طالبٍ، و
سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ، وقد جزم بأنَّهم كانوا يخافون النِّفاقَ في الأعمالِ، ولم يُنقَلْ عن غيرِهم خِلافُ ذلك، فكأنَّه إجماعٌ؛ وذلك لأنَّ المؤمِنَ قد يَعرِضُ عليه في عَمِلِه ما يَشعُرُ به مما يخالِفُ الإخلاصَ، ولا يلزَمُ من خوفِهم من ذلك وقوعُه منهم، بل ذلك على سبيلِ المبالغةِ منهم في الورَعِ والتَّقوى رَضِيَ اللهُ عنهم)
[2622] يُنظر: ((فتح الباري)) (1/111. ويُنظر: ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 409)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (ص: 407). .