المَبحَثُ الثَّاني: تعريفُ الشِّرْكِ اصطلاحًا
اختلَفَت عباراتُ العُلَماءِ في بَيانِ معنى الشِّرْكِ في الدِّينِ، وإن كانت هذه العباراتُ يُكمِلُ بعضُها الآخرَ.
قال
ابنُ قُتَيبةَ: (الشِّرْكُ باللهِ هو أن يُجعَلَ له شَريكٌ)
[2] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 27). .
وقال الأزهَرِيُّ: (الشِّرْكُ: أن تجعَلَ للهِ شَريكًا في رُبوبيَّتِه، تعالى اللهُ عن الشُّرَكاءِ والأندادِ، وإنَّما دَخَلت الباءُ في قَولِه:
لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ؛ لأنَّ معناه: لا تَعدِلْ به غيرَه فتَجعَلَه شريكًا له، وكذلك قَولُه:
بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا [آل عمران: 151] ؛ لأنَّ معناه: عَدَلوا به، ومن عَدَل باللهِ شيئًا مِن خَلْقِه فهو مُشرِكٌ؛ لأنَّ اللهَ واحِدٌ لا شريكَ له ولا نِدَّ، ولا نديدَ)
[3] يُنظر: ((تهذيب اللغة)) (10/ 12). .
وقال
القُرطبيُّ: (أصلُه -أي: الشِّرْكِ- اعتِقادُ شَريكٍ للهِ في ألوهيَّتِه، وهو الشِّرْكُ الأعظَمُ، وهو شِرْكُ الجاهِليَّةِ، ويليه في الرُّتبةِ اعتِقادُ شَريكٍ للهِ تعالى في الفِعلِ، وهو قَولُ مَن قال: إنَّ موجودًا ما غيرَ اللهِ تعالى يستَقِلُّ بإحداثِ فِعلٍ وإيجادِه، وإن لم يُعتَقَدْ كَونُه إلهًا)
[4] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (5/ 181). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (أصلُ الشِّرْكِ أن تَعدِلَ باللهِ مخلوقاتِه في بعضِ ما يَستَحِقُّه وَحْدَه)
[5] يُنظر: ((الاستقامة)) (1/344). .
وقال أيضًا: (فمَن عَدَل باللهِ غيرَه في شيءٍ مِن خصائِصِه سبحانَه، فهو مُشرِكٌ)
[6] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (13/19). .
وعَرَّفه
ابنُ القَيِّمِ، فقال: (أن يجعَلَ للهِ عَدلًا بغيرِه في اللَّفظِ أو القَصدِ أو الاعتِقادِ)
[7] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) (3/94) .
وقال أيضًا: (حقيقةُ الشِّرْكِ: هو التشَبُّهُ بالخالِقِ وتشبيهُ المخلوقِ به)
[8] يُنظر: ((الجواب الكافي)) (ص: 136). .
وقال
ابنُ المـِبْرَدِ: (المشرِكُ من حَصَل منه الشِّرْكُ: وهو أن يُشرِكَ مع اللهِ في العِبادةِ غَيرَه)
[9] يُنظر: ((الدر النقي)) (2/ 105). .
وعَرَّف سُلَيمانُ بنُ عبدِ اللهِ آل الشَّيخِ الشِّرْكَ بأنَّه (تشبيهٌ للمخلوقِ بالخالِقِ تعالى وتقَدَّس في خصائِصِ الإلهيَّةِ؛ مِن مِلْكِ الضُّرِّ والنَّفعِ، والعَطاءِ والمنعِ؛ الذي يوجِبُ تعَلُّقَ الدُّعاءِ والخَوفِ والرَّجاءِ والتوكُّلِ وأنواعِ العِبادةِ كُلِّها باللهِ وَحْدَه)
[10] يُنظر: ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 88). .
وقال إسماعيل الدهلَويُّ: (اعلَمْ أنَّ الشِّرْكَ لا يتوقَّفُ على أن يعدِلَ الإنسانُ أحدًا باللهِ، ويساويَ بينهما بلا فَرقٍ، بل إنَّ حقيقةَ الشِّرْكِ أن يأتيَ الإنسانُ بخِلالٍ وأعمالٍ خَصَّها اللهُ بذاتِه العَلِيَّةِ، وجعَلَها شِعارًا للعُبوديَّةِ، لأحَدٍ مِنَ النَّاسِ؛ كالسُّجودِ لأحَدٍ، والذَّبحِ باسمِه، والنَّذرِ له، والاستغاثةِ به في الشِّدَّةِ، واعتِقادِ أنَّه حاضِرٌ ناظِرٌ في كُلِّ مكانٍ، وإثباتِ قُدرةِ التصَرُّفِ له، وكُلُّ ذلك يَثبُتُ به الشِّركُ، ويُصبِحُ الإنسانُ به مُشرِكًا، وإن كان يعتَقِدُ أنَّ هذا الإنسانَ أو المَلَكَ أو الجِنِّيَّ الذي يسجُدُ له، أو يذبَحُ أو يُنذِرُ له، أو يَستغيثُ به: أقَلُّ مِنَ اللهِ شأنًا، وأصغَرُ منه مكانًا، وأنَّ اللهَ هو الخالِقُ، وهذا عَبدُه وخَلْقُه، لا فَرْقَ في ذلك بين الأولياءِ والأنبياءِ، والجِنِّ والشَّياطينِ، والعفاريتِ والجِنِّيَّاتِ، فمن عامَلَها هذه المعاملةَ كان مُشرِكًا)
[11] يُنظر: ((تقوية الإيمان)) للدهلوي (ص: 54). .
وقال
الشَّوكانيُّ: (الشِّرْكُ: هو أن يَفعَلَ لغيرِ اللهِ شيئًا يختَصُّ به سُبحانَه وتعالى)
[12] يُنظر: ((الدر النضيد)) (ص: 51) .
وقال عبدُ اللَّطيفِ بنُ عبدِ الرَّحمنِ بنُ حَسَن آل الشَّيخِ: (الشِّركُ قد عرَّفه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بتعريفٍ جامعٍ، كما في حديثِ
ابنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال: يا رَسولَ اللهِ، أيُّ الذَّنبِ أعظَمُ؟ قال:
((أن تجعَلَ للهِ نِدًّا وهو خَلَقَك )) [13] أخرجه مطولاً البخاري (6001) واللفظ له، ومسلم (86). ، والنِّدُّ: المِثْلُ، والشَّبيهُ.
فمن صَرَف شيئًا من العباداتِ لغيرِ اللهِ، فقد أشرك به شِرْكًا يُبطِلُ التوحيدَ وينافيه؛ لأنَّه شَبَّه المخلوقَ بالخالِقِ، وجعَلَه في مرتبتِه؛ ولهذا كان أكبَرَ الكبائِرِ على الإطلاقِ، ولِما فيه من سوءِ الظَّنِّ به تعالى، كما قال الخليلُ عليه السَّلامُ:
أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات: 86، 87])
[14] يُنظر: ((الدرر السنية)) (2/319). .
وقال
السعديُّ: (حقيقةُ الشِّرْكِ باللهِ: أن يُعبدَ المخلوقُ كما يُعبَدُ اللهُ، أو يُعظَّمَ كما يُعظَّمُ اللهُ، أو يُصرَفَ له نوعٌ مِن خصائِصِ الرُّبوبيَّةِ والإلهيَّةِ)
[15] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 279). .
وقال
ابنُ عاشور عنه: (إشراكُ غيرِ اللهِ مع اللهِ في اعتِقادِ الإلهيَّةِ، وفي العِبادةِ)
[16] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/332). .
فالشِّرْكُ هو اتِّخاذُ الأندادِ مع اللهِ تعالى، أي: أن تجعَلَ مع اللهِ تعالى نظيرًا وشبيهًا في شيءٍ من خصائِصِ الرُّبوبيَّةِ أو الألوهيَّةِ أو الأسماءِ والصِّفاتِ، فمن جعَلَ شيئًا من ذلك لغيرِ اللهِ تعالى، فقد وقَعَ في الشِّركِ.
قال اللهُ تعالى:
فَلَا تَجْعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 22].
وقال اللهُ سُبحانَه:
وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [إبراهيم: 30] وقال اللهُ عَزَّ وجلَ:
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ [فصلت: 9] وعن
ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: (الأندادُ: الأشباهُ)
[17] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/ 392). .
وقال ابنُ زَيدٍ: (الأندادُ: الآلهةُ التي جَعَلوها معه، وجَعَلوا لها مِثلَ ما جَعَلوا له)
[18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/ 392). .
وعن
ابنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال:
((سألتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّ الذَّنبِ أعظَمُ عند اللهِ؟ قال: أن تجعَلَ للهِ نِدًّا وهو خلَقَك )) [19] أخرجه البخاري (4477) واللفظ له، ومسلم (86). .
قال ابنُ هُبَيرةَ: (المشرِكُ يَعلَمُ قَطعًا أنَّه لم يخلُقْه الذي يُشرِكُه مع اللهِ عَزَّ وجلَ، ولا في خَلْقِه شَرِكةٌ، فيَكذِبُ في جَعْلِه نِدًّا للهِ عَزَّ وجلَ كَذِبًا يَعلَمُه هو، فلا يَكْفيه أن يجحَدَ أنَّ اللهَ خلَقَه حتى يجعَلَ له مَثَلًا)
[20] يُنظر: ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (2/ 53). .
وعَنْ
ابنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه أيضًا قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كَلِمَةً وَقُلْتُ أُخْرَى، قَالَ النَّبِىُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مَنْ مَاتَ وَهْوَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ نِدًّا دَخَلَ النَّارَ ))، وَقُلْتُ أَنَا: (مَنْ مَاتَ وَهْوَ لَا يَدْعُو لِلَّهِ نِدًّا دَخَلَ الْجَنَّةَ)
[21] أخرجه البخاري (4497) واللفظ له، ومسلم (92). .
وعن أبي بَكرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: كُنَّا عندَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال:
((ألَا أُنَبِّئُكم بأكبَرِ الكَبائِرِ -ثلاثًا-؟ الإشراكُ باللهِ ...)) [22] أخرجه البخاري (5976)، ومسلم (87) واللفظ له. .