الفَصلُ الثَّاني: الأصلُ في الإنسانِ التَّوحيدُ لا الشِّرْكُ
عقيدةُ التَّوحيدِ هي دينُ الفِطْرةِ التي فَطَر اللهُ النَّاسَ عليها.
قال اللهُ تعالى:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الروم: 30] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (يقولُ تعالى: فسَدِّدْ وَجْهَك واستَمِرَّ على الذي شَرَعه اللهُ لك من الحنيفيَّةِ مِلَّةِ إبراهيمَ، الذي هداك اللهُ لها، وكَمَّلها لك غايةَ الكَمالِ، وأنت مع ذلك لازِمْ فطرتَك السَّليمةَ التي فَطَر اللهُ الخَلْقَ عليها؛ فإنَّه تعالى فَطَر خَلْقَه على معرفتِه وتوحيدِه، وأنَّه لا إلهَ غَيرُه)
[23] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/ 313). .
وقال
السعديُّ: (هذا الأمرُ الذي أمَرْناك به هو
فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ووَضَع في عُقولِهم حُسْنَها واستقباحَ غَيرِها؛ فإنَّ جميعَ أحكامِ الشَّرعِ الظَّاهرةِ والباطِنةِ قد وضَعَ اللهُ في قُلوبِ الخَلْقِ كُلِّهم الميلَ إليها، فوَضَع في قُلوبِهم محبَّةَ الحَقِّ وإيثارَ الحَقِّ، وهذا حقيقةُ الفِطْرةِ)
[24] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 641). .
وآدَمُ عليه السَّلامُ -أبو البَشَرِ- قد فَطَره اللهُ على العَقيدةِ السَّليمةِ، فكان مُوحِّدًا لله تعالى معتَقِدًا ما يجِبُ له من التَّعظيمِ والطَّاعةِ.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (لم يكُنِ الشِّرْكُ أصلًا في الآدميِّينَ، بل كان آدَمُ ومن كان على دينِه مِن بنيه على التَّوحيدِ للهِ لاتِّباعِهم النبُوَّةَ، قال اللهُ تعالى:
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا [يونس: 19] ... فإنَّ آدَمَ أمَرَهم بما أمَرَه اللهُ به؛ حيثُ قال له:
فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 38] ،
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 39] )
[25] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (20/106). ويُنظر: ((مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة)) لناصر العقل (ص: 19). .
عن
ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّه قال: (كان بين نوحٍ وآدَمَ عَشرةُ قُرونٍ، كُلُّهم على شريعةٍ مِنَ الحَقِّ، فاختَلَفوا؛ فبَعَث اللهُ النبيِّينَ مُبَشِّرين ومُنذِرين)
[26] أخرجه الطبري في ((التفسير)) (4048)، والحاكم (4009). صحَّحه الحاكِمُ على شرط البخاريِّ ، والألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (7/854). .
وقد أخَذَ اللهُ على بني آدَمَ العَهْدَ والميثاقَ بأنَّه رَبُّهم، وأشهَدَهم بذلك على أنفُسِهم.قال اللهُ تعالى:
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف: 172-173] .
قال ابنُ جُزَيٍّ: (في معناها قولانِ:
أحَدُهما: أنَّ اللهَ لَمَّا خلَقَ آدَمَ أخرج ذرِّيَّتَه من صُلْبِه وهم مِثْلُ الذَّرِّ، وأخذ عليهم العَهْدَ بأنَّه رَبُّهم، فأقَرُّوا بذلك والتَزَموه، رُويَ هذا المعنى عن النَّبيِّ صلَّى الله تعالى عليه وآله وسلَّم من طُرُقٍ كثيرةٍ، وقال به جماعةٌ من الصَّحابةِ وغَيرِهم.
والثَّاني: أنَّ ذلك من بابِ التَّمثيلِ، وأنَّ أخْذَ الذُّرِّيَّةِ عبارةٌ عن إيجادِهم في الدُّنيا، وأمَّا إشهادُهم فمعناه أنَّ اللهَ نَصَب لبني آدَمَ الأدِلَّةَ على رُبوبيَّتِه، فشَهِدَت بها عقولُهم، فكأنَّه أشهَدَهم على أنفُسِهم، وقال لهم: ألَسْتُ برَبِّكم؟ وكأنَّهم قالوا بلِسانِ الحالِ: بلى، أنت رَبُّنا، والأوَّلُ هو الصَّحيحُ؛ لتواتُرِ الأخبارِ به)
[27] يُنظر: ((نفسير ابن جزي)) (1/ 312). .
وعن
أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((يقولُ اللهُ تعالى لأهوَنِ أهلِ النَّارِ عذابًا يومَ القيامةِ: لو أنَّ لك ما في الأرضِ مِن شيءٍ، أكُنتَ تفتدي به؟ فيقولُ: نعم. فيقولُ: أردْتُ منك أهوَنَ مِن هذا وأنت في صُلبِ آدَمَ: أنْ لا تُشرِكَ بي شيئًا، فأبيتَ إلَّا أن تُشرِكَ بي )) [28] أخرجه البخاري (6557) واللفظ له، ومسلم (2805). .
قال
ابنُ حَجَرٍ: (فهذا الميثاقُ الذي أُخِذَ عليهم في صُلبِ آدَمَ، فمن وفى به بعد وُجودِه في الدُّنيا فهو مؤمِنٌ، ومن لم يُوفِ به فهو الكافِرُ، فمرادُ الحديثِ: أردتُ منك حين أخَذْتُ الميثاقَ، فأبيتَ إذ أخرَجْتُك إلى الدُّنيا إلَّا الشِّرْكَ، ويحتَمِلُ أن يكونَ المرادُ بالإرادةِ هنا الطَّلَبَ، والمعنى: أمَرْتُك فلم تَفعَلْ)
[29] يُنظر: ((فتح الباري)) (11/403). .
والنَّاسُ كُلُّهم يُولَدونَ على الفِطْرةِ ويَنشَؤون عليها، ما لم تَصرِفْهم عنها صوارِفُ الشَّرِّ والضَّلالِ.1- عن عياضٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالَ ذَاتَ يَومٍ في خُطْبَتِهِ:
((أَلَا إنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ ما جَهِلْتُمْ، ممَّا عَلَّمَنِي يَومِي هذا: كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ، وإنِّي خَلْقُت عِبادي حُنَفاءَ كُلَّهم، وإنَّهم أتَتْهم الشَّياطينُ فاجتالَتْهم عن دينِهم، وحَرَّمَت عليهم ما أحلَلْتُ لهم، وأمَرَتْهم أن يُشرِكوا بي ما لم أُنَزِّلْ به سُلطانًا ...)) [30] أخرجه مسلم (2865). .
قال
النَّوويُّ في شَرحِ قَولِه:
((حُنَفاءَ كُلَّهم)): (أي: مُسلمينَ. وقيل: طاهِرينَ من المعاصي. وقيل: مُستقيمينَ مُنيبينَ لِقَبولِ الهدايةِ. وقيل: المرادُ حينَ أخَذَ عليهم العَهْدَ في الذَّرِّ، وقال: ألستُ برَبِّكم؟ قالوا: بلى. قوله تعالى:
((وإنَّهم أتتهم الشَّياطينُ فاجتالَتْهم عن دينِهم )) أي: استَخَفُّوهم فذَهَبوا بهم، وأزالوهم عمَّا كانوا عليه، وجالوا معهم في الباطِلِ)
[31] يُنظر: ((شرح مسلم)) (17/197). .
وقال الطِّيبيُّ: (
((وإنِّي خلَقْتُ عبادي حُنَفاءَ )) أي: مستعِدِّينَ لقَبولِ الحَقِّ، والحَنَفِ عن الضَّلالِ، مُبَرَّئين عن الشِّرْك والمعاصي، وهو في معنى قَولِه:
((كُلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفِطرةِ )).
((فاجتالتهم عن دينِهم ))، أي: جالت الشَّياطينُ بهم وساقَتْهم إليها... يريدُ به الأصنامَ وسائِرَ ما عُبِدَ من دونِ اللهِ، أي: أمرَتْهم بالإشراِك باللهِ بعبادةِ ما لم يأمُرِ اللهُ بعبادتِه، ولم ينصِبْ دليلًا على استحقاقِه للعبادةِ)
[32] يُنظر: ((شرح المشكاة)) (11/ 3395). .
2- وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((ما من مولودٍ إلَّا يُولَدُ على الفِطْرةِ، فأبواه يُهَوِّدانِه، أو يُنصِّرانِه، أو يمَجِّسانِه )) [33] أخرجه مطولاً البخاري (1358) واللفظ له، ومسلم (2658). .
قال
البغويُّ: (قيل: معناه أنَّ كُلَّ مولودٍ يُولَدُ في مبدأِ الخِلْقةِ على الفِطرةِ، أي: على الجِبِلَّةِ السَّليمةِ والطَّبعِ المتهَيِّئِ لقَبولِ الدِّينِ، فلو تُرِك عليها لاستمَرَّ على لُزومِها؛ لأنَّ هذا الدِّينَ موجودٌ حُسْنُه في العُقولِ، وإنَّما يَعدِلُ عنه من يَعدِلُ إلى غيرِه؛ لآفةٍ مِن آفاتِ النُّشوءِ والتقليدِ، فلو سَلِمَ من تلك الآفاتِ لم يعتقِدْ غَيرَه)
[34] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/578). .
وقال أبو العبَّاسِ القرطبيُّ: (معنى الحديثِ: إنَّ اللهَ تعالى خَلَق قُلوبَ بني آدَمَ مؤهَّلةً لقَبولِ الحَقِّ، كما خَلَق أعيُنَهم وأسماعَهم قابلةً للمرئيَّاتِ والمسموعاتِ، فما دامت باقيةً على ذلك القَبولِ، وعلى تلك الأهليَّةِ؛ أدركتِ الحَقَّ. ودينُ الإسلامِ هو الدِّينُ الحَقُّ، وقد جاء ذلك صريحًا في الصَّحيحِ: جَبَل اللهُ الخَلْقَ على معرفتِه، فاجتالَتْهم الشَّياطينُ)
[35] يُنظر: ((المفهم)) (6/676). .
3- وعن البراءِ بنِ عازبٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إذا أتيتَ مَضجَعَك فتوضَّأْ وُضوءَك للصَّلاةِ، ثمَّ اضطَجِعْ على شِقِّك الأيمَنِ، ثمَّ قُلِ: اللَّهمَّ أسلَمْتُ وَجْهى إليكَ، وفوَّضْتُ أمرى إليكَ، وألجَأْتُ ظَهْرى إليكَ؛ رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجَأَ ولا منجَا منك إلَّا إليك، اللَّهُمَّ آمنتُ بكِتابِك الذى أنزَلْتَ، وبنبيِّك الذى أرسَلْتَ، فإنْ مِتَّ من ليلتِك فأنت على الفِطرةِ )) [36] أخرجه البخاري (247) واللفظ له، ومسلم (2710). .
قال
القسطلانيُّ: (فأنت على الفِطْرةِ الإسلاميَّةِ، أو الدِّينِ القويمِ؛ مِلَّةِ إبراهيمَ)
[37] يُنظر: ((إرشاد الساري)) (1/313). .
4- وعن
أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال:
((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُغِيرُ إذا طَلَع الفَجْرُ، وكان يستَمِعُ الأذانَ، فإن سَمِعَ أذانًا أمسَكَ، وإلَّا أغار، فسَمِعَ رجلًا يقولُ: اللهُ أكبَرُ اللهُ أكبَرُ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: على الفِطْرةِ. ثمَّ قال: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: خرَجْتَ مِنَ النَّارِ ، فنَظَروا فإذا هو راعِي مِعْزًى )) [38] أخرجه مسلم (382). .
وقال
النَّوويُّ: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((على الفِطرةِ)) أي: على الإسلامِ، وقولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((خرَجْتَ مِنَ النَّارِ )) أي: بالتَّوحيدِ)
[39] يُنظر: ((شرح مسلم)) (4/ 84). .