الفَصلُ الثَّالِثُ: بدايةُ وُقوعِ الشِّرْكِ في ذُرِّيَّةِ آدَمَ عليه السَّلام
قال اللهُ تعالى:
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [البقرة: 213] .
وقال اللهُ سُبحانَه:
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا [يونس: 19] .
قال
البغوي: (قَولُه تعالى:
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً أي: على الإسلامِ...
فَاخْتَلَفُوا وتَفَرَّقوا إلى مؤمِنٍ وكافِرٍ)
[40] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/126). .
وقال
ابنُ الجوزي: (أحسَنُ الأقوالِ أنَّهم كانوا على ديٍن واحدٍ موحِّدينَ، فاختَلَفوا وعَبَدوا الأصنامَ، فكان أوَّلَ مَن بُعِث إِليهم نوحٌ عليه السَّلامُ)
[41] يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (2/322). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (أخبَرَ تعالى أنَّ هذا الشِّرْكَ حادِثٌ في النَّاسِ، كائِنٌ بعد أن لم يكُنْ، وأنَّ النَّاسَ كُلَّهم كانوا على دينٍ واحدٍ، وهو الإسلامُ)
[42] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/356). .
وقال
الشِّنقيطيُّ: (قَولُه:
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ [الإسراء: 17] يدُلُّ على أنَّ القُرونَ التي كانت بين آدَمَ ونوحٍ أنَّها على الإسلامِ... وهذا المعنى تدُلُّ عليه آياتٌ أُخَرُ، كقَولِه:
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [البقرة: 213] ، وقَولِه:
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا الآية
[يونس: 19] )
[43] يُنظر: ((أضواء البيان)) (3/80). .
وأوَّلُ شِرْكٍ وقَعَ في البشَرِ كان شِرْكَ قومِ نوحٍ عليه السَّلامُ؛ فعن
ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّه قال: (كان بين نوحٍ وآدَمَ عَشرةُ قُرونٍ، كُلُّهم على شريعةٍ مِنَ الحَقِّ، فاختلفوا فبَعَث اللهُ النبيِّين مُبَشِّرين ومُنذِرينَ)
[44] أخرجه الطبري في ((التفسير)) (4048)، والحاكم (4009). صحَّحه الحاكِمُ على شرط البخاريِّ ، والألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (7/854). .
قال اللهُ تعالى عن قومِ نوحٍ:
وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح: 23] .
قال
ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما عن الأسماءِ المذكورةِ في الآيةِ الكريمةِ: (أسماءُ رِجالٍ صالحين من قومِ نوحٍ، فلمَّا هلكوا أوحى
الشَّيطانُ إلى قومِهم أن انْصِبوا إلى مجالِسِهم التي كانوا يجلِسون أنصابًا، وسَمُّوها بأسمائِهم، ففَعَلوا، فلم تُعبَدْ، حتى إذا هَلَك أولئك وتَنَسَّخ العِلمُ عُبِدَت)
[45] أخرجه البخاري (4920). .
قال
ابنُ تيميَّةَ: (المشرِكون الذين وصَفَهم اللهُ ورسولُه بالشِّركِ، أصلُهم صِنفانِ: قومُ نوحٍ، وقومُ إبراهيمَ.
فقومُ نوحٍ كان أصلُ شِرْكِهم العكوفَ على قبورِ الصَّالحين، ثمَّ صَوَّروا تماثيلَهم، ثمَّ عَبَدوهم.
وقومُ إبراهيمَ كان أصلُ شِرْكِهم عبادةَ الكواكِبِ والشَّمسِ والقَمَرِ، وكُلٌّ من هؤلاء وهؤلاء يعبدونَ
الجِنَّ؛ فإنَّ الشَّياطينَ قد تخاطِبُهم وتُعينُهم على أشياءَ، وقد يعتَقِدونَ أنَّهم يعبُدون الملائكةَ وإن كانوا في الحقيقةِ إنَّما يعبدون
الجِنَّ؛ فإنَّ
الجِنَّ هم الذين يُعينونَهم ويَرضَونَ بشِرْكِهم؛ قال تعالى:
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سباء: 40-41])
[46] يُنظر: ((قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة)) (ص: 22). .
وأمَّا قومُ إبراهيمَ الذين عَبَدوا الكواكِبَ والأصنامَ فقد ناظَرَهم إبراهيمُ عليه السَّلامُ في أنَّها لا تستَحِقُّ العبادةَ؛ لكونِها مخلوقةً مُدَبَّرةً.
قال اللهُ تعالى:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام: 74-78] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (بيَّن في المقامِ الأوَّلِ مع أبيه خطَأَهم في عبادةِ الأصنامِ الأرضيَّةِ، التي هي على صورةِ الملائِكةِ السَّماويةِ... وبيَّن في هذا المقامِ خطَأَهم وضلالَهم في عبادِة الهياكِلِ، وهي الكواكِبُ السَّيَّارةُ السَّبعةُ المتحَيِّرةُ، وهي: القَمَرُ، وعطارِدُ، والزهرةُ، والشَّمسُ، والمرِّيخُ، والمشتَرى، وزُحَلُ، وأشدُّهنَّ إضاءةً وأشرَقُهنَّ عِندَهم الشَّمسُ، ثمَّ القَمَرُ، ثمَّ الزهرةُ)
[47] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/292). .
ثمَّ دَخَل الشِّرْكُ إلى العَرَبِ عن طريقِ عَمرِو بنِ لُحَيٍّ الذي قال عنه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
((رَأَيْتُ عَمْرَو بنَ عامِرِ بنِ لُحَيٍّ الخُزاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ [48] أي: أمعاءَه. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (4/67). في النَّارِ، وكانَ أوَّلَ مَن سَيَّبَ السَّوائِبَ [49] السَّائِبةُ: هي النَّاقةُ التي كانت تسَيَّبُ في الجاهليَّةِ لنَذرٍ ونحوِه، فلا تُركَبُ ولا تُمنَعُ من كلأٍ. يُنظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (3/2166). ) [50] أخرجه البخاري (3521) واللفظ له، ومسلم (2856) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
قال
ابنُ كثيرٍ في تفسيرِ قَولِه تعالى:
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 144] : (أوَّلُ من دخل في هذه الآيةِ: عَمرُو بنُ لُحَيِّ بنِ قمعةَ؛ فإنَّه أوَّلُ مَن غَيَّر دينَ الأنبياءِ، وأوَّلُ من سَيَّب السَّوائِبَ، ووَصَل الوصيلةَ، وحَمَى الحامِيَ، كما ثبت ذلك في الصَّحيحِ)
[51] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/352). .
فكان مُشرِكو العَرَبِ يعتَقِدون في أصنامِهم أنَّها تُقَرِّبُهم إلى اللِه تعالى، فاتَّخَذوها شفعاءَ واسِطةً بينهم وبين اللهِ، وهذا يُشبِهُ شِرْكَ قَومِ نوحٍ عليه السَّلامُ.
قال اللهُ تعالى:
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ [الزمر: 3] .
وقال اللهُ سُبحانَه:
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18] .
قال
الشنقيطيُّ: (هذا النَّوعُ مِن ادِّعاءِ الشُّفَعاءِ، واتِّخاذِ المعبوداتِ مِن دونِ اللهِ وَسائِطَ: من أصولِ كُفرِ الكُفَّارِ)
[52] يُنظر: ((أضواء البيان)) (6/353). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (إنَّ المشرِكينَ الذين يَعبُدونَ الأصنامَ يقولون: إنَّها شُفَعاءُ لهم عند اللهِ، وهم يُشرِكون باللهِ سُبحانَه وتعالى فيها بالدُّعاءِ والاستغاثةِ وما أشبَهَ ذلك، وهم بذلك يظنُّون أنَّهم معَظِّمون للهِ، ولكِنَّهم منتَقِصونَ له؛ لأنَّه عليمٌ بكُلِّ شيءٍ، وله الحُكمُ التَّامُّ المطلَقُ والقُدرةُ التَّامَّةُ، فلا يحتاجُ إلى شُفَعاءَ)
[53] يُنظر: ((القول المفيد)) (1/329). .
وأمَّا اعتقادُ تأثيرِ بعضِ الأشياءِ بَخفاءٍ مِمَّا لا يُعلَمُ له سَبَبٌ ظاهِرٌ، فيبدو أنَّ ذلك دخل عليهم من أصلِ الكِلدانيِّينَ الذين يعتَقِدون تأثيرَ الكواكِبِ، وكان هذا هو أصلَ شِرْكِ قومِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، وقد كانت الشَّياطينُ تُزَيِّنُ لهم عبادةَ تلك الكواكِبِ، ولَبَّسَت عليهم بأمورٍ تدعوهم للاعتقادِ فيها، وقد مثَّلوا لها تماثيلَ، فانتَقَل ذلك إلى العَرَبِ؛ فوُجِدَ فيهم الاستِسقاءُ بالأنواءِ، ومن مظاهِرِ اعتِقادِهم تأثيرَ بعضِ الأشياءِ بخفاءٍ: اشتِغالُهم بالكِهانةِ والطِّيَرةِ.
وبهذا يتبيَّنُ أنَّ أصلَ شِركِ العالَمِ هو عبادةُ الأشخاصِ ثمَّ الكواكِبِ، وهذا هو الشِّرْكُ الذي أُرسِلَت الرُّسُلُ لإنكارِه، وليس الشِّرْكُ محصورًا في اعتقادِ وجودِ رَبٍّ آخَرَ لهذا العالَمِ مساوٍ للهِ تعالى، بل هذا النَّوعُ لم يكُنْ معروفًا من قَبلُ في بني آدَمَ
[54] يُنظر: ((منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى)) لخالد عبد اللطيف (1/95-98). .
قال
ابنُ تيميَّةَ: (إنَّ النَّاسَ كانوا بعدَ آدَمَ عليه السَّلامُ، وقَبْلَ نوحٍ عليه السَّلامُ: على التَّوحيدِ والإخلاصِ، كما كان عليه أبوهم آدَمُ أبو البَشَرِ عليه السَّلامُ، حتى ابتَدَعوا الشِّرْكَ وعبادةَ الأوثانِ بِدعةً مِن تِلقاءِ أنفُسِهم، لم يُنزِلِ اللهُ بها كتابًا ولا أرسَلَ بها رسولًا، بشُبُهاتٍ زَيَّنها
الشَّيطانُ من جهةِ المقاييسِ الفاسِدةِ، والفَلسفةِ الحائدةِ؛ قومٌ منهم زَعَموا أنَّ التَّماثيلَ طلاسِمُ الكواكِبِ السَّماويةِ، والدَّرَجاتِ الفَلَكيَّةِ، والأرواحِ العُلويَّةِ.
وقومٌ اتَّخَذوها على صورةِ من كان فيهم من الأنبياءِ والصَّالحينَ.
وقومٌ جَعَلوها لأجْلِ الأرواحِ السُّفْليَّةِ مِنَ
الجِنِّ والشَّياطينِ.
وقومٌ على مذاهِبَ أُخَر. وأكثَرُهم لرؤسائِهم مُقَلِّدون، وعن سَبيلِ الهدى ناكِبون؛ فابتعَثَ اللهُ نبيَّه نوحًا عليه السَّلامُ، يدعوهم إلى عبادةِ اللهِ وَحْدَه لا شريكَ له، وينهاهم عن عبادةِ ما سِواه، وإنْ زَعَموا أنَّهم يَعبُدونَهم ليتقَرَّبوا بهم إلى اللهِ زُلفى، ويتَّخِذوهم شُفَعاءَ)
[55] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (28/603). .