المَبحَثُ الثَّاني: حُكمُ الشِّرْكِ الأصغَرِ
الشِّرْكُ الأصغَرُ محرَّمٌ، بل هو أكبَرُ الكبائِرِ، ويأتي في مرتبةٍ تلي مرتبةَ الشِّرْكِ الأكبَرِ
[313] يُنظر: ((تيسير العزيز الحميد)) لسليمان آل الشيخ (ص: 515)، ((فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الأولى)) (1/341). .
واتَّفَق عُلَماءُ أهلِ السُّنَّةِ على أنَّ مُرتكِبَ الشِّرْكِ الأصغَرِ غيرُ خارجٍ مِن الملَّةِ، وأنَّه لا يُخَلَّدُ في النَّارِ.
قال
السعديُّ: (اعلَمْ أنَّ الشِّرْكَ الأكبَرَ والشِّرْكَ الأصغَرَ يفتَرِقانِ في أحكامٍ كثيرةٍ دَلَّ عليها الكِتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ؛ يفتَرِقانِ في حَدِّهما: أما الشِّرْكُ الأكبَرُ فهو صَرفُ نوعٍ مِن العبادةِ لغيرِ اللهِ تعالى، فكُلُّ ما ثبت في الكتابِ والسُّنَّةِ مِن العباداتِ إذا صَرَف العَبدُ منها شيئًا لغيرِ اللهِ فهو كافِرٌ، أمَّا حَدُّ الشِّرْكِ الأصغَرِ فهو كُلُّ وسيلةٍ يُخشى أن توصِلَ صاحِبَها إلى الشِّرْكِ الأكبَرِ؛ كالحَلِفِ بغيرِ اللهِ، وكالرِّياءِ والسُّمعةِ، وكالغُلُوِّ في المخلوقِ الذي لا يَصِلُ إلى رتبةِ عِبادتِه. فهذا هو أصلُ الفُروقِ بينهما.
الفَرقُ الثَّاني والثَّالِثُ: أنَّ الشِّرْكَ الأكبَرَ محكومٌ على صاحبِه بالكُفرِ والخُروجِ من الإسلامِ، ومحكومٌ عليه أيضًا بالخُلودِ في النَّارِ وتحريمِ دُخولِ الجنَّةِ. أمَّا الشِّرْكُ الأصغَرُ فهو بخِلافِ ذلك في الحُكمينِ؛ فإنَّه لا يُحكَمُ على صاحِبِه بالكُفرِ ولا الخُروجِ مِن الإسلامِ، ولا يُخَلَّدُ في النَّارِ إذا لم يفعَلْ مُكَفِّرًا آخَرَ.
فهذه الأحكامُ الثَّلاثةُ وما يترتَّبُ عليها من التفريعاتِ المبنيَّةِ عليها: لم يختَلِفْ فيها أهلُ العِلمِ؛ لأنُّ نُصوصَ الكِتابِ والسُّنَّةِ فيها كثيرةٌ قاطِعةٌ صَريحةٌ)
[314] يُنظر: ((الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وجهوده في توضيح العقيدة)) لعبد الرزاق العباد (ص: 187). .
وقال
السعديُّ أيضًا: (إنَّه بإجماعِ الأئمَّةِ أنَّ الشِّرْكَ الأصغَرَ لا يَدخُلُ في تلك الآيةِ يعني قَولَه تعالى:
إِنَّهُ مَنْ يُشرِكْ بِاللَّهِ فَقَد حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الجَنَّةَ ومَأوَاهُ النَّارُ [المائدة 72]، وكذلك لا يدخُلُ في قَولِه تعالى:
لَئِنْ أَشرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر 165]؛ لأنَّ العَمَلَ هنا مُفرَدٌ مُضافٌ، ويشمَلُ الأعمالَ كُلَّها، ولا يُحبِطُ الأعمالَ الصَّالِحةَ كُلَّها إلَّا الشِّرْكُ الأكبَرُ)
[315] يُنظر: ((الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وجهوده في توضيح العقيدة)) لعبد الرزاق العباد (ص: 188). .
واختَلَفوا: هل يكونُ تحت المشيئةِ إن لم يَتُبْ، كما هو حالُ أصحابِ الكبائِرِ الآخرينَ؛ لِقَولِه تعالى:
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48]، أو يكونُ تحتَ الوعيدِ، فلا يُغفَرُ له إذا لم يَتُبْ؛ لأنَّه قد أطلَقَ عليه بأنَّه أشرَكَ؟ على قولَينِ:
الأوَّلُ: أنَّه تحتَ المشيئةِ، وهو ظاهِرُ اختيارِ
ابنِ القَيِّمِ [316] يُنظر: ((الجواب الكافي)) (ص: 132)، ((مدارج السالكين)) (1/348). ويُنظر: ((تفسير آيات أشكلت على كثير من الناس)) لابن تيمية (1/361-365). .
الثَّاني: أنَّه تحتَ الوعيدِ، وهو الذي مال إليه بعضُ أهلِ العِلمِ
[317] يُنظر: ((الرد على البكري)) لابن تيمية (1/301)، ((الكواشف الجلية)) لعبد العزيز السلمان (ص: 223). .
قال
ابنُ عثيمين: (
شَيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ المحقِّقُ في هذه المسائِلِ، اختَلَف كلامُه في هذه المسألةِ؛ فمَرَّةً قال: الشِّرْكُ لا يَغفِرُه اللهُ، ولو كان أصغَرَ، ومرَّةً قال: الشِّرْكُ الذي لا يَغفِرُه اللهُ: هو الشِّرْكُ الأكبَرُ. وعلى كلِّ حالٍ فيَجِبُ الحَذَرُ مِن الشِّرْكِ مُطلَقًا؛ لأنَّ العُمومَ يحتَمِلُ أن يكونَ داخِلًا فيه الأصغَرُ؛ لأنَّ قَولَه:
أَنْ يُشْرَكَ بِهِ أنْ وما بعدها في تأويلِ مَصدَرٍ، تقديرُه: إشراكًا به، فهو نكرةٌ في سياقِ النَّفيِ، فتُفيدُ العُمومَ)
[318] يُنظر: ((القول المفيد)) (1/114). .
وهذا الشِّرْكُ يُبطِلُ ثوابَ العَمَلِ، وقد يعاقَبُ عليه إذا كان العَمَلُ واجِبًا؛ فإنَّه يُنزِلُه منزلةَ مَن لم يَعمَلْه، فيعاقَبُ على تَرْكِ امتثالِ الأمرِ، وقد يكونُ وسيلةً وذريعةً تؤدِّي بصاحِبِه إلى الشِّرْكِ الأكبَرِ المُخرِجِ مِن مِلَّةِ الإسلامِ
[319] يُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 132)، ((القول السديد)) للسعدي (ص: 54)، ((الشرك في القديم والحديث)) لأبي بكر زكريا (1/173). .
وقد وردَ التَّحذيرُ مِن الشِّرْكِ في الكِتابِ والسُّنَّةِ. فمِنَ الكِتابِ: 1- قَولُ اللهِ تعالى:
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110] .
فإنَّ عمومَ الآيةِ يَشمَلُ الشِّرْكَ الأكبَرَ والأصغَرَ.
2- قَولُ اللهِ سُبحانَه:
فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 22] .
والآيةُ في الشِّرْكِ الأكبَرِ، إلَّا أنَّ بَعضَ السَّلَفِ؛ ك
ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، كانوا يحتجُّون بها في الأصغَرِ؛ لأنَّ الكُلَّ شِرْكٌ
[320] يُنظر: ((تيسير العزيز الحميد)) لسليمان آل الشيخ (ص: 508). .
فعن
ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما في قَولِه:
فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا قال: (الأندادُ: هو الشِّرْكُ أخفى من دبيبِ النَّملِ على صَفاةٍ سَوداءَ، في ظُلمةِ اللَّيلِ. وهو أن يقولَ: واللهِ، وحياتِكِ يا فُلانةُ، وحياتي. ويقولُ: لولا كَلبةُ هذا لأتانا اللُّصوصُ، ولولا البَطُّ في الدَّارِ لأتى اللُّصوصُ. وقَولُ الرَّجُلِ لصاحِبِه: ما شاء اللهُ وشِئْتَ، وقَولُ الرَّجُلِ: لولا اللهُ وفلانٌ. لا تجعَلْ فيها فلانًا؛ فإنَّ هذا كُلَّه به شِرْكٌ)
[321] أخرجه ابن أبي حاتم في ((التفسير)) (229). حسن إسناده ابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (1/45) .
3- قَولُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ:
وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ [فاطر: 10] .
عن شَهرِ بنِ حَوشَبٍ في قَولِه تعالى:
وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ [فاطر: 10] قال: (هم أصحابُ الرِّياءِ)
[322] أخرجه الطبري في ((التفسير)) (20/446). .
وعن قتادةَ في قَولِه:
وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ [فاطر: 10] قال: (هؤلاء أهلُ الشِّركِ)
[323] أخرجه الطبري في ((التفسير)) (20/446). .
قال
ابنُ كثير: (قَولُه:
وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ: قال مجاهِدٌ، وسَعيدُ بنُ جُبَيرٍ، وشَهرُ بنُ حَوشَبٍ: هم المراؤُون بأعمالِهم، يعني: يَمكُرونَ بالنَّاسِ، يُوهِمون أنَّهم في طاعةِ اللهِ، وهم بُغَضاءُ إلى اللهِ عَزَّ وجلَّ، يُراؤُون بأعمالِهم،
وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء: 142] ، وقال عبدُ الرَّحمنِ بنُ زيدِ بنِ أسلَمَ: هم المُشرِكونَ.
والصَّحيحُ أنَّها عامَّةٌ، والمُشرِكونَ داخِلونَ بطَريقِ الأَولى؛ ولهذا قال:
لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ، أي: يَفسُدُ ويَبطُلُ ويَظهَرُ زَيفُهم عن قَريبٍ لأُولي البصائِرِ والنُّهى؛ فإنَّه ما أسَرَّ عبدٌ سريرةً إلَّا أبداها اللهُ على صَفَحاتِ وَجْهِه وفَلَتاتِ لِسانِه، وما أسَرَّ أحَدٌ سريرةً إلَّا كساه اللهُ رداءَها؛ إنْ خَيرًا فخَيرٌ، وإنْ شَرًّا فشَرٌّ. فالمُرائي لا يَرُوجُ أمْرُه ويستَمِرُّ إلَّا على غَبيٍّ، أمَّا المؤمنونَ المتفَرِّسون فلا يَروجُ ذلك عليهم، بل يُكشَفُ لهم عن قريبٍ، وعالمُ الغَيبِ لا تخفى عليه خافيةٌ)
[324] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/ 537). .
ومن السُّنَّةِ: 1- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((قال اللهُ تبارك وتعالى: أنا أغنى الشُّرَكاءِ عن الشِّرْكِ، من عَمِلَ عمَلًا أشرَكَ فيه معيَ غَيري، ترَكْتُه وشِرْكَه )) [325] أخرجه مسلم (2985). .
2- عن محمودِ بنِ لَبيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ أخوَفَ ما أخافُ عليكم الشِّرْكُ الأصغَرُ ))، قالوا: وما الشِّرْكُ الأصغَرُ يا رَسولَ اللهِ؟ قال:
((الرِّياءُ، يقولُ اللهُ عزَّ وجَلَّ يومَ القيامةِ إذا جُزِيَ النَّاسُ بأعمالِهم: اذْهَبوا إلى الذين كنتُم تُراؤون في الدُّنيا، فانظُروا هل تَجِدونَ عِندَهم جَزاءً )) [326] أخرجه أحمد (23630) واللفظ له، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (6831). صحَّحه ابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (2/29)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (1555)، وحَسَّنه شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (23630)، وحَسَّن إسنادَه ابن حجر في ((بلوغ المرام)) (440)، وجَوَّده المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/52). .
والرِّياءُ أكبَرُ الكبائِرِ بعد الشِّرْكِ الأكبَرِ.
قال
عبدُ اللهِ بنُ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه: (لَأَنْ أحلِفَ باللهِ كاذبًا أحبُّ إليَّ من أن أحلِفَ بغيرِه وأنا صادِقٌ)
[327] أخرجه عبد الرزاق (15929) على الشَّكِّ في راويه، وابن أبي شيبة (12414)، والطبراني (9/205) (8902). صحَّحه الألباني في ((إرواء الغليل)) (2562)، وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/58): رواتُه رواةُ الصَّحيحِ)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/180): رجالُه رجالُ الصحيحِ. .
ووجهُ الاستدلالِ: أنَّ الحَلِفَ باللهِ كاذبًا كبيرةٌ مِن الكبائِرِ، لكِنِ الشِّرْكُ أكبَرُ مِن الكبائِرِ وإن كان أصغَرَ، وإلَّا لَمَا جَعَل
عبدُ اللهِ بنُ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه ارتكابَ تلك الكبيرةِ أهوَنَ مِن الشِّرْكِ الأصغَرِ، ولأنَّ الحَلِفَ باللهِ توحيدٌ، والحَلِفَ بغَيرِه شِرْكٌ، وإن قُدِّر الصِّدقُ في الحَلِفِ بغيرِ اللهِ فحَسَنةُ التَّوحيدِ أعظَمُ مِن حَسَنةِ الصِّدقِ، وسَيِّئةُ الكَذِبِ أسهَلُ مِن سَيِّئةِ الشِّركِ؛ ففيه دليلٌ على أنَّ الشِّرْكَ الأصغَرَ أكبَرُ مِن الكبائِرِ
[328] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (1/81)، ((تيسير العزيز الحميد)) لسليمان آل الشيخ (ص: 515). .