الفَرعُ الثَّاني: من أنواعِ التَّوسُّلِ المَمنوعِ: التَّوسُّلُ إلى اللهِ تعالى بجاهِ فُلانٍ، أو حَقِّه، أو حُرْمتِه، وما أشبَهَ ذلك
التَّوسُّلُ إلى اللهِ تعالى بجاهِ أو بحُرمةِ المتوسَّلِ به ونحوِ ذلك: عَمَلٌ لم يَشرَعْه اللهُ، ولم يُبَلِّغْه رَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا أمَرَ به، ولا حضَّ عليه، ولم يَصِلْ إلينا عن أحدٍ من أصحابِه رَضِيَ اللهُ عنهم.
قال اللهُ تعالى:
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم: 39] .
ومكانتُهم عندَ اللهِ إنَّما تنفَعُهم هم، واللهُ لا يُقاسُ على خَلْقِه؛ فإنَّ رِضاه عن عبدٍ لا يحتاجُ فيه إلى الوسائِطِ، وغَضَبَه عليه لا تنفَعُ فيه الوسائِطُ، وإنَّما يكونُ ذلك في حَقِّ المخلوقِ؛ لِما في قَبولِ الوسائِطِ مِن منافِعَ تعودُ إليهم؛ لكَونِهم شُرَكاءَ لبَعْضِهم في المنافِعِ والأمورِ؛ ولذا فإنَّ الصَّحابةَ عَدَلوا عن
التَّوسُّلِ بالرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعدَ مَوتِه إلى عَمِّه العَبَّاسِ؛ لِيْدعوَ لهم، ولو كان
التَّوسُّلُ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جائزًا بعد مَوتِه، لكان
التَّوسُّلُ به أَولى، وعُدولُهم دليلٌ على أنَّ المستَقِرَّ عِندَهم عدمُ جوازِه، مع أنَّ مكانةَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يبلُغُها أحَدٌ، وإنَّما أُتِيَ من أجاز
التَّوسُّلَ بالمكانةِ والمنزلةِ عندَ اللهِ مِن حيثُ إنَّه قاس اللهَ على خَلْقِه.
قال ابنُ تيميَّةَ: (ليس لأحَدٍ أن يَدِلَّ على اللهِ بَصلاحِ سَلَفِه؛ فإنَّه ليس صلاحُهم مِن عَمَلِه الذي يستَحِقُّ به الجزاءَ، كأهلِ الغارِ الثَّلاثةِ؛ فإنَّهم لم يتوسَّلوا إلى اللهِ بصَلاحِ سَلَفِهم، وإنَّما توسَّلوا إلى اللهِ بأعمالِهم لَمَّا عَلِموا أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى يثيبُ العاملينَ على أعمالِهم، كما قال:
لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ وسعيُ غَيرِه ليس له)
[517] يُنظر: ((الرد على البكري)) (1/84). .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (فإنْ قيلَ: فأيُّ فَرقٍ بين قَولِ الدَّاعي: «بحَقِّ السَّائلينَ عليك»
[518] أخرجه من طُرُقٍ ابنُ ماجَهْ (778)، وأحمد (11156) مطولًا، من حديث أبي سعيد الخُدريٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ. ضَعَّفه ابن بازٍ في ((التُّحفة الكريمة)) (175)، والألبانيُّ في ((ضعيف سُنن ابن ماجهْ)) (778)، وضعَّف إسنادَه البُوصيريُّ في ((إتحاف الخِيَرة المَهَرة)) (2/32)، وشُعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (11156)، وقال ابن تَيميَّة في ((التَّوسُّل والوسيلة)) (ص215): «من رِوايةِ عَطِيَّةَ العَوفيِّ، هو ضَعيفٌ بإجماعِ أهلِ العِلمِ، وقد رُوِيَ من طَريقٍ آخَرَ، وهو ضَعيفٌ أيضًا». والحديث رُوِيَ عن بِلالٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قال: كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ إذا خَرَج إلى الصَّلاةِ قال: ((بِاسمِ اللهِ، آمَنتُ باللهِ، تَوكَّلتُ على اللهِ، لا حَولَ ولا قُوَّةَ إلَّا باللهِ، اللَّهُمَّ بحَقِّ السَّائلين عَلَيكَ، وبحَقِّ مَخرَجي هذا؛ فإنِّي لم أخرُجْه أشَرًا ولا بَطَرًا ولا رِياءً ولا سُمعةً، خَرَجتُ ابتِغاءَ مَرضاتِكَ، واتِّقاءَ سَخَطِكَ، أسألُكَ أن تُعيذَني منَ النَّارِ، وتُدخِلَني الجَنَّةَ)) أخرجه ابن السُّنِّيِّ في ((عمل اليوم والليلة)) (84). ضعَّفه جدًّا الألبانيُّ في ((سلسلة الأحاديث الضَّعيفة)) (6252)، وضعَّفَه النَّوويُّ في ((الأذكار)) (45)، وقال ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/267): «واهٍ جدًّا». وبين قَولِه: «بحَقِّ نَبيِّك» أو نحوَ ذلك؟ فالجوابُ: أنَّ معنى قَولِه: بحَقِّ السَّائلينَ عليك: أنَّك وعَدْتَ السَّائلينَ بالإجابةِ، وأنا من جملةِ السَّائلين؛ فأَجِبْ دُعائي، بخِلافِ قَولِه: بحَقِّ فلانٍ؛ فإنَّ فُلانًا وإن كان له حَقٌّ على اللهِ بوَعْدِه الصَّادِقِ، فلا مناسبةَ بين ذلك وبين إجابةِ دُعاءِ هذا السَّائِلِ، فكأنَّه يقولُ: لكَونِ فلانٍ من عبادِك الصَّالحينَ أجِبْ دُعائي! وأيُّ مُناسبةٍ في هذا وأيُّ مُلازمةٍ؟ وإنَّما هذا من الاعتداءِ في الدُّعاءِ، وقد قال تعالى:
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف: 55] وهذا ونحوُه من الأدعيةِ المبتَدَعةِ ... والدُّعاءُ مِن أفضَلِ العباداتِ، والعباداتُ مبناها على السُّنَّةِ والاتِّباعِ، لا على الهوى والابتِداعِ)
[519] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (1/296). .
وسُئِلَ سُلَيمانُ بنُ عبدِ اللهِ آل الشَّيخ: هل يجوزُ
التوسُّلُ بجاه النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو غيرِه من الأنبياءِ والمرسَلين والصَّالحين في الدُّعاءِ؟
فأجاب: (
التوسُّلُ المشروعُ الذي جاء به الكِتابُ والسُّنَّةُ، هو:
التوسُّلُ إلى اللهِ سُبحانه وتعالى بالأعمالِ الصَّالحاتِ، والأسماءِ والصِّفاتِ اللَّائقةِ بجَلالِ رَبِّ البَرِيَّات... وكذلك
التوسُّلُ إلى اللهِ بدُعاءِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وشفاعتِه في حياتِه، وبدُعاءِ غيرِه من الأنبياءِ والصَّالحين في حياتِهم، فهذا كُلُّه مُستحَبٌّ...
وأمَّا
التوسُّلُ بجاهِ المخلوقين، كمن يقولُ: اللهُمَّ إني أسألُك بجاهِ نبيِّك محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ونحوِ ذلك، فهذا لم يُنقَلْ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأكثَرُ العُلَماءِ على النَّهيِ عنه، وحكى
ابنُ القَيِّمِ رحمه اللهُ تعالى أنَّه بدعةٌ إجماعًا... وأمَّا
التوسُّلُ بذواتِه، مع عَدَمِ
التوَسُّلِ بالإيمانِ والطاعةِ، فلا يكونُ وسيلةً، ولأنَّ المتوَسِّلَ بالمخلوقِ إن لم يتوسَّلْ بما يحصُلُ من المتوسَّلِ به من الدُّعاءِ للمُتَوَسِّلِ أو بمحَبَّتِه واتِّباعِه، فبأيِّ شَيءٍ يتوسَّلُ؟!...
واعلَمْ أنَّ
التوسُّلَ بذاتِ المخلوقِ أو بجاهِه غيرُ سؤالِه ودُعائِه؛ ف
التوسُّلُ بذاتِه أو بجاهِه أن يقولَ: اللَّهُمَّ اغفِرْ لي، وارحَمْني، وأدخِلْني الجنَّةَ بنبيِّك محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو بجاهِ نبيِّك محمَّدٍ، ونحوِ ذلك، فهذا بِدعةٌ ليس بشِركٍ.
وسؤالُه ودعاؤه، هو أن يقولَ: يا رسولَ اللهِ أسألُك الشَّفاعةَ، أو أنا في كَربٍ شديدٍ فَرِّجْ عني، أو استجَرْتُ بك من فُلانٍ فأَجِرْني، ونحو ذلك، فهذا كُفرٌ وشِركٌ أكبَرُ ينقُلُ صاحِبَه عن المِلَّةِ؛ لأنَّه صَرَفَ حقَّ اللهِ لغَيرِه؛ لأنَّ الدُّعاءَ عِبادةٌ لا يَصلُحُ إلا للهِ، فمن دعاه فقد عَبَده، ومن عَبَد غيرَ اللهِ فقد أشرك، والأدِلَّةُ على هذا أكثَرُ من أن تُحصَرَ.
وكثيرٌ مِن النَّاسِ لا يميِّزُ ولا يُفَرِّقُ بين
التوسُّلِ بالمخلوقِ أو بجاهِه، وبين دُعائِه وسُؤالِه؛ فافهم ذلك، وفَّقَنا اللهُ وإيَّاك لسُلوكِ أحسَنِ المسالِكِ)
[520] يُنظر: ((الدرر السنية)) (2/160-166). .