الفَرعُ الثَّالِثُ: من أنواعِ التَّوسُّلِ الممنوعِ: الإقسامُ على اللهِ جَلَّ وعلا بالمُتوسَّلِ به
الأصلُ في القَسَمِ أو الحَلِفِ: أن يكونَ باللهِ تعالى وَحْدَه؛ لأنَّه عبادةٌ، والعبادةُ لا يجوزُ أن تُصرَفَ لغَيرِ اللهِ تعالى.
فعَن سَعدِ بنِ عُبيدَةَ، قال: سمِعَ
ابنُ عُمرَ رجُلًا يَحلِفُ: لا والكَعبةِ، فقال له
ابنُ عُمرَ: إنِّي سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ:
((مَن حلَفَ بغيرِ اللهِ فقدْ أشرَكَ)) [521] أخرجه أبو داود (3251) واللَّفظُ له، والترمذي (1535)، وأحمد (6072). صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (4358)، والحاكِمُ على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (7814)، وابن تيمية كما في ((المستدرك على مجموع الفتاوى)) لابن قاسم (1/28)، وابن القيم في ((الوابل الصيب)) (189). .
وعن
عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: أنَّه أدْرَكَ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ في رَكْبٍ وهو يَحلِفُ بأبِيه، فنَاداهُم رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ألَا إنَّ اللَّهَ يَنْهاكُم أنْ تَحلِفوا بآبائِكُم؛ فمَن كان حالِفًا فلْيَحْلِفْ باللَّهِ، وإلَّا فلْيَصْمُتْ )) [522] أخرجه البخاري (6108) واللَّفظُ له، ومسلم (1646). .
وقدْ نَهَى الشرعُ عن ذلك؛ لأنَّه ذَريعةٌ إلى الشِّركِ الأكبرِ، ووَسِيلةٌ للوُقوعِ فيهِ، والشِّركُ الأصغرُ لا يُخرجُ مَن وقعَ فيهِ مِن مِلَّةِ الإسلامِ، ولكنَّه مِن أكبرِ الكبائرِ بَعدَ الشِّركِ الأكبرِ؛ ولذا قالَ
عبدُ اللهِ بنُ مَسعودٍ رضيَ اللهُ عنه: (لأنْ أحلِفَ باللهِ كاذِبًا أحَبُّ إليَّ من أن أحلِفَ بغَيرِه وأنا صادِقٌ
[523] أخرجه عبد الرزاق (15929) على الشَّكِّ في راويه، وابن أبي شيبة (12414)، والطبراني (9/205) (8902). صحَّحه الألباني في ((إرواء الغليل)) (2562)، وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/58): رواتُه رواةُ الصَّحيحِ)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/180): رجالُه رجالُ الصحيحِ. [524] يُنظر: ((زاد العباد)) (ص: 88). .
وقد يتأثَّرُ المخلوقُ إذا أقسَمْتَ عليه بعظيمٍ أو مُكَرَّمٍ لَدَيه، فيتحَوَّلُ عن عَزْمِه الذي كان عازمًا على فِعْلِه إلى مرادِك الذي أقسَمْتَ عليه بأن يلتَزِمَ به، أمَّا اللهُ سُبحانَه فلا أحَدَ يستطيعُ أن يحَوِّلَ مُرادَه أو يؤثِّرَ عليه، تعالى اللهُ عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا، وهو القائِلُ:
وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ [المؤمنون: 88] .
أي: هو الَّذي يَمنَعُ مَن يَشاءُ مِن عِبادِه ممَّن يُرِيدُ به السُّوءَ والضُرَّ، ولا يَقدِرُ أحدٌ أنْ يَمنَعَ السُّوءَ والضُّرَّ عن أحَدٍ إذا شاء اللهُ به ذلك، إنْ كنتُم تَعلمونَ عظَمةَ اللهِ، وأنَّه قادِرٌ على كلِّ شَيءٍ، وبِيَدِه مَلكوتُ كُلِّ شَيءٍ
[525] يُنظر: ((التفسير المحرر - سورة المؤمنون)) (ص: 662). .
قال ابنُ أبي العِزِّ: (... إن كان مرادُه الإقسامَ على اللهِ، فذلك محذورٌ أيضًا؛ لأنَّ الإقسامَ بالمخلوقِ على المخلوقِ لا يجوزُ، فكيف على الخالِقِ؟! وقد قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مَن حَلَف بغيرِ اللهِ فقد أشرَكَ)) [526] أخرجه أبو داود (3251) واللَّفظُ له، والترمذي (1535)، وأحمد (6072). صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (4358)، والحاكِمُ على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (7814)، وابن تيمية كما في ((المستدرك على مجموع الفتاوى)) لابن قاسم (1/28)، وابن القيم في ((الوابل الصيب)) (189). ؛ ولهذا قال
أبو حنيفةَ وصاحِباه رَضِيَ اللهُ عنهم: يُكرَهُ أن يقولَ الدَّاعي: أسألُك بحَقِّ فُلانٍ، أو بحَقِّ أنبيائِك ورُسُلِك، وبحَقِّ البيتِ الحرامِ، والمشعَرِ الحرامِ، ونحوِ ذلك، حتى كَرِهَ
أبو حنيفةَ و
محمَّدٌ رَضِيَ اللهُ عنهما أن يقولَ الرَّجُلُ: اللهُمَّ إنِّي أسألُك بمَعقدِ العِزِّ مِن عَرْشِك، ولم يكرَهْه
أبو يوسُفَ رحمه اللهُ؛ لَمَّا بلَغَه الأثرُ فيه. وتارةً يقولُ: بجاهِ فُلانٍ عِندَك، يقول: نتوسَّلُ إليك بأنبيائِك ورُسُلِك وأوليائِك. ومرادُه أنَّ فُلانًا عِندَك ذو وَجاهةٍ وشَرَفٍ ومَنزِلةٍ؛ فأجِبْ دُعاءَنا. وهذا أيضًا محذورٌ؛ فإنَّه لو كان هذا هو
التَّوسُّلَ الذي كان الصَّحابةُ يَفعَلونَه في حياةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لفَعَلوه بعدَ مَوتِه، وإنَّما كانوا يتوسَّلون في حياتِه بدُعائِه، يَطلُبونَ منه أن يدعوَ لهم، وهم يؤمِّنونَ على دعائِه، كما في الاستِسقاءِ وغَيرِه، فلَمَّا مات صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه لَمَّا خَرَجوا يَسْتَسقون: اللهُمَّ إنَّا كُنَّا إذا أجدَبْنا نتوسَّلُ إليك بنبيِّنا فتَسقينا، وإنَّا نتوسَّلُ إليك بعَمِّ نبيِّنا. معناه: بدُعائِه هو رَبَّه وشفاعتِه وسُؤالِه، ليس المرادُ أنَّا نُقسِمُ عليك به، أو نسألُك بجاهِه عِندَك؛ إذ لو كان ذلك مرادًا، لكان جاهُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعظَمَ وأعظَمَ مِن جاهِ العبَّاسِ)
[527] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (1/297). .
وقال
أبو الحَسَنِ القدوريُّ: (قال بِشرُ بنُ الوليدِ: سَمِعتُ
أبا يوسُفَ يقولُ: قال
أبو حنيفةَ: «لا ينبغي لأحَدٍ أن يدعوَ اللهَ إلَّا به، وأكرَهُ أن يقولَ: أسألُك بمعاقِدِ العِزِّ مِن عَرْشِك. وأن يقولَ: بحَقِّ فُلانٍ، وبحَقِّ أنبيائِك ورُسُلِك، وبحَقِّ البيتِ الحرامِ» قال أبو الحَسَنِ: أمَّا المسألةُ بغيرِ اللهِ فمُنكَرةٌ؛ لأنَّه لا حَقَّ لغيرِ اللهِ عليه، وإنَّما الحَقُّ له على خَلْقِه)
[528] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/390)، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (1/297)، ((الدر المختار وحاشية ابن عابدين)) (6/395-397). ويُنظر: ((التوسل أنواعه وأحكامه)) للألباني (ص: 43)، ((التوصل إلى حقيقة التوسل المشروع والممنوع)) لمحمد نسيب الرفاعي (ص: 185)، ((المدخل إلى دراسة العقيدة الإسلامية)) لإبراهيم البريكان (ص: 167). .
قال
ابنُ تيميَّةَ: (الذي قاله
أبو حنيفةَ وأصحابُه وغيرُهم من العُلَماءِ مِن أنَّه لا يجوزُ أن يُسألَ اللهُ تعالى بمخلوقٍ؛ لا بحَقِّ الأنبياءِ ولا غيرِ ذلك: يتضَمَّنُ شيئينِ، كما تقَدَّم:
أحَدُهما: الإقسامُ على اللهِ سُبحانَه وتعالى به، وهذا مَنهيٌّ عنه عند جماهيرِ العُلَماءِ، كما تقَدَّمَ، كما يُنهى أن يُقسَمَ على اللهِ بالكَعْبةِ والمشاعِرِ، باتِّفاقِ العُلَماءِ.
والثَّاني: السُّؤالُ به، فهذا يجَوِّزُه طائفةٌ مِنَ النَّاسِ، ونُقِل في ذلك آثارٌ عن بعضِ السَّلَفِ، وهو موجودٌ في دُعاءِ كثيرٍ مِن النَّاسِ، لكِنْ ما رُوِيَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ذلك كُلُّه ضعيفٌ بل موضوعٌ، وليس عنه حديثٌ ثابتٌ قد يُظَنُّ أنَّ لهم فيه حُجَّةً، إلَّا حديثُ الأَعمى الذي عَلَّمَه أن يقولَ:
((أسألُك وأتوجَّهُ إليك بنبيِّك محمَّدٍ؛ نَبيِّ الرَّحمةِ )) [529] أخرجه الترمذي (3578)، وابن ماجه (1385)، وأحمد (17240) من حديثِ عثمانَ بنِ حنيفٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صححه الترمذي، والحاكِمُ على شرطِ الشَّيخَينِ في ((المستدرك)) (1180)، وابنُ تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (1/323). . وحديثُ الأعمى لا حُجَّةَ لهم فيه؛ فإنَّه صريحٌ في أنَّه إنَّما توسَّل بدُعاءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وشفاعتِه، وهو طَلَبَ من النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الدُّعاءَ، وقد أمَرَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يقولَ:
((اللهُمَّ شَفِّعْه فيَّ))؛ ولهذا رَدَّ اللهُ عليه بَصَرَه لَمَّا دعا له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكان ذلك مِمَّا يُعَدُّ مِن آياتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولو توسَّلَ غَيرُه من العُميانِ الذين لم يَدْعُ لهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالسُّؤالِ به، لم تكُنْ حالُهم كحالِه)
[530] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (1/222). .
وقال
الألبانيُّ: (قال
الزبيديُّ في شرح الإحياء: «كَرِهَ
أبو حنيفةَ وصاحباه أن يقولَ الرَّجُلُ: أسألُك بحَقِّ فُلانٍ، أو بحَقِّ أنبيائِك ورُسُلِك، أو بحَقِّ البَيتِ الحرامِ والمشعَرِ الحرامِ، ونحوِ ذلك؛ إذ ليس لأحَدٍ على اللهِ حَقٌّ، وكذلك كَرِه
أبو حنيفةَ و
محمَّدٌ أن يقولَ الدَّاعي: اللهُمَّ إنِّي أسألُك بمعاقِدِ العِزِّ مِن عَرشِك، وأجازه
أبو يوسُفَ لَمَّا بلَغَه الأثَرُ فيه».
أقولُ: لكِنَّ الأثرَ المشارَ إليه باطِلٌ لا يَصِحُّ، أخرجه
ابنُ الجوزيِّ في «الموضوعاتِ»، وقال: هذا حديثٌ موضوعٌ بلا شَكٍّ. وأقَرَّه الحافِظُ الزَّيلعيُّ في «نَصْبِ الرَّاية»؛ فلا يُحتَجُّ به، وإن كان قَولُ القائِلِ: أسألُك بمعاقِدِ العِزِّ مِن عَرشِك، يعودُ إلى
التَّوسُّلِ بصِفةٍ مِن صفاتِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، فهو توسُّلٌ مشروعٌ بأدِلَّةٍ أُخرى كما سبق، تُغني عن هذا الحديثِ الموضوعِ. قال
ابنُ الأثيرِ رحمه الله: «أسألُك بمعاقِدِ العِزِّ مِن عَرْشِك، أي: بالخِصالِ التي استحَقَّ بها العَرشُ العِزَّ، أو بمواضِعِ انعِقادِها منه، وحقيقةُ معناه: بعِزِّ عَرْشِك. وأصحابُ
أبي حنيفةَ يَكرَهونَ هذا اللَّفظَ مِن الدُّعاءِ».
فعلى الوَجهِ الأوَّلِ مِن هذا الشَّرحِ، وهو الخِصالُ التي استحَقَّ بها العَرشُ العِزَّ، يكونُ توسُّلًا بصفةٍ مِن صفاتِ اللهِ تعالى؛ فيكون جائزًا، وأمَّا على الوَجهِ الثَّاني الذي هو مواضِعُ انعِقادِ العِزِّ مِن العَرشِ، فهو توسُّلٌ بمخلوقٍ؛ فيكونُ غيرَ جائزٍ، وعلى كلٍّ فالحديثُ لا يَستَحِقُّ زيادةً في البَحثِ والتأويلِ؛ لعَدَمِ ثُبوتِه)
[531] يُنظر: ((التوسل أنواعه وأحكامه)) (ص: 47). .