الفَصلُ الرَّابعُ: الغُلُوُّ في الصَّالحين
قال اللهُ تعالى:
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء: 171] .
أي: يا أهلَ الإنجيلِ مِن النَّصارى لا تتَجاوزوا الحقَّ في دِينكم فتُفْرِطُوا فيه؛ فإنَّهم قد تجاوزوا حدَّ التصديقِ بعيسى عليه السَّلامُ، حتى رفَعوه عن مقامِ النبوَّةِ والرِّسالةِ إلى مقامِ الرُّبوبيَّةِ، الذي لا يَليقُ بغيرِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فلا تَفتَروا على اللهِ عزَّ وجلَّ بأنْ تَجعلوا له صاحبةً وولدًا؛ فليس المسيحُ -أيُّها النصارى الغالُون في دِينهم- ابنًا للهِ تعالى، كما تَزْعُمون، ولكنَّه عيسى ابنُ مريمَ، لا نَسبَ له غيرُ ذلك، فهو عبدٌ من عبادِ اللهِ تعالى، وخَلْقٌ من خلْقِه، ورسولٌ من رُسُلِه، قد خَلَقه بالكَلِمةِ التي أُرسِلَ بها
جبريلُ عليه السَّلامُ إلى مريمَ عليها السَّلامُ، والذي نَفَخ في فَرْجِها، فحمَلتْ بإذن اللهِ عزَّ وجلَّ
[816] يُنظر: ((التفسير المحرر - سورة النساء)) (ص: 773). .
وقال اللهُ سُبحانَه:
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة: 77] .
أي: قلْ -يا محمَّدُ- لهؤلاءِ النَّصارى الذين آتاهُم اللهُ تعالى كتابًا ينطِقُ بالحقِّ: لا تُفْرِطوا فيما تَدينون به مِنَ الحقِّ في أمْرِ المسيحِ عليه السَّلامُ، ولا تُطْرُوا هذا الذي أُمِرتُم بتعظيمِه فتُبالِغوا في شأنِه، وتَتعَدَّوْا فيه الحَقَّ إلى الباطِلِ، فتُخرِجوه عن حيِّزِ النبوَّةِ إلى مقامِ الأُلوهيَّةِ.
ولا تَنقادُوا للأهواءِ المخالِفةِ للحقِّ الصَّادرةِ مِن أكابرِكم ورُهبانِكم الجَهَلةِ الذين كانوا مِن قَبْلِكم، وقد ابتَدعوا بِدَعًا بدَّلوا بها شَرْعَ المسيحِ عليه السَّلامُ، فحادوا عن طريقِ الهُدى، وصَرَفوا عنه كثيرًا من النَّاسِ، وانحرَفوا عنِ الصِّراطِ المستقيمِ المعتَدِلِ، الذي ليس فيه غلوٌّ ولا تفريطٌ
[817] يُنظر: ((التفسير المحرر - سورة المائدة)) (ص: 395). .
وقد حَذَّر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَّتَه مِن الغُلُوِّ على وَجهِ العُمومِ؛ فعن
ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إيَّاكم والغُلُوَّ في الدِّينِ؛ فإنَّما أهلَكَ من كان قَبْلَكم الغُلُوُّ في الدِّينِ )) [818] أخرجه النسائي (3057) واللَّفظُ له، وابن ماجه (3029)، وأحمد (1851). صَحَّحه ابنُ حِبَّان في ((صحيحه)) (3871)، وابن عبد البر في ((التمهيد)) (24/428)، وابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/327). .
والغُلُوُّ في الصَّالحينَ هو أوَّلُ سَبَبٍ أوقَعَ بني آدَمَ في الشِّرْكِ الأكبَرِ.
قال اللهُ تعالى عن قَومِ نُوحٍ:
وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح: 23] .
قال
ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما عن الأسماءِ المذكورةِ في الآيةِ الكريمةِ: (أسماءُ رِجالٍ صالحينَ مِن قَومِ نُوحٍ، فلَمَّا هَلَكوا أوحى
الشَّيطانُ إلى قَومِهم أن انصِبوا إلى مجالِسِهم التي كانوا يجلِسون أنصابًا وسَمُّوها بأسمائِهم ففَعَلوا، فلم تُعبَدْ، حتى إذا هَلَك أولئك وتَنَسَّخَ العِلمُ، عُبِدَت)
[819] أخرجه البخاري (4920). .
قال
ابنُ تيميَّةَ: (وأنا أُشيرُ إلى بَعضِ أُمورِ أهلِ الكِتابِ والأعاجمِ، التي ابتُلِيت بها هذه الأُمَّةُ؛ ليَجتَنِبَ المسلِمُ الحنيفُ الانحرافَ عن الصِّراطِ المستقيمِ إلى صراطِ المغضوبِ عليهم، أو الضَّالِّينَ... قال سُبحانَه عن النَّصارى:
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ [النساء: 171] ، وقال تعالى:
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة: 17] ، ثمَّ إنَّ الغُلُوَّ في الأنبياءِ والصَّالحين قد وقَعَ فيه طوائِفُ مِن ضُلَّالِ المتعَبِّدةِ والمتصَوِّفةِ، حتى خالط كثيرٌ منهم من مذهَبِ الحُلولِ والاتِّحادِ ما هو أقبَحُ مِن قَولِ النَّصارى أو مِثْلُه أو دُونَه)
[820] يُنظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/83-89). .
وقال
الذَّهبيُّ مُستنكِرًا عَمَلَ بَعضِ الجَهَلةِ عندَ قَبرِ نفيسةِ بنتِ الحَسَنِ: (ولجهَلةِ المِصريِّين فيها اعتقادٌ يتجاوَزُ الوَصفَ، ولا يجوزُ، ممَّا فيه من الشِّركِ، ويَسجُدون لها، ويلتَمِسون منها المغفرةَ، وكان ذلك من دسائِسِ دُعاةِ العُبَيديَّةِ)
[821] يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) (10/106). .
وقال
ابنُ كثيرٍ عنها: (بالَغَ العامَّةُ في أمْرِها كثيرًا جِدًّا، ويُطلِقون فيها عباراتٍ بَشِعةً فيها مجازفةٌ تؤدِّي إلى الكُفرِ والشِّركِ، وألفاظًا كثيرةً ينبغي أن يَعرِفوا بأنَّها لا يجوزُ إطلاقُها في مِثلِ أمْرِها... والذي ينبغي أن يُعتَقَدَ فيها من الصَّلاحِ ما يليقُ بأمثالها من النِّساءِ الصَّالحاتِ، وأصلُ عبادةِ الأصنامِ مِن المغالاةِ في القُبورِ وأصحابِها، وقد أمَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بتسويةِ القُبورِ وطَمْسِها)
[822] يُنظر: ((البداية والنهاية)) (14/ 171). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (من أسبابِ عِبادةِ الأصنامِ: الغُلُوُّ في المخلوقِ، وإعطاؤُه فوقَ مَنزِلتِه، حتى جُعِلَ فيه حَظٌّ من الإلهيَّةِ، وشبَّهوه باللهِ سُبحانَه وتعالى، وهذا هو التشبيهُ الواقعُ في الأُمَمِ، الذي أبطله اللهُ سُبحانَه، وبعثَ رُسُلَه وأنزل كُتُبَه بإنكارِه والرَّدِّ على أهلِه، فهو سُبحانَه يَنْفي وينهى أن يُجعَلَ غيرُه مِثْلًا له، ونِدًّا له، وشِبْهًا له، لا أن يُشَبَّه هو بغيرِه؛ إذ ليس في الأُمَمِ المعروفةِ أمَّةٌ جعَلَتْه سُبحانَه مِثلًا لشَيءٍ من مخلوقاتِه، فجَعَلت المخلوقَ أصلًا، وشَبَّهتْ به الخالِقَ، فهذا لا يُعرفُ في طائفةٍ من طائفةِ بني آدَمَ، وإنَّما الأوَّلُ هو المعروفُ في طوائِفِ أهلِ الشِّركِ، غُلوًّا فيمن يُعظِّمونه ويحبُّونه، حتى شبَّهوه بالخالِقِ، وأعطَوه خصائِصَ الإلهيَّةِ، بل صرَّحوا أنَّه إلهٌ، وأنكروا جَعْلَ الآلهةِ إلهًا واحِدًا، وقالوا:
وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ [ص: 6] ، وصَرَّحوا بأنَّه إلهٌ معبودٌ، يُرجَى ويُخافُ، ويُعظَّمُ ويُسجَدُ له، ويُحلَفُ باسمِه، وتُقرَّبُ إليه القرابينُ، إلى غيرِ ذلك من خصائِصِ العِبادةِ التي لا تنبغي إلَّا للهِ تعالى)
[823] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) (2/978). .
وقال صُنعُ الله الحلبي الحنفي عن الغُلاةِ في الصَّالحين: (أمَّا قَولُهم: إنَّ للأولياءِ تصَرُّفاتٍ في حياتِهم وبعد المماتِ، فيرُدُّه قَولُه جَلَّ ذِكْرُه:
أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ،
أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ،
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وما هو نحوُه من الآياتِ الدَّالَّةِ على أنَّه المنفَرِدُ بالخَلْقِ والتصَرُّفِ والتقديرِ، ولا شَرِكةَ لغيرِه في شيءٍ ما بوجهٍ مِن الوجوهِ، فالكُلُّ تحت مُلكِه وقَهْرِه؛ تصَرُّفًا ومِلكًا وإحياءً وإماتةً وخَلقًا، وعلى ذلك اندرج الأوَّلون ومن بَعْدَهم، وأجمع عليه المسلمون ومن تَبِعَهم، وفاهوا به كما فاهوا بقَولِهم: لا إلهَ إلَّا اللهُ... فهل يَشُكُّ لبيبٌ في أنَّ من وَصَف غيرَه تعالى في تصَرُّفٍ أو تدبيرٍ أو إمدادٍ في أمرٍ مُستَقِلًّا به، ماذا عليه من الفِريةِ على رَبِّه؟!... إنَّ هذا من السَّفاهةِ لَقولٌ وَخيمٌ، وشِركٌ عظيمٌ)
[824] يُنظر: ((سيف الله على من كذب على أولياء الله)) (ص: 37-39). .
وقال
محمَّدُ بنُ عبدِ الوَهَّاب: (إنَّ المنتَسِبَ إلى الإسلامِ أو السُّنَّةِ قد يَمرُقُ أيضًا من الإسلامِ في هذه الأزمانِ، وذلك بأسبابٍ؛ منها: الغُلُوُّ الذي ذَمَّه اللهُ في كتابه؛ حيث يقولُ:
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [المائدة: 77] ، الآية. وعليُّ بنُ أبي طالبٍ حَرَّق الغاليةَ مِن الرافضةِ، فأمر بأخاديدَ خُدَّت لهم عند باب كِندةَ، فقذفهم فيها. واتَّفَق الصَّحابةُ على قَتْلِهم... وكذلك الغُلُوُّ في بعضِ المشايخِ، بل الغُلُوُّ في عليِّ بنِ أبي طالبٍ، بل الغُلُوُّ في المسيحِ ونَحْوِه، فكُلُّ من غلا في نبيٍّ أو رجلٍ صالحٍ، وجَعَل فيه نوعًا من الإلهيَّةِ، مِثلُ أن يقولَ: يا سَيِّدي فلان انصُرني، أو أغِثْني، أو ارزُقْني، أو اجبُرْني، أو أنا في حَسْبِك، ونحوَ هذه الأقوالِ. فكُلُّ هذا شِركٌ وضَلالٌ، يُستتابُ صاحِبُه، فإن تاب وإلَّا قُتِل)
[825] يُنظر: ((مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد)) (مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الجزء الأول) (ص: 291). .
وجاء في كتاب
((التوضيح عن توحيد الخَلَّاق)): (أمَّا تعظيمُ القُبورِ بمعنى احترامِها، فإن كانت للمسلمينَ فواجِبٌ، لا يجوزُ بَولٌ ولا تغَوُّطٌ ولا جلوسٌ ووَطْءٌ عليها... وأمَّا تعظيمُها بمعنى عبادتِها، فهو أكَبُر الكبائِرِ عند الخاصِّ والعامِّ، وأصلُ فِتنةِ عُبَّادِ الأصنامِ، كما قاله السَّلَفُ من الصَّحابةِ والتَّابعين والأئمَّة المجتهدين الذين في قلوبِهم وقارٌ لله،ِ فيَغضَبونَ لأجْلِه، ويغارُونَ على توحيدِه، ويُقبِّحون الشِّرْكَ وأهْلَه، ويجاهِدونَ أعداءَ اللهِ منِ أَجْلِه، ولكِنْ من خالفَهم فما الحِيلةُ؟! ما لجُرحٍ بمَيِّتٍ إيلامُ، ولا لِمن خالف هؤلاءِ احترامٌ، وإنَّ مَنشَأَ هذه الفتنةِ في الإسلامِ الفِتنةُ في القبورِ، حتى آل الأمرُ فيها إلى أنْ عُبِدَ أربابُها من دونِ اللهِ، وعُبِدَت قُبورُهم، واتُّخِذَت أوثانًا، وبُنِيَت عليها الهياكِلُ، فصارت تُدعَى وتُرجى وتُخشى، وكان أوَّلُ هذا الدَّاءِ العَظيمِ في قَومِ نوحٍ)
[826] يُنظر: (ص: 208). .
وقال
محمودٌ الألوسي: (في قَولِه تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا إلخ: إشارةٌ إلى ذَمِّ الغالين في أولياءِ اللهِ تعالى؛ حيث يستغيثون بهم في الشِّدَّةِ غافِلين عن اللهِ تعالى، ويَنذِرونَ لهم النُّذورَ، والعُقَلاءُ منهم يقولون: إنَّهم وسائِلُنا إلى اللهِ تعالى، وإنَّما نَنذِرُ لله عَزَّ وجلَ، ونجعَلُ ثوابَه للوَليِّ، ولا يخفى أنَّهم في دعواهم الأُولى أشبَهُ النَّاسِ بعَبَدةِ الأصنامِ القائلين: إنَّما نَعبُدُهم ليُقَرِّبونا إلى اللهِ زُلفى، ودعواهم الثَّانيةُ لا بأسَ بها لو لم يَطلُبوا منهم ذلك؛ شفاءَ مريضِهم، أو رَدَّ غائبِهم أو نحوَ ذلك، والظَّاهِرُ مِن حالِهم الطَّلَبُ، ويُرشِدُ إلى ذلك أنَّه لو قيل: انذِروا لله تعالى واجعَلوا ثوابَه لوالِدِيكم؛ فإنَّهم أحوَجُ مِن أولئك الأولياءِ، لم يفعلوا! ورأيتُ كثيرًا منهم يسجُدُ على أعتابِ حَجَرِ قبورِ الأولياءِ، ومنهم من يُثبِتُ التصَرُّفَ لهم جميعًا في قُبورِهم، لكِنَّهم متفاوتون فيه حَسَبَ تفاوُتِ مراتِبِهم، والعُلَماءُ منهم يَحصُرونَ التصَرُّفَ في القبورِ في أربعةٍ أو خمسةٍ، وإذا طُولبوا بالدَّليلِ قالوا: ثَبَت ذلك بالكَشْفِ! قاتَلَهم اللهُ تعالى! ما أجهَلَهم وأكثَرَ افترائِهم! ومنهم من يزعُمُ أنَّهم يخرُجونَ منِ القُبورِ، ويتشَكَّلون بأشكالٍ مختَلِفةٍ، وعلماؤهم يقولون: إنما تظهَرُ أرواحُهم مُتشَكِّلةً، وتطوفُ حيث شاءت، وربما تشَكَّلَت بصورةِ أسَدٍ أو غزالٍ أو نحوِه! وكُلُّ ذلك باطِلٌ لا أصْلَ له في الكِتابِ والسُّنَّةِ وكلامِ سَلَفِ الأمَّةِ، وقد أفسد هؤلاء على النَّاسِ دينَهم، وصاروا ضُحْكةً لأهلِ الأديانِ المنسوخةِ مِن اليَهودِ والنَّصارى، وكذا لأهلِ النِّحَلِ والدَّهْريَّةِ. نسألُ اللهَ تعالى العَفْوَ والعافيةَ)
[827] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (9/202). .
وقال شكري الألوسيُّ: (الغُلوُّ في المخلوقِ أعظَمُ سَبَبٍ لعبادةِ الأصنامِ والصَّالحين، كما كان في قومِ نوحٍ مِن عبادةِ نَسْرٍ وسُواعٍ ويَغُوثَ ونَحوِهم، وكما كان من عبادةِ النَّصارى للمسيحِ عليه السَّلامُ)
[828] يُنظر: ((فصل الخطاب في شرح مسائل الجاهلية)) (1/253). .
وقال المعصومِيُّ الخُجَنْدِيُّ عن القُبورِ التي جُعِلَت أوثانًا تُعبَدُ مِن دونِ اللهِ: (لا يكونُ إيمانُ العَبدِ صَحيحًا حتى يَكفُرَ بهذه كُلِّها، ويؤمِنَ باللهِ وَحْدَه، وهذا معنى قَولِه تعالى:
فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا [البقرة: 256] ، وهذا معنى «لا إلهَ إلَّا اللهُ»، فتنفي الآلهةَ كُلَّها من كُلِّ الوُجوهِ، وتُثبِتُ الإلهَ الحَقَّ الواحِدَ الأحَدَ الصَّمَدَ الذي لم يلِدْ ولم يولَدْ ولم يكُنْ له كُفُوًا أحَدٌ، فهذا التوحيدُ الخالِصُ إنما هو مِفتاحُ الجنَّةِ بلا رَيبٍ ولا شُبهةٍ... فقائِلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، يجِبُ عليه أن يستَمِرَّ عليه وعلى مُوجِبِه، وألَّا يُبطِلَه بما ينافيه من الشِّركِ واتخاذِ الأندادِ واعتِقادِ التصَرُّفِ الغَيبيٍّ لغَيرِ اللهِ، وإلَّا بَطَل، ولا تبقى له منفعةٌ... فلا بدَّ من الاستمرارِ على التوحيدِ، وعلى كُلِّ ما يقتضيه التوحيدُ، ولا بُدَّ من الكُفرِ بالطَّاغوتِ، وكُلِّ آلهةٍ دونَ اللهِ)
[829] يُنظر: ((مفتاح الجنة لا إله إلا الله)) (ص: 34-36). .
وقال
محمَّدُ بنُ إبراهيمَ آل الشَّيخ: (أوَّلُ ما حدث الشِّركُ في قومِ نُوحٍ بسَبَبِ الغُلُوِّ، وهو مجاوزةُ الحَدِّ في محبَّةِ الصَّالحين وتعظيمِهم فوقَ ما شَرَعَه اللهُ؛ عَظَّموهم تعظيمًا غيرَ سائغٍ لهم، بأن عَكَفوا على قُبورِهم، ثمَّ صَوَّروا تماثيلَهم، وإن كانوا ما عَبَدوهم، وإنَّما عَبَدوا الصُّوَرَ؛ لأنَّهم لم يأمُروهم بعبادتِهم، وإن كانوا أيضًا لم يَعبُدوا الصُّوَرَ، إنَّما عَبَدوا
الشَّيطانَ في الحقيقةِ؛ لأنَّه الذي أمَرَهم، وبه تُعرَفُ مَضَرَّةُ الغُلُوِّ في الصَّالحين؛ فإنَّه الهلاكُ كُلُّ الهلاكِ؛ فإنَّ الشِّركَ بهم أقرَبُ إلى النُّفوسِ مِن الشِّركِ بالأشجارِ والأحجارِ، وإذا وقع في القُلوبِ صَعُبَ إخراجُه منها؛ ولهذا أتت الشَّريعةُ بقَطْعِ وَسائِلِه وذرائِعِه المُوصِلةِ إليه، والمقَرِّبةِ منه)
[830] يُنظر: ((شرح كشف الشبهات)) (ص: 23). .
وقال
ابنُ باز: (لِيَعلَم من يقِفُ على هذا التنبيهِ عِظَمَ خَطَرِ الغُلُوِّ، وسُوءَ عاقبتِه، وقد حَذَّر اللهُ من ذلك في قَولِه سُبحانَه:
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وذلك تحذيرٌ منه سُبحانَه لأهلِ الكِتابِ مِن الغُلُوِّ، وتحذيرٌ لنا أن نفعَلَ فِعْلَهم، وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ:
((إيَّاكم والغُلُوَّ في الدِّينِ؛ فإنَّما أهلَكَ من كان قَبْلَكم الغُلُوُّ في الدِّينِ )) [831] أخرجه النسائي (3057) واللَّفظُ له، وابن ماجه (3029)، وأحمد (1851) من حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما. صَحَّحه ابنُ حِبَّان في ((صحيحه)) (3871)، وابن عبد البر في ((التمهيد)) (24/428)، وابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/327). ، وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ:
((لا تُطْروني كما أطْرَتِ النَّصارى ابنَ مريمَ، إنَّما أنا عبدٌ، فقولوا: عَبدُ اللهِ ورَسولُه)) [832] رواه البخاري (3445) باختلاف يسير ، والأحاديثُ في هذا المعنى كثيرةٌ، وهذه النُّصوصُ تُوجِبُ على المسلِمِ أن يحذَرَ الغُلُوَّ والإطراءَ في حَقِّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وحَقِّ غَيِره مِن الأنبياءِ والصَّالحين، وتُوجِبُ عليه أن يلزَمَ الحُدودَ الشَّرعيَّةَ في أقوالِه وأفعالِه، حتى لا يَقَعَ في الشِّرْكِ والبِدَعِ والمعاصي)
[833] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (2/405). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (إنَّ اللهَ أرسَلَ نوحًا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى قَومِه لَمَّا وَقَع فيهم الغُلُوُّ في الصَّالحين، وقد بوَّب المؤلِّفُ
محمَّدُ بنُ عبدِ الوَهَّابِ رحِمَه الله في كتابِ التَّوحيدِ على هذه المسألةِ، فقال: «بابُ ما جاء أنَّ سَبَبَ كُفرِ بني آدَمَ وتَرْكِهم دينَهم هو الغُلُوُّ في الصَّالحين»، والغُلُوُّ هو: مجاوزةُ الحَدِّ في التعَبُّدِ والعَمَلِ والثَّناءِ؛ قَدْحًا أو مَدْحًا)
[834] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (7/17). .
ومِن أنواعِ الغُلُوِّ المُحَرَّمِ في حَقِّ الصَّالحينَ مِمَّا قد يُوصِلُ إلى الشِّرْكِ باللهِ:1- المُبالَغةُ في مَدْحِهم:المبالَغةُ في مَدْحِ الصَّالحين قد تؤدِّي في آخرِ الأمرِ إلى الوُقوعِ في الشِّرْكِ الأكبَرِ في الرُّبوبيَّةِ، وذلك باعتقادِ أنَّ بَعضَ الأولياءِ يتصَرَّفون في الكونِ، وأنَّهم يَسمَعونَ بعدَ مَوتِهم كلامَ مَن دعاهم، ويُجيبون دُعاءَه، ويَنفَعونَ ويضُرُّونَ، ويَعلَمونَ الغُيوبَ.
وقد يؤدِّي هذا الغُلُوُّ أيضًا إلى الوُقوعِ في شِرْكِ الأُلوهيَّةِ، كدُعاءِ الأمواتِ مِن دونِ اللهِ، والاستغاثةِ بهم.
وقد حَذَّر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من الغُلُوِّ في مَدْحِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ فعن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لَا تُطْرُونِي كما أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فإنَّما أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولوا: عبدُ اللَّهِ، وَرَسُولُهُ )) [835] أخرجه البخاري (3445). .
قال
ابنُ حَجَرٍ: (قال ابنُ التِّينِ: معنى قَولِه:
((لا تُطْرُوني)) لا تمدَحوني كمَدْحِ النَّصارى حتى غلا بعضُهم في عيسى فجعَلَه إلهًا مع اللهِ، وبعضُهم ادَّعى أنَّه هو اللهُ، وبعضُهم ابنَ اللهِ، ثم أردَفَ النَّهيَ بقَولِه: أنا عبدُ اللهِ)
[836] يُنظر: ((فتح الباري)) (12/149). .
وإذا كان هذا في حَقِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو سَيِّد وَلَدِ آدَمَ، فغَيرُه من البَشَرِ أَولى ألَّا يُزادَ في مَدْحِهم.
قال إسماعيل الدهلويُّ: (النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَسُرُّه أن يبالِغَ فيه النَّاسُ ويُطْرُوه، شَأْنُ الأمراءِ والملوكِ الذين يحبُّون المبالغةَ والمَلَقَ؛ فإنَّهم لا شَأْنَ لهم بدينِ هؤلاءِ النُّدَماءِ والشُّعَراء، واعتِقادِهم، فلا عليهم إذا فسَدَت عقيدتُهم، أو باؤوا بالإثمِ، أمَّا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقد كان مُرَبِّيًا عطوفًا على أمَّتِه:
عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] ، وكانت عنايتُه مصروفةً إلى إصلاحِ عقيدتِهم وتَقويمِ دِينِهم. وقد جَرَت العادةُ أنَّ المحبِيِّن يُبالغون في مَدْحِ من يحبُّونَهم، ويُسرِفون في ذلك؛ لينالوا رِضاهم، ويُدخِلوا السُّرورَ عليهم، وقد عَرَف النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ أُمَّتَه مِن أشَدِّ الأُمَمِ حُبًّا لنبيِّها، وامتنانًا له، ومَعرِفةً لفَضْلِه، وقد خاف أن تُبالِغَ أمَّتُه في مَدحِه بدافِعِ هذا الحُبِّ، فتتخَطَّى الحُدودَ وتُسيءَ الأدَبَ مع اللهِ أحيانًا، فيَتلَفَ بذلك دينُها وتَهلِكَ، وتعادِيَ النَّبيَّ وتُؤذِيَه؛ لذلك صَرَّح بأنَّه لا يرضى بالمبالغةِ والغُلُوِّ، وأنَّ اسمَه ما سَمَّاه به أهلُه، وناداه به رَبُّه، ليس له من أسماءِ اللهِ شَيءٌ، وأنَّه وُلِدَ كما يُولَدُ سائِرُ النَّاسِ مِن أبٍ وأمٍّ، وحَسْبُه فخرًا أن يكونَ عبدًا لله، ولكِنَّه يمتازُ عن سائرِ عِبادِ اللهِ بالرِّسالةِ، والنَّاسُ عنها في جَهلٍ وغَفلةٍ، لا سبيلَ لهم إليها إلَّا عن طريقِه، فلْيَرْجِعوا إليه ويَلُوذوا به في تعَلُّمِ دينِ اللهِ، وفي مَعرفةِ أحكامِه وشَرائِعِه)
[837] يُنظر: ((تقوية الإيمان)) (ص: 172). .
وقال سُلَيمانُ بنُ سَحمانَ: (الأمرُ الذي حَمَل الجاهليَّةَ على شِرْكِها هو الغُلُوُّ في الصَّالحين، كما قال تعالى:
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء: 171] ، الآية. والغُلُوُّ هو الإفراطُ في التعظيمِ بالقَولِ والاعتقادِ، أي: لا تَرفَعوا المخلوقَ عن منزلتِه التي أنزَلَه اللهُ، فتُنزِلوه المنزِلةَ التي لا تنبغي إلَّا للهِ)
[838] يُنظر: ((الضياء الشارق)) (ص: 430). .
2- تصويرُ الأولياءِ والصَّالحينَ:أوَّلُ شِركٍ وقَعَ في بني آدَمَ كان سَبَبُه الغُلُوَّ في الصَّالحينَ بتَصويرِهم، كما وقَعَ ذلك من قومِ نُوحٍ عليه السَّلامُ.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (روى
محمَّدُ بنُ جريرٍ بإسنادِه إلى
الثَّوريِّ عن موسى بنِ محمَّدِ بنِ قَيسٍ:
وَيَعُوقَ وَنَسْرًا قال: كانوا قومًا صالحين بين آدَمَ ونوحٍ عليهما السَّلامُ، وكان لهم أتباعٌ يقتَدونَ بهم، فلمَّا ماتوا قال أصحابُهم الذين كانوا يقتَدُون بهم: لو صوَّرْناهم كان أشوَقَ لنا إلى العبادةِ إذا ذكَرْناهم، فصَوَّروهم، فلمَّا ماتوا وجاء آخرونَ دَبَّ إليهم
إبليسُ، فقال: إنَّما كانوا يَعبُدونَهم، وبهم يُسقَونَ المطَرَ؛ فعَبَدوهم
[839] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/303). . قال قتادةُ وغَيرُه: كانت هذه الآلهةُ يَعبُدُها قومُ نوحٍ، ثمَّ اتَّخَذها العَرَبُ بعدَ ذلك
[840] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/304). . وهذه العِلَّةُ التي لأجْلِها نهى الشَّارعُ هي أوقَعَت كثيرًا مِن الأُمَمِ إمَّا في الشِّرْكِ الأكبَرِ، أو فيما دونَه مِنَ الشِّركِ؛ فإنَّ النُّفوسَ قد أشرَكَت بتماثيلِ القَومِ الصَّالحين، وبتماثيلَ يَزعُمونَ أنَّها طلاسِمُ للكواكِبِ ونحوُ ذلك)
[841] يُنظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/192). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (قال غيرُ واحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: كان هؤلاء قومًا صالحينَ في قَومِ نوحٍ عليه السَّلامُ، فلمَّا ماتوا عَكَفوا على قُبورِهم، ثمَّ صَوَّروا تماثيلَهم، ثمَّ طال عليهم الأمَدُ فعَبَدوهم، فهؤلاء جَمَعوا بين الفتنَتَينِ: فتنةِ القُبورِ، وفِتنةِ التَّماثيلِ، وهما الفِتْنتانِ اللَّتانِ أشار إليهما رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الحديثِ المتَّفَقِ على صِحَّتِه عن
عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: أنَّ
أمَّ سَلَمةَ رَضِيَ اللهُ عنها ذكَرَت لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كنيسةً رَأَتْها بأرضِ الحَبَشةِ يقالُ لها: مارِيَةُ، فذكَرَت له ما رَأَت فيها من الصُّوَرِ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أولئك قومٌ إذا مات فيهم العَبدُ الصَّالحُ أو الرَّجُلُ الصَّالحُ بَنَوا على قَبْرِه مَسجِدًا، وصَوَّروا فيه تلك الصُّوَرَ، أولئك شِرارُ الخَلْقِ عندَ اللهِ)). فجَمَع في هذا الحديثِ بين التماثيلِ والقُبورِ)
[842] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) (1/332). .
وبسَبَبِ خُطورةِ التصويرِ ورَدَت نصوصٌ شَرعيَّةٌ عديدةٌ فيها التغليظُ على المصَوِّرين، وتحريمُ التصويرِ.
فعن
عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ أشَدَّ النَّاسِ عذابًا عند اللهِ يومَ القيامةِ المصَوِّرون)) [843] أخرجه البخاري (5950) واللفظ له، ومسلم (2109). .
قال
الخطَّابيُّ: (المصَوِّرُ هو الذي يصَوِّرُ أشكالَ الحيوانِ، فيَحكيها بتخطيطٍ لها وتَشكيلٍ... وإنَّما عَظُمَت العُقوبةُ بالصُّورةِ؛ لأنَّها تُعبَدُ مِن دونِ اللهِ، وبَعضُ النُّفوسِ نحوَها يَنزِعُ)
[844] يُنظر: ((أعلام الحديث)) (3/ 2160). .
وقال
ابنُ العربي: (نهى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الصُّورةِ، وذَكَر عِلَّةَ التشبيهِ بخَلْقِ اللهِ، وفيها زيادةُ عِلَّةِ عبادتِها من دونِ اللهِ؛ فنَبَّه على أنَّ نَفْسَ عَمَلِها مَعصيةٌ، فما ظَنُّك بعبادتِها؟ وقد ورد في كُتُبِ التفسيرِ شأنُ يَغُوثَ ويَعوقَ ونَسْرٍ، وأنَّهم كانوا أُناسًا، ثمَّ صُوِّروا بعد مَوتِهم وعُبِدوا، وقد شاهدت بثَغرِ الإسكندريَّةِ إذا مات منهم مَيِّتٌ صَوَّروه من خَشَبٍ في أحسَنِ صُورةٍ، وأجلسوه في موضِعِه من بيتِه، وكَسَوه بِزَّتَه إن كان رجلًا، وحِلْيَتَها إن كانت امرأةً، وأغلقوا عليه البابَ، فإذا أصاب أحدًا منهم كَربٌ أو تجَدَّد له مكروهٌ، فَتَح البابَ عليه وجلس عنده يبكي ويناجيه بكان وكان، حتى يكسِرَ سَورةَ حُزنِه بإهراقِ دُموعِه، ثم يُغلِقُ البابَ عليه وينصَرِفُ عنه! وإن تمادى بهم الزَّمانُ يَعبُدوها من جملةِ الأصنامِ والأوثانِ!)
[845] يُنظر: ((أحكام القرآن)) (4/ 9). .
وقال ابنُ هُبَيرةَ: (إنَّما اشتَدَّ عَذابُ المصَوِّرينَ؛ لأنَّهم يَعملون أصنامًا وإن لم تكُنْ تُعبَدُ في وَقْتِنا هذا عبادةً ظاهِرةً؛ فإنَّ الأُنسَ والمَيلَ إليها دَرَجةً يُخافُ منها الإفضاءُ إلى عِبادتِها)
[846] يُنظر: ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (2/ 30). .
وقال إسماعيل الدهلويُّ: (ما يَفعَلُه بعضُ الجُهَّالِ مِن تعظيمِ صُوَرٍ للأنبياءِ أو الأئمَّةِ، أو الأولياءِ، أو المشايخِ عِندَهم لِيَتبَرَّكوا بها: ضلالٌ مَحضٌ، وإغراقٌ في الشِّركِ، والنَّبيُّ والملائكةُ منه بَراءٌ)
[847] يُنظر: ((تقوية الإيمان)) (ص: 171). .
وقال صالحٌ الفوزان: (العُلَماءُ يتعَرَّضون للتصويرِ في مواضيعِ العَقيدةِ؛ لأنَّ التصويرَ وسيلةٌ مِن وسائِلِ الشِّركِ، وادِّعاءِ المشاركةِ للهِ بالخَلْقِ أو المحاوَلةِ لذلك، وأوَّلُ شِركٍ حَدَث في الأرضِ كان بسَبَبِ التصويرِ... فالتصويرُ هو منشَأُ الوَثَنيَّةِ؛ لأنَّ تصويرَ المخلوقِ تعظيمٌ له، وتعَلُّقٌ به في الغالِبِ)
[848] يُنظر: ((الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد)) (ص: 57). ويُنظر: ((تسهيل العقيدة الإسلامية)) لعبد الله الجبرين (ص: 275). .
وعن أبي الهيَّاجِ الأسديِّ قال: قالَ لي عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ: (أَلَا أَبْعَثُكَ علَى ما بَعَثَنِي عليه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ أَلَّا تَدَعَ تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْتَه، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْتَه). وفي روايةٍ: (وَلَا صُورَةً إلَّا طَمَسْتَهَا)
[849] أخرجه مسلم (969). .
قال أبو العباس القُرطبيُّ: (حاصِلُ هذا الحديثِ الأمرُ بتغييرِ الصُّوَرِ مُطلَقًا، وأنَّ إبقاءَها كذلك مُنكَرٌ، وطَمْسُها: تغييرُها، وذلك يكونُ بقَطْعِ رُؤوسِها، وتغييرِ وُجوهِها، وغيرِ ذلك مِمَّا يُذهِبُها)
[850] يُنظر: ((المفهم)) (2/ 625). .
قال
ابنُ عُثَيمين في هذا الحديثِ: (مُناسَبةُ ذِكرِ القَبرِ المُشرِفِ مع الصُّوَرِ: أنَّ كُلًّا منهما قد يُتَّخَذُ وَسيلةً إلى الشِّركِ؛ فإنَّ أصلَ الشِّرْكِ في قَومِ نوحٍ أنَّهم صَوَّروا رجالًا صالِحين، فلمَّا طال عليهم الأمَدُ عَبَدوها، وكذلك القُبورُ المُشرِفةُ قد يزدادُ فيها الغُلُوُّ حتى تُجعَلَ أوثانًا تُعبَدُ دونَ اللهِ، وهذا ما وَقَع في بعضِ البلادِ الإسلاميَّةِ)
[851] يُنظر: ((القول المفيد)) (2/449). .
وقد حكى
ابنُ العَربيِّ الإجماعَ على حُرمةِ الصُّوَرِ المجسِّدةِ، فقال: (أحاديثُ الصُّوَرِ كثيرةٌ قد بَيَّنَّاها في كتابِ أحكامِ القُرآنِ وغَيرِه، فأمَّا الوعيدُ على المصَوِّرين فهو كسائِرِ الوعيدِ في أهلِ المعاصي مُعَلَّقٌ بالمشيئةِ كما بَيَّنَّاه، وموقوفٌ على التَّوبةِ كما شَرَحْناه، وأمَّا كيفيَّةُ الحُكمِ فيها فإنَّها مُحَرَّمةٌ إذا كانت أجسادًا بالإجماعِ)
[852] يُنظر: ((عارضة الأحوذي)) (7/186). .
وقال
ابنُ باز: (لا فَرْقَ في هذا بين الصُّوَرِ المجَسِّدةِ وغَيرِها من المنقوشةِ في سِتْرٍ أو قِرْطاسٍ أو نَحوِهما، ولا بيْن صُوَرِ الآدميِّينَ وغَيرِها مِن كُلِّ ذي رُوحٍ)
[853] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (4/219). .
3- رَفعُ قُبورِ الصَّالِحين والعُظَماءِ، وبناءُ المَشاهِدِ عليها:عن أبي الهيَّاجِ الأسديِّ قال: قالَ لي عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ: (أَلَا أَبْعَثُكَ علَى ما بَعَثَنِي عليه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ أَلَّا تَدَعَ تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْتَه، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْتَه)
[854] أخرجه مسلم (969). .
قال
ابنُ تيميَّةَ: (اتَّفَق أئمَّةُ الإسلامِ على أنَّه لا يُشرَعُ بناءُ هذه المشاهِدِ على القُبورِ، ولا يُشرَعُ اتِّخاذُها مساجِدَ، ولا يُشرَعُ الصَّلاةُ عندها، ولا يُشرَعُ قَصْدُها لأجْلِ التعَبُّدِ عندها بصلاةٍ أو اعتكافٍ أو استغاثةٍ أو ابتهالٍ أو نحوِ ذلك)
[855] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (27/448). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (لا يجوزُ إبقاءُ مواضِعِ الشِّرْكِ والطَّواغيتِ بعد القُدرةِ على هَدْمِها وإبطالِها يومًا واحِدًا؛ فإنَّها شعائِرُ الكُفرِ والشِّركِ، وهي أعظَمُ المُنكَراتِ، فلا يجوزُ الإقرارُ عليها مع القُدرةِ البتَّةَ، وهذا حُكمُ المَشاهدِ التي بُنِيَت على القُبورِ التي اتُّخِذَت أوثانًا وطواغيتَ تُعبَدُ مِن دونِ اللهِ، والأحجارِ التي تُقصَدُ للتَّعظيمِ والتبَرُّكِ والنَّذرِ والتَّقبيلِ، لا يجوزُ إبقاءُ شَيءٍ منها على وَجهِ الأرضِ مع القُدرةِ على إزالتِه، وكثيرٌ منها بمنزلةِ اللَّاتِ والعُزَّى، ومَناةِ الثَّالِثةِ الأُخرى، أو أعظَمُ شرِكًا عِندَها وبها. واللهُ المستعانُ)
[856] يُنظر: ((زاد المعاد)) (3/ 443). .
وقال البركوي الحنفي عن القُبوريِّين: (قد آل الأمرُ بهؤلاء الضَّالِّين المضِلِّين إلى أن شَرَعوا للقُبورِ حَجًّا، ووضعوا لها مناسِكَ، حتى صَنَّف بعضُ غُلاتِهم في ذلك كتابًا وسمَّاه "مناسِك حَجِّ المشاهِدِ" مُضاهاةً منه بالقبورِ للبَيتِ الحرامِ، ولا يخفى أنَّ هذا مفارقةٌ لدينِ الإسلام،ِ ودخولٌ في دينِ عُبَّادِ الأصنامِ... ولا رَيبَ أنَّ في ذلك من المفاسدِ ما يَعجِزُ العَبدُ عن حَصْرِه!
فمنها: تعظيمُها المُوقِعُ في الافتتانِ بها.
ومنها: تفضيلُها على أحَبِّ البقاعِ إلى اللهِ تعالى؛ فإنَّهم يَقصِدونَها مع التعظيمِ والاحترامِ والخُشوعِ ورِقَّةِ القَلْبِ، وغيرِ ذلك ممَّا لا يفعلونه في المساجدِ، ولا يحصُلُ لهم فيها نظيرُه، ولا قَريبٌ منه، وذلك يقتضي عِمارةَ المشاهدِ وخَرابَ المساجِدِ.
ومنها: اعتِقادُ أنَّ بها يُكشَفُ البلاءُ، ويُنصَرُ على الأعداءِ، ويُستنزَلُ الغَيبُ من السَّماءِ، إلى غيرِ ذلك من الرَّجاءِ.
ومنها: الشِّركُ الأكبَرُ الذي يُفعَلُ عندها...
ومنها: الدُّخولُ في لعنةِ اللهِ ورَسولِه باتخاذِ المساجِدِ عليها...
ومنها: النَّذرُ لها ولسَدَنَتِها.
ومنها: المخالَفةُ لله ولرَسولِه، والمناقَضةُ لِما شَرَعه في دينِه.
ومنها: إماتةُ السُّنَنِ وإحياءُ البِدَعِ.
ومنها: السَّفَرُ إليها مع التَّعَبِ الأليمِ والإثمِ العظيمِ...
ومنها: إيذاءُ أصحابِها؛ فإنَّهم يتأذَّون بما يُفعَلُ عند قبورِهم ممَّا ذُكِرَ، ويكرهونه غايةَ الكراهةِ... وهم يتبرَّؤون منهم يومَ القيامةِ)
[857] يُنظر: ((زيارة القبور الشرعية والشركية)) (ص: 25-28). .
وجاء في كتابِ
((التوضيح عن توحيد الخلاق)): (هؤلاء المعَظِّمون للقُبورِ، المتَّخِذونها أعيادًا، الموقِدون عليها السُّرُجَ، الذين يبنون عليها المساجِدَ والقِبابَ: مناقِضون لِما أمر به رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، محادُّون لِما جاء به، وأعظَمُ ذلك اتخاذُها مساجِدَ، وإيقادُ السُّرُجِ عليها، وهو من الكبائِرِ)
[858] يُنظر: ((التوضيح عن توحيد الخلاق)) (ص: 216). .
وقال سليمانُ بنُ عبدِ اللهِ آل الشَّيخ: (أجمع العُلَماءُ على النَّهيِ عن البناءِ على القُبورِ وتحريمِه ووجوبِ هَدْمِه)
[859] يُنظر: ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 278). .
وقال أبو السعود السويدي الشافعي: (من أعظَمِ البِدَعِ الغُلُوُّ في تعظيمِ القُبورِ، فلقد اتَّخَذوها في هذا الزَّمانِ معابِدَ يعتَقِدون أنَّ الصَّلاةَ عندها أفضَلُ من الصَّلاةِ في جميعِ بُيوتِ اللهِ، وهم وإن لم يصَرِّحوا ولكن طُبِعَت قُلوبُهم على ذلك، فتراهم يقصِدونَها من الأماكِنِ البعيدة، وربما أن تكونَ بحذائِهم مساجِدُ مهجورةٌ؛ فيُعَطِّلونها، وإذا لَحِقوا على الصَّلاةِ فيها ولو في أوقاتِ الكراهةِ كانت أفضَلَ عندهم من الصَّلاةِ في الأوقاتِ الفضيلةِ في المساجِدِ، وتلك المساجِدُ التي بحذاءِ القُبورِ ليست مقصودةً لكونِها بيوتًا لله، بل لكونِها حَضَراتٍ لِمن انتَسَبَت إليه من أهلِ تلك القبورِ، يدُلُّ على ذلك كُلِّه أنَّهم لا يُسَمُّونَها إلَّا حَضَراتٍ، فإذا قُلتَ لأحَدِهم: أين صَلَّيتَ؟ قال: لك: صَلَّيتُ في حَضرةِ الشَّيخِ فلانٍ! وليس مقصودُهم إلا التقَرُّبَ به وبحَضْرتِه... ولقد امتلأَتْ قُلوبُ العوامِّ من رجائِهم ومخافتِهم، فتراهم إذا عَضَلَت عليهم الأمورُ أوصى بعضُهم بعضًا بقصدِ أصحابِ القُبورِ. وكذلك إذا وقع على أحدٍ يمينٌ باللهِ حَلَف به من غيرِ أدنى وَجَلٍ أو حَذَرٍ، وإذا قيل له: احلِفْ بفُلانٍ عند قبرِه خُصوصًا إذا أمَرَه بالغُسْلِ لهذه
اليمينِ؛ ليكونَ ذلك من أقوى العباداتِ، خاف خوفًا يظهَرُ على جميعِ جوارِحِه!)
[860] يُنظر: ((العقد الثمين في بيان مسائل الدين)) (ص: 517). .