الفصلُ الثَّاني: الأدِلَّةُ من السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ على وُجوبِ الاعتِصامِ بالكِتابِ والسُّنَّةِ
1- عن
عَبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنِّي قد تَركْتُ فيكُم ما إنِ اعتَصَمْتُم به فلَن تَضِلُّوا أبَدًا، كِتابَ اللَّهِ وسُنَّةَ نَبيِّه )) [1023] رواه الحاكم (318)، والبيهقي (20833) مطولًا. صحَّحه ابن حزم في ((أصول الأحكام)) (2/251)، والألباني في ((صحيح الترغيب)) (40)، وجوَّد إسناده ابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (24/182)، وقال الحاكم: سائر رواته متَّفَقٌ عليهم، وهذا الحديث لخطبة النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم متَّفَقٌ على إخراجه في الصَّحيح... وله شاهد. .
قال
ابنُ عَبدِ البَرِّ: (الهُدى كُلُّ الهُدى في اتِّباعِ كِتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهيَ المُبيِّنةُ لمُرادِ كِتابِ اللهِ؛ إذا أشَكَلَ ظاهِرُه أبانَتِ السُّنَّة عن باطِنِه، وعن مُرادِ اللهِ منه)
[1024] يُنظر: ((الاستذكار)) (8/265). .
2- قال العِرباضِ بنِ سارِيةَ رَضيَ اللهُ عنه:
((صَلَّى بنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذاتَ يَومٍ ثُمَّ أقبَلَ عَلينا فوعَظَنا موعِظةً بليغةً ذَرَفَت منها العُيونُ ووَجِلَت منها القُلوبُ، فقال قائِلٌ: يا رسولَ اللَّهِ، كأنَّ هذه مَوعِظةُ مُودِّعٍ فماذا تَعهَدُ إلينا؟ فقال أُوصيكُم بتَقوَى اللهِ والسَّمعِ والطَّاعةِ وإنْ عَبدًا حَبشيًّا؛ فإنَّه من يَعِشْ منكُم بَعْدي فسيرَى اختِلافًا كَثيرًا، فعليكم بِسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلفاءِ المَهْديِّين الرَّاشِدين، تَمَسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ، وإيَّاكُم ومُحْدَثاتِ الأمورِ؛ فإنَّ كُلَّ مُحْدَثةٍ بدعةٌ، وكُلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ )) [1025] أخرجه أبو داود (4607) واللَّفظُ له، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42). صحَّحه الترمذي، والبزار كما في ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبدالبر (2/1164)، وابن حبان في ((صحيحه)) (5). .
قال
عَلِي القاري: (
((تَمسَّكوا بها)) أي بالسُّنَّةِ
((وعَضُّوا)) بفَتحِ العَينِ
((عليها)) أي: على السُّنَّةِ
((بالنَّواجِذِ)) جَمعُ ناجِذةٍ بالذَّالِ المُعجَمةِ، وهيَ الضِّرسُ الأخيرُ... والعَضُّ كِنايةٌ عن شِدَّةِ مُلازَمةِ السُّنَّةِ والتمَسُّكِ بها؛ فإنَّ من أرادَ أن يَأخُذَ شيئًا أخذًا شَديدًا يَأخُذُه بأسنانِه. أو: المُحافَظةِ على هذه الوَصيَّةِ بالصَّبرِ على مُقاساةِ الشَّدائِدِ، كمَن أصابَه ألمٌ لا يُريدُ أن يُظهِرَهُ فيَشتَدُّ بأسنانِه بَعضِها على بَعضٍ، قال بَعضُ المُحَقِّقينَ: هذه استِعارةٌ تَمثيليَّةٌ، شَبَّه حالَ المُتَمَسِّكِ بالسُّنَّة المُحَمَّديَّةِ بجَميعِ ما يُمكِنُ من الأسبابِ المُعينةِ عليه بحالِ مَن يَتَمَسَّكُ بشيءٍ بيديه، ثُمَّ يَستَعينُ عليه استِظهارًا للمُحافَظةِ في ذلك؛ لأنَّ تَحصيلَ السَّعاداتِ الحَقيقيَّةِ بَعدَ مُجانَبةِ كُلِّ صاحِبٍ يُفسِدُ الوَقتَ، وكُلِّ سَبَبٍ يَفتِنُ القَلبَ: مَنُوطٌ باتِّباعِ السُّنَّة بأن يَمتَثِلَ الأمرَ على مُشاهدةِ الإخلاصِ، ويُعظِّمَ النَّهيَ على مُشاهدةِ الخَوفِ، بَل باقتِفاءِ آثارِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في جَميعِ مَوارِدِه ومَصادِرِه وحَرَكاتِه وسَكَناتِه ويَقَظَتِه ومَنامِه، حَتَّى يُلجِمَ النَّفسَ بلجامِ الشَّريعةِ)
[1026] يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) (1/253). .
3- عن
جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما قال: كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا خَطَبَ احمَرَّتْ عيناهُ، وعَلا صَوتُه، واشتَدَّ غَضبُه، حَتَّى كأنَّه مُنذِرُ جيشٍ، يَقولُ: صَبَّحَكُم ومَسَّاكم، ويَقولُ:
((بُعِثْتُ أنا والسَّاعةُ كهاتينِ))، ويَقرِنُ بينَ أصبَعيه السَّبَّابةِ والوُسطَى، ويَقولُ:
((أمَّا بَعدُ، فإنَّ خيرَ الحَديثِ كِتابُ اللَّهِ، وخيرَ الهدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وشَرَّ الأمورِ مُحدَثاتُها، وكُلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ)) [1027] رواه مسلم (867). .
قال ابنُ هُبَيرةَ: (قَولُه:
((وشَرَّ الأمورِ مُحدَثاتُها)) يَعني كُلَّ ما أُحدِثَ بَعدَهُ في كُلِّ شيءٍ إذا كان مُخالِفًا لِمَا شَرعَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وكَذلك قَولُه:
((كُلُّ بِدعةٍ ضَلالةٌ)) إذا كانت مُخالِفةً أيضًا، وأصلُ
البِدعةِ من حيثُ الاشتِقاقُ: الانفِرادُ، فصاحِبُها يَنفَرِدُ بها من جِهةِ أنَّه ابتَدَأها، ومنه قَولُه: أُبدِعَ بي، أي: أُفرِدْتُ، فلَمَّا لم يَرَها المُسْلِمونَ حَسَنةً، كانت ضَلالةً)
[1028] يُنظر: ((الإفصاح)) (8/352). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ: (قد توَسَّعُ من تَأخَّرَ عنِ القُرونِ الثَّلاثةِ الفاضِلةِ في غالِبِ الأمورِ الَّتي أنكَرَها أئِمَّةُ التابِعين وأتباعُهم، ولم يَقتَنِعوا بذلك حَتَّى مَزَجوا مَسائِلَ الدِّيانةِ بكَلامِ اليونانِ، وجَعلوا كلامَ الفَلاسِفةِ أصلًا يَرُدُّونَ إليه ما خالَفَه من الآثارِ بالتأويلِ، ولَو كان مُستَكرَهًا، ثُمَّ لم يَكتَفوا بذلك حَتَّى زَعموا أنَّ الَّذي رَتَّبوهُ هو أشرَفُ العُلومِ وأولاها بالتحصيلِ، وأنَّ من لم يَستَعمِل ما اصطَلَحوا عليه فهو عاميٌّ جاهِلٌ! فالسَّعيدُ من تَمَسَّكَ بما كان عليه السَّلَفُ، واجتَنَبَ ما أحدَثَه الخَلفُ)
[1029] يُنظر: ((فتح الباري)) (13/253). .
4- عن أبي هُريرةَ رَضيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((دعوني ما تَرَكتُكُم؛ إنَّما هلكَ من كان قَبلكم بسُؤالِهم واختِلافِهم على أنبيائِهم، فإذا نَهيتُكُم عن شيءٍ فاجتَنِبوه، وإذا أمرتُكُم بأمرٍ فأْتُوا منه ما استَطَعتُ م)) [1030] رواه البخاري (7288) واللَّفظُ له، ومسلم (1337). .
قال
ابنُ حَجَرٍ: (يَنبَغي للمُسلِمِ أن يَبحَثَ عَمَّا جاءَ عَنِ اللهِ ورَسولِه، ثُمَّ يَجتَهدَ في تَفهُّمِ ذلك والوُقوفِ على المُرادِ به، ثُمَّ يَتَشاغَلَ بالعَمَلِ به، فإن كان من العِلميَّاتِ يَتَشاغَلُ بتَصديقِه، واعتِقادِ حَقِّيَّتِه، وإن كان من العَمَليَّاتِ بَذلَ وُسْعَه في القيامِ به فِعلًا وتَركًا)
[1031] يُنظر: ((فتح الباري)) (13/263). .
5- عنِ المِقدامِ بن مَعْدِيكَرِبَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((ألا إنِّي أوتيتُ الكِتابَ ومِثلَه مَعَهُ، لا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعانُ على أريكَتِه يَقولُ: عليكم بهذا القُرآنِ، فما وجَدتُم فيه من حَلالٍ فأحِلُّوه، وما وجَدتُم فيه من حَرامٍ فحَرِّموه )) [1032] أخرجه من طُرُقٍ: أبو داود (4604) واللَّفظُ له، والترمذي (2664)، وابن ماجه (12). صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (12)، وابن تيمية في ((الإيمان)) (37)، وابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (2/324). .
قال
الخَطابيُّ: (يُحذِّرُ بذلك مُخالَفةَ السُّنَنِ الَّتي سَنَّها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِمَّا ليسَ لَهُ في القُرآنِ ذِكْرٌ، على ما ذَهبَت إليه
الخَوارِجُ والرَّوافِضُ؛ فإنَّهم تَعلَّقوا بظاهِرِ القُرآنِ، وتَرَكوا السُّنَنَ الَّتي قد ضَمِنَت بيانَ الكِتابِ، فتَحيَّروا وضَلُّوا)
[1033] يُنظر: ((معالم السنن)) (4/298). .
وقال
ابنُ بَطَّةَ: (ليَعْلَم المُؤمِنونَ من أهلِ العَقلِ والعِلمِ أنَّ قَومًا يُريدونَ إبطالَ الشَّريعةِ ودُروسَ آثارِ العِلمِ والسُّنَّةِ، فهم يُمَوِّهونَ على من قَلَّ عِلمُه وضَعُفَ قَلبُه بأنَّهم يَدْعُونَ إلى كِتابِ اللَّهِ، ويَعمَلونَ به، وهم من كِتابِ اللهِ يَهرُبونَ، وعنه يُدبِرونَ، ولَهُ يُخالِفونَ؛ وذلك أنَّهم إذا سَمِعوا سُنَّةً رُوِيَت عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رواها الأكابِرُ عن الأكابِرِ، ونَقلَها أهلُ العَدَالةِ والأمانةِ، ومَن كان مَوضِعَ القُدوةِ والأمانةِ، وأجمَعَ أئِمَّةُ المُسلِمينَ على صِحَّتِها، أو حَكمَ فُقَهاؤُهم بها؛ عارَضوا تِلكَ السُّنَّةَ بالخِلافِ عليها، وتَلَقَّوها بالرَّدِّ لَها، وقالوا لِمن رواها عِندَهم: تَجِدُ هذا في كِتابِ اللَّهِ؟! وهل نَزَلَ هذا في القُرآنِ؟ وأْتُوني بآيةٍ من كِتابِ اللهِ حَتَّى أُصَدِّقَ بهذا!)
[1034] يُنظر: ((الإبانة الكبرى)) (1/223). .
فالسُّنَّةُ النَّبَويَّةُ جُزءٌ من الوَحيِ. قال اللَّهُ تعالى:
وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3-4] .
قال
السَّمعانيُّ: (كُلُّ ما ثَبَتَ بالسُّنَّةِ فكَأنَّه ثابِتٌ في الكِتابِ)
[1035] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (2/102). .
وقال
ابنُ حَزْمٍ: (لَمَّا بَيَّنَّا أنَّ القُرآنَ هو الأصلُ المَرجوعُ إليه في الشَّرائِعِ، نَظَرنا فيه فوَجَدنا فيه إيجابَ طاعةِ ما أمَرَنا به رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ووَجَدناهُ عَزَّ وجَلَّ يَقولُ واصِفًا لرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النَّجم: 3-4] ؛ فصَحَّ لَنا بذلك أنَّ الوَحيَ يَنقَسِمُ مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ إلى رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على قِسمين:
أحَدُهما: وحيٌ مُتلوٌّ مُؤَلَّفٌ تَأليفًا مُعجِزَ النِّظامِ، وهو القُرآنُ.
الثَّاني: وحيٌ مَرْويٌّ مَنقولٌ غيرُ مُؤَلَّفٍ ولا مُعجِزِ النِّظامِ ولا مَتْلوٍّ، لَكِنَّهُ مَقروءٌ، وهو الخَبَرُ الوارِدُ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو المُبيِّنُ عَنِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ مُرادَه مِنَّا)
[1036] يُنظر: ((الإحكام في أصول الأحكام)) (1/96). .
وقال
ابنُ كَثيرٍ عنِ السُّنَّةِ: (إنَّها شارِحةٌ للقُرآنِ وموَضِّحةٌ لَهُ، بَل قد قال الإمامُ
أبو عَبدِ الله مُحَمَّدُ بنُ إدريسَ الشَّافِعيُّ رَحِمَه اللَّهُ: كُلُّ ما حَكَمَ به رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فهو مِمَّا فَهِمَه من القُرآنِ؛ قال اللَّهُ تعالى:
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء: 105] ، وقال تعالى:
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44] ، وقال تعالى:
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل: 64] .
ولِهذا قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "ألا إنِّي أوتيتُ القُرآنَ ومِثلَه مَعَهُ"
[1037] لفظ الحديثِ: عن المِقدامِ بنِ مَعدِيكَرِب الكندي، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "ألا إني أوتيتُ الكتابَ ومِثلَه معه، ألا إني أوتيتُ القرآنَ ومِثلَه معه، ألا يوشِكُ رجلٌ يَنثني شبعان على أريكتِه يقول: عليكم بالقرآنِ، فما وجدتُم فيه من حلالٍ فأحِلُّوه، وما وجدتُم فيه من حرامٍ فحَرِّموه..". أخرجه من طرق مطولًا أبو داود (4604)، والترمذي (2664)، وأحمد (17174) واللَّفظُ له. صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (12)، وابن تيمية في ((الإيمان)) (37)، وابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (2/324). يَعني: السُّنَّةَ. والسُّنَّةُ أيضًا تَنزِلُ عليه بالوَحيِ، كما يَنزِلُ القُرآنُ، إلَّا أنَّها لا تُتْلَى كما يُتْلَى القُرآنُ، وقدِ استَدَلَّ الإمامُ
الشَّافِعيُّ رَحِمَه اللَّهُ وغيرُه من الأئِمةِ على ذلك بأدِلَّةٍ كَثيرةٍ)
[1038] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/7). .