المبحثُ الأوَّلُ: الأدِلَّةُ من القُرآنِ الكَريمِ على وُجوبِ الإمامةِ
1- قال اللهُ تعالى:
يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [النساء: 59] .
قال
ابنُ جَريرٍ : (أَولَى الأقوالِ في ذلك بالصَّوابِ قَولُ من قال: همُ الأمراءُ والوُلاةُ؛ لصِحَّةِ الأخبارِ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالأمرِ بطاعةِ الأئِمةِ والوُلاةِ فيما كان للهِ طاعةً ولِلمُسلِمينَ مَصلَحةً)
[1223] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/182). .
وقال
ابنُ حَزْمٍ : (القُرآنُ والسُّنَّةُ قد ورَدَ بإيجابِ الإمامِ؛ من ذلك: قَولُ اللهِ تعالى:
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59] مَعَ أحاديثَ كَثيرةٍ صِحاحٍ في طاعةِ الأئِمَّةِ وإيجابِ الإمامةِ)
[1224] يُنظر: ((الفصل)) (4/72). .
وقال
ابنُ كَثيرٍ : (الظَّاهِرُ -واللَّهُ أعلمُ- أنَّ الآيةَ عامَّةٌ في جَميعِ أُولي الأمرِ من الأُمَراءِ والعُلماءِ)
[1225] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/345). .
ووَجهُ الاستِدلالِ من هذه الآيةِ: أنَّ اللهَ سُبحانَهُ أوجَب على المسْلِمينَ طاعةَ أُولي الأمرِ منهم وهمُ الأئِمةُ، والأمرُ بالطَّاعةِ دَليلٌ على وُجوبِ نَصْبِ وَليِّ الأمرِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى لا يَأمُرُ بطاعةِ مَن لا وُجودَ لَهُ، ولا يَفرِضُ طاعةَ مَن وُجودُه مَندوبٌ، فالأمرُ بطاعَتِه يَقتَضي الأمرَ بإيجادِه، فدَلَّ على أنَّ إيجادَ إمامٍ للمُسلِمينَ أمرٌ واجِبٌ عليهم
[1226] يُنظر: ((الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة)) للدميجي (ص: 47). .
2- قال اللهُ سُبحانَه مُخاطبًا نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
وَأَنِ احْكُمْ بيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِليْكَ [المائدة: 49] .
وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
فَاحْكُمْ بيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ... [المائدة: 83] .
فهذا أمرٌ مِنَ اللهِ تعالى لرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأن يَحكُمَ بَينَ المُسلِمينَ بما أنزَلَ اللَّهُ -أي بشَرعِه-، وخِطابُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خِطابٌ لأمَّتِه ما لم يَرِدْ دَليلٌ يُخَصِّصُه به، وهُنا لم يَرِدْ دَليلٌ على التخصيصِ، فيَكونُ خِطابًا للمُسلِمينَ جَميعًا بإقامةِ الحُكْمِ بما أنزَلَ اللهُ إلى يَومِ القيامةِ، ولا يَعني إقامةُ الحُكمِ والسُّلطانِ إلَّا إقامةَ الإمامةِ؛ لأنَّ ذلك من وظائِفِها، ولا يُمكِنُ القيامُ به على الوَجهِ الأكمَلِ إلَّا عن طَريقِها، فتَكونُ جَميعُ الآياتِ الآمِرةِ بالحُكْمِ بما أنزَلَ اللَّهُ دَليلًا على وُجوبِ نَصْبِ إمامٍ يَتَوَلَّى ذلك، واللَّهُ أعلمُ
[1227] يُنظر: ((الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة)) للدميجي (ص: 48). .
3- قال اللهُ تعالى:
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحديد: 25] .
قال
ابنُ تَيمِيَّةَ : (فالدِّينُ الحَقُّ لا بُدَّ فيه من الكِتابِ الهادي والسَّيفِ النَّاصِرِ، كما قال تعالى:
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ [الحَديد: 25] . فالكِتابُ يُبَيِّنُ ما أمرَ اللَّهُ به وما نَهى عنه، والسَّيفُ يَنصُرُ ذلك ويُؤَيِّدُه)
[1228] يُنظر: ((منهاج السنة)) (1/531). .
فمُهمَّةُ الرُّسُلِ عليهمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ ومن أتَى بَعدَهم من أتباعِهم أن يُقيموا العَدْلَ بَينَ النَّاسِ على وَفقِ ما في الكِتابِ المُنزَّلِ، وأن يَنصُروا ذلك بالقوَّةِ، وهذا لا يَأتي لأتباعِ الرُّسُلِ إلَّا بتَنصيبِ إمامٍ يُقيمُ فيهمُ العَدْلَ، ويُنَظِّمُ جُيوشَهم
[1229] يُنظر: ((الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة)) للدميجي (ص: 48). .
4- ومِنَ الأدِلَّةِ القُرآنيَّةِ أيضًا جَميعُ آياتِ الحُدودِ والقِصاصِ والأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ وغَيرِها من الأحكامِ الَّتي يَلزَمُ القيامَ بها وُجودُ إمامٍ؛ لأنَّها من مَسؤوليَّاتِه، فتَشريعُ مِثلِ هذه الأحكامِ يَلزَمُه مُسبَقًا تَشريعُ حُكمِ لُزومِ الإمامةِ وقيامِ الدَّولةِ الإسلاميَّةِ في المُجتَمَعِ المُسلِمِ. فما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلَّا به فهو واجِبٌ
[1230] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسبكي (2/88)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/360). . وقد عُلِمَ أنَّ اللهَ سُبحانَهُ وتعالى أمرَ بأمورٍ لَيسَ في مَقدورِ آحادِ النَّاسِ القيامُ بها، ومن هذه الأمورِ: إقامةُ الحُدودِ، وتَجهيزُ الجُيوشِ المُجاهِدةِ لنَشْرِ الإسلامِ، وإعلاءِ كلِمةِ اللَّهِ، وجِبايةُ الزَّكاةِ وصَرفُها في مَصارِفِها المُحَدَّدةِ، وسَدُّ الثُّغورِ، وحِفظُ حَوزةِ المُسلِمينَ، ونَشْرُ العَدْلِ، ودَفْعُ الظُّلمِ، وقَطْعُ المُنازَعاتِ الواقِعةِ بَينَ العِبادِ. إلى غَيرِ ذلك من الواجِباتِ الَّتي لا يَستَطيعُ أفرادُ النَّاسِ القيامَ بها، وإنَّما لا بُدَّ من إيجادِ السُّلطةِ وقوَّةٍ لَها حَقُّ الطَّاعةِ على الأفرادِ تَقومُ بتَنفيذِ هذه الواجِباتِ، وهذه السُّلْطةُ هيَ الإمامةُ. فبِناءً على ذلك يَجِبُ تَعيينُ إمامٍ يُخضَعُ لَهُ وُيطاعٌ، ويَكونُ لَهُ حَقُّ التصَرُّفِ في تَدبيرِ الأمورِ حَتَّى يَتَأتَّى لَهُ القيامُ بهذه الواجِباتِ.
قال
ابنُ حَزْمٍ : (قد عَلِمنا بضَرورةِ العَقلِ وبَديهتِه أنَّ قيامَ النَّاسِ بما أوجَبَه اللَّهُ من الأحكامِ عليهم في الأموالِ والجِناياتِ والدِّماءِ والنِّكاحِ والطَّلاقِ وسائِرِ الأحكامِ كُلِّها، ومَنعِ الظَّالِمِ، وإنصافِ المَظلومِ، وأخذِ القِصاصِ على تَباعُدِ أقطارِهم وشَواغِلِهم واختِلافِ آرائِهم، وامتِناعِ من تَحرَّى في كُلِّ ذلك مُمتَنِعٌ غَيرُ مُمكِنٍ؛ إذ قد يُريدُ واحِدٌ أو جَماعةٌ أن يَحكُمَ عليهم إنسانٌ ويُريدُ آخَرُ أو جَماعةٌ أخرَى ألَّا يَحكُمَ عليهم؛ إمَّا لأنَّها تَرَى في اجتِهادِها خِلافَ ما رَأى هؤلاء، وإمَّا خِلافًا مُجَرَّدًا عليهم، وهذا الَّذي لا بُدَّ منه ضَرورةً، وهذا مُشاهَدٌ في البِلادِ الَّتي لا رَئيسَ لَها، فإنَّه لا يُقامُ هُناكَ حُكمٌ حَقٌّ ولا حَدٌّ حَتَّى قد ذَهبَ الدِّينُ في أكثَرِها، فلا تَصِحُّ إقامةُ الدِّين إلَّا بالإسنادِ إلى واحِدٍ أو أكثَرَ)
[1231] يُنظر: ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (4/72). .
انظر أيضا:
عرض الهوامش