المبحثُ الأوَّلُ: من شُروطِ انعِقادِ الإمامةِ: الإسلامُ
الإسلامُ شَرطٌ واجِبٌ في كُلِّ وِلايةٍ إسلاميَّةٍ، صَغيرةً كانت أو كبيرةً، فاشتِراطُه في الوِلايةِ العُظمَى أَولَى وأَولَى.
ومن الأدِلَّةِ على ذلك:1- قال اللهُ تعالى:
وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء: 141] .
أي: بأن يُسَلَّطوا عليهم في الدُّنيا -على أحَدِ أوجُه التفسيرِ-، ومَعلومٌ أنَّ الوِلايةَ العُظمَى هيَ أعظَمُ سَبيلٍ وأقوَى تَسليطٍ على المَحكومِ.
قال
ابنُ كَثيرٍ: (قَولُه:
وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا... جاءَ رَجُلٌ إلى عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ، فقال: كيفَ هذه الآيةُ:
وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا؟ فقال عَليٌّ رَضيَ اللهُ عنه: ادنُهْ ادْنُهْ، ثُمَّ قال:
فاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا وكَذا رَوَى ابنُ جُرَيجٍ عن عَطاءِ الخُراسانيِّ، عنِ ابنِ عَبَّاسٍ... قال: ذاكَ يَومُ القيامةِ...
وقال السُّدِّيُّ:
وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا أي: حُجَّةً.
ويُحتَمَلُ أن يَكونَ المُرادُ:
وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا أي: في الدُّنيا، بأن يُسَلَّطوا عليهمُ استيلاءَ استِئصالٍ بالكُليةِ، وإن حَصَلَ لَهم ظَفَرٌ في بَعضِ الأحيانِ على بَعضِ النَّاسِ، فإنَّ العاقِبةَ للمُتَّقين في الدُّنيا والآخِرةِ)
[1273] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/436). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (الكافِرُ لا وِلايةَ لَهُ على مُؤمنٍ:
وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء: 141] )
[1274] يُنظر: ((الشرح الممتع)) (12/250). .
2- قال اللهُ سُبحانَه:
يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة: 51] .
ومِثلُ ذلك قَولُ اللهِ عزَّ وجَلَّ:
يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَليْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا [النساء: 144] .
وكذلك قَولُ اللهِ تعالى:
لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَليْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً... [آل عمران: 28] ، إلى غَيرِ ذلك من الآياتِ النَّاهيةِ عن تَوَلي الكُفَّارِ. وتَوليَتُهم نَوعٌ من التوَلي المَنهيِّ عنه؛ لذا لا يَجوزُ تَوَليَتُهم على شَيءٍ من أمورِ المُسلِمينَ.
قال
ابنُ القَيِّمِ: (فصلٌ في سياقِ الآياتِ الدَّالَّةِ على غِشِّ أهلِ الذِّمَّةِ للمُسلِمينَ وعَداوَتِهم وخيانَتِهم وتَمنِّيهمُ السُّوءَ لَهم، ومُعاداةِ الرَّبِّ تعالى لِمَن أعَزَّهم أو والاهم أو ولَّاهم أمورَ المُسلِمينَ...) ثُمَّ أورَدَ آياتٍ كَثيرةً في ذلك
[1275] يُنظر: ((أحكام أهل الذمة)) (1/494). .
3- قال اللهُ سُبحانَه:
يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [النساء: 59] .
فقَولُه تعالى:
مِنكُمْ نصٌّ على اشتراطِ أن يكونَ وليُّ الأمرِ مِن المسلِمينَ.
4- عن
عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((فارجِعْ فلَن أستَعينَ بمُشرِكٍ ))، للَّذي تَبِعَه يَومَ بَدْرٍ، وأرادَ أن يَغزوَ مَعَهُ وهو على شِركِه
[1276] رواه مسلم (1817). .
فإذا ورَدَ النَّهيُ عن الاستِعانةِ بالكافِرِ في بَعضِ الأمورِ فكَيفَ يُستَعانُ به على تَدبيرِ أمورِ المُسلِمينَ ويُولَّى أمرَهم؟!
ومِمَّنِ امتَثَلَ هذا الأمرَ من خُلفاءِ المُسلِمينَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ تعالى عنه.
فعن أبي موسى رَضِيَ الله عنه: أنَّ عُمرَ رَضِيَ الله عنه أمرَه أن يَرفَعَ إليه ما أخذَ وما أعطَى في أديمٍ واحِدٍ، وكان لأبي موسَى كاتِبٌ نَصرانيٌّ يَرفَعُ إليه ذلك، فعَجِبَ عُمَرُ رَضِيَ الله عنه، وقال: إنَّ هذا لحافِظٌ، وقال: إنَّ لَنا كِتابًا في المَسجِدِ، وكان جاءَ من الشَّامِ، فادْعُهُ فليَقرَأْ، قال أبو موسَى: إنَّه لا يَستَطيعُ أن يَدخُلَ المَسجِدَ. فقال عُمرُ رَضِيَ الله عنه : أجُنُبٌ هو؟ قال: لا، بَل نَصرانيٌّ. قال: فانتَهَرنى وضَربَ فَخِذي وقال: أخرِجْه، وقَرَأ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة: 51] قال أبو موسى: واللَّهِ ما تَولَّيتُه، إنَّما كان يَكتُبُ! قال: أمَا وَجَدْتَ في أهلِ الإسلامِ مَن يَكتُبُ لَكَ؟! لا تُدْنِهم إذ أقصاهمُ اللَّهُ، ولا تَأمَنْهم إذ أخانَهم اللَّهُ، ولا تُعِزَّهم بَعدَ إذ أذَلَّهمُ اللَّهُ؛ فأخرَجَه)
[1277] أخرجه الثعلبي في ((التفسير)) (3/135)، والبيهقي (20911) واللَّفظُ له، والواحدي في ((التفسير الوسيط)) (292). صحَّح إسنادَه ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/184)، والألباني في ((إرواء الغليل)) (8/255). .
ودَرَجَ على ذلك الخُلفاءُ الَّذينَ لَهم ثَناءٌ حَسَنٌ في الأمَّةِ؛ ك
عُمَرَ بنِ عَبدِ العَزيزِ، و
المَنصورِ، و
الرَّشيدِ، و
المَهدِيِّ، والمُتَوَكِّلِ، والمُقتَدِرِ، وغَيرِهم
[1278] يُنظر: ((أحكام أهل الذمة)) لابن القيم (1/456). .
5- الإجْماعُ:أجمَع المُسْلِمونَ على عَدَمِ جَوازِ تَوليةِ الكُفَّارِ تَدبيرَ أمورِ المُسلِمينَ، وأنَّه لا وِلايةَ لكافِرٍ على مُسلِمٍ، وقد حَكى هذا الإجْماعَ كَثيرٌ من أهلِ العِلمِ.
قال ابنُ المُنذِرِ: (أجمَعَ كُلُّ مَن يُحفَظُ عنه من أهلِ العِلمِ أنَّ الكافِرَ لا وِلايةَ لَهُ على مُسلِمٍ بحالٍ)
[1279] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/377)، ((أحكام أهل الذمة)) لابن القيم (2/787). .
وقال عياضٌ: (لا خِلافَ بَينَ المُسلِمينَ أنَّه لا تَنعَقِدُ الإمامةُ للكافِرِ، ولا تَستَديمُ لَهُ إذا طَرَأ عليه، وكَذلك إذا تَرَكَ إقامةَ الصَّلَواتِ والدُّعاءَ إليها)
[1280] يُنظر: ((إكمال المعلم)) (6/246). .