الفرعُ الأولُ: فَضلُ الصَّحابةِ في القُرآنِ الكَريمِ
مِنَ الآياتِ القُرآنيَّةِ في بَيانِ فَضلِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم:
1- قَولُ اللهِ تعالى:
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: 29] .
قال
السَّعديُّ: (يُخبِرُ تعالى عن رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه مِنَ المُهاجِرينَ والأنصارِ، أنَّهم بأكمَلِ الصِّفاتِ، وأجلِّ الأحوالِ، وأنَّهم
أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ أي: جادُّون ومُجتَهِدونَ في عَداوَتِهِم، وساعونَ في ذلك بغايةِ جُهدِهِم، فلَم يَرَوا مِنهم إلَّا الغِلْظةَ والشِّدَّةَ؛ فلِذلك ذَلَّ أعداؤُهم لهم، وانكَسَروا، وقَهَرَهمُ المُسْلِمونَ،
رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ أي: مُتَحابُّونَ مُتَراحِمونَ مُتَعاطِفونَ، كالجَسَدِ الواحِدِ، يُحِبُّ أحَدُهم لِأخيه ما يُحِبُّ لِنَفسِه، هَذِه مُعامَلَتُهم مَعَ الخَلقِ، وأمَّا مُعامَلَتُهم مَعَ الخالِقِ فإنَّكَ
تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا أي: وَصْفُهم كثرةُ الصَّلاةِ، الَّتي أجلُّ أركانِها الرُّكوعُ والسُّجودُ.
يَبْتَغُونَ بتِلكَ العِبادةِ
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا أي: هَذا مَقصودُهم بلوغُ رِضا رَبِّهم، والوُصولُ إلى ثَوابِه.
سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ أي: قَد أثَّرَتِ العِبادةُ -مِن كثرَتِها وحُسْنِها- في وُجوهِهِم، حَتَّى استَنارَت، لَمَّا استَنارَت بالصَّلاةِ بواطِنُهم استَنارَت بالجَلالِ ظَواهِرُهم.
ذَلِكَ المَذكورُ
مَثَلُهُمْ في التَّوْرَاةِ أي: هَذا وصْفُهمُ الَّذي وصَفَهمُ اللهُ به، مَذكورٌ بالتَّوراةِ هَكَذا. وأمَّا مَثَلُهم في الإنجيلِ فإنَّهم مَوصوفون بوَصفٍ آخَرَ، وأنَّهم في كمالِهِم وتَعاوُنِهِم
كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ أي: أخرَجَ فراخَهُ، فوازَرَتهُ فراخُهُ في الشَّبابِ والاستِواءِ.
فَاسْتَغْلَظَ ذلك الزَّرعُ، أي: قَوِيَ وغَلُظَ
فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ جَمعُ ساقٍ،
يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ من كمالِه واستِوائِه، وحُسنِه واعتِدالِه، كذلك الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم، هم كالزَّرعِ في نَفعِهِم لِلخَلقِ واحتياجِ النَّاسِ إلَيهِم، فقُوَّةُ إيمانِهِم وأعمالِهِم بمَنزِلةِ قوَّةِ عُروقِ الزَّرعِ وسُوقِه، وكَونُ الصَّغيرِ والمُتَأخِّرِ إسلامُه قَد لحِقَ الكَبيرَ السَّابِقَ ووازَرَهُ وعاوَنَهُ عَلى ما هو عليه، من إقامةِ دينِ اللهِ والدَّعوةِ إلَيه؛ كالزَّرعِ الَّذي أخرَجَ شَطْأهُ، فآزَرَهُ فاستَغلَظَ؛ ولِهَذا قال:
لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ حينَ يَرَونَ اجتِماعَهم وشِدَّتَهم عَلى دينِهِم، وحينَ يَتَصادَمونَ هم وهم في مَعارِكِ النِّزالِ، ومَعامِعِ القِتالِ.
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا فالصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم، الَّذينَ جَمَعوا بَينَ الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالِحِ، قَد جَمَعَ اللهُ لهم بَينَ المَغفِرةِ، الَّتي من لوازِمِها وِقايةُ شُرورِ الدُّنيا والآخِرةِ، والأجرُ العَظيمُ في الدُّنيا والآخِرةِ)
[1472] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 795). .
2- قال اللهُ سُبحانَه:
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (أخبَرَ اللهُ العَظيمُ أنَّه قَد رَضِيَ عنِ السَّابِقينَ الأوَّلينَ مِنَ المُهاجِرينَ والأنصارِ والَّذينَ اتَّبَعوهم بإحسانٍ: فيا وَيلَ مَن أبغَضَهُم أو سَبَّهم أو أبغَضَ أو سَبَّ بَعضَهُم!)
[1473] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 203). .
3- قال اللهُ عزَّ وجَلَّ:
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات: 7] .
قال رَحمتُ اللهِ الهِنديُّ في هَذِه الآيةِ: (الصَّحابةُ كانوا مُحِبِّي الإيمانِ كارِهي الكُفرِ والفِسْقِ والعِصيانِ، وكانوا راشِدينَ، فاعتِقادُ ضِدِّ هَذِه الأشياءِ في حَقِّهِم خَطَأٌ)
[1474] يُنظر: ((إظهار الحق)) (3/ 935). .
4- قال اللهُ تعالى:
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر: 8 - 10] .
عن مُحَمَّدٍ الباقِرِ عن أبيه
عَليِّ بنِ الحُسَينِ بنِ عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ قال: أتاني نَفرٌ من أهلِ العِراقِ فطَعَنوا في
أبي بَكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ، فلَمَّا فرَغوا، قال لهم
عَليُّ بنُ الحُسَينِ: ألا تُخبِروني أنتم المُهاجِرونَ الأوَّلونَ
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا الآية؟ قالوا: لا، قال: فأنتَم
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ الآية؟ قالوا: لا، قال: أمَّا أنتَم فقَد بَرِئتُم أن تَكونوا من أحَدِ هَذين الفَريقينِ، وأنا أشهَدُ أنَّكم لَستُم مِنَ الَّذينَ قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ الآية!)
[1475] رواه الدارقطني في ((فضائل الصحابة)) (36). .
وقَد قال اللهُ عنِ الَّذينَ بايَعوا النَّبيَّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يَومَ الحُدَيبيَةِ تَحتَ الشَّجَرةِ وكانوا ألفًا وأربَعَمِائةٍ:
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح: 18] .
عن
جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ عَبْدًا لِحاطِبٍ جاءَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَشكو حاطِبًا، فقال: يا رَسولَ الله ليَدخُلَنَّ حاطِبٌ النَّارَ! فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((كذَبْتَ، لا يَدخُلُها؛ فإنَّهُ شَهِدَ بَدرًا والحُدَيبيَةَ )) [1476] رواه مسلم (2495). .
قال
ابنُ الجوزيِّ: (في هَذا الحَديثِ بِشارةٌ لِمَن شَهِدَ بَدرًا والحُدَيبيَةَ، وقَد قال في أهلِ بَدرٍ:
((لعَلَّ اللهَ اطَّلَع عَلى أهلِ بَدرٍ فقال: اعمَلوا ما شِئتُم؛ فإنِّي قَد غَفَرتُ لكم )) [1477] أخرجه البخاري (3007)، ومسلم (2494) مطولًا باختلاف يسير من حديثِ علي بن أبي طالب رضي الله عنه. . وقال اللهُ تعالى في أهلِ الحُدَيبيَةِ:
لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرةِ [الفتح: 18] )
[1478] يُنظر: ((كشف المشكل من حديثِ الصحيحين)) (3/ 97). .
وعن
جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما عن أمِّ مُبَشِّرٍ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ عِندَ
حَفصةَ:
((لَا يَدْخُلُ النَّارَ -إِنْ شَاءَ اللهُ- مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدٌ، الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا )) [1479] رواه مسلم (2496). .
قال النَّوَويُّ: (قال العُلَماءُ: مَعناهُ لا يَدخُلُها أحَدٌ مِنهم قَطعًا، كما صَرَّحَ به في الحَديثِ الَّذي قَبلَهُ؛ حَديثِ حاطِبٍ، وإنَّما قال: إنْ شاءَ اللهُ؛ لِلتَّبَرُّكِ لا لِلشَّكِّ)
[1480] يُنظر: ((شرح مسلم)) (16/ 58). .