المطلبُ الأوَّلُ: الأدِلَّةُ عَلى وُقوعِ التَّفاضُلِ بَينَ الصَّحابةِ مِنَ القُرآنِ الكَريمِ
1- قَولُ اللهِ تعالى:
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد: 10] .
قال البَراءُ بنُ عازبٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: (تَعُدُّونَ أنتم الفَتحَ فتحَ مَكَّةَ، وقَد كانَ فتحُ مَكَّةَ فَتحًا، ونَحنُ نَعُدُّ الفَتحَ بيعةَ الرِّضوانِ يَومَ الحُدَيبيَةِ)
[1512] رواه البخاري (4150). .
وقال
ابنُ جَريرٍ: (مَعنى ذلك: لا يَستَوي مِنكم أيُّها النَّاسُ من أنفَقَ في سَبيلِ اللهِ مِن قَبلِ فَتحِ الحُدَيبيَةِ... يَقولُ تعالى ذِكرُه: هَؤُلاءِ الَّذينَ أنفَقوا في سَبيلِ اللهِ مِن قَبلِ فَتحِ الحُدَيبيَةِ، وقاتَلوا المُشرِكينَ أعظَمُ دَرَجةً في الجَنَّةِ عِندَ اللهِ مِنَ الَّذينَ أنفَقوا من بَعدِ ذلك وقاتَلوا)
[1513] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/ 395). .
وقال
الكيا الهَراسيُّ: (عنى به فتحَ الحُدَيبيَةِ، ودَلَّ به عَلى أنَّ فضيلةَ العَمَلِ عَلى قَدرِ رُجوعِ مَنفَعَتِه إلى الإسلامِ والمُسْلِمينَ، أو لِكَثرةِ المِحنةِ به لِقِلَّةِ المُسْلِمينَ وكَثرةِ الكُفَّارِ، وهوَ مِثلُ قَولِه تعالى:
الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ)
[1514] يُنظر: ((أحكام القرآن)) (4/ 401). .
وقال ابنُ جُزَيٍّ: (مَعنى الآيةِ التَّفاوُتُ في الأجرِ والدَّرَجاتِ بَينَ مَن أنفَقَ في سَبيلِ اللهِ وقاتَلَ قَبلَ فتحِ مَكَّةَ، وبَينَ مَن أنفَقَ وقاتَلَ بَعدَ ذلك، فإنَّ الإسلامَ قَبلَ الفَتحِ كانَ ضَعيفًا، والحاجةُ إلى الإنفاقِ والقِتالِ كانَت أشَدَّ، ويُؤخَذُ مِنَ الآيةِ أنَّ من أنفَقَ في شِدَّةٍ أعظَمُ أجرًا مِمَّن أنفَقَ في حالِ الرَّخاءِ... وفي هَذا المَعنى قال رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّم:
((لا تَسُبُّوا أصحابي؛ فلو أنفَقَ أحَدُكم مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ما بَلَغَ مُدَّ أحَدِهِم ولا نَصيفَه )) [1515] رواه البخاري (3673)، ومسلم (2541) باختلاف يسير من حديثِ أبي سعيد الخدريِّ رضي الله عنه. ، يَعني السَّابِقين الأوَّلين مِنَ المُهاجِرينَ والأنصارِ، وخاطَبَ بذلك من جاءَ بَعدَهم من سائِرِ الصَّحابةِ، ويَدخُلُ في الخِطابِ كُلُّ مَن يَأتي إلى يَومِ القيامةِ،
وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى أي: كُلُّ واحِدةٍ مِنَ الطَّائِفَتين الَّذينَ أنفَقوا وقاتَلوا قَبلَ الفَتحِ وبَعدَهُ وعَدَهمُ اللهُ الجَنَّةَ)
[1516] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/ 344). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (الجُمهورُ عَلى أنَّ المُرادَ بالفَتحِ هاهُنا فتحُ مَكَّةَ. وعنِ الشَّعبيِّ وغَيرِه أنَّ المُرادَ بالفَتحِ هاهُنا: صُلحُ الحُدَيبيَةِ، وقَد يُستَدَلُّ لِهَذا القَولِ بما قال
الإمامُ أحمَدُ:
حَدَّثَنا أحمَدُ بنُ عَبدِ المَلكِ، حَدَّثَنا زُهَيرٌ، حَدَّثَنا حُمَيدٌ الطَّويلُ، عن
أنَسٍ قال: كانَ بَينَ
خالِدِ بْنِ الوَليدِ وبَينَ
عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ عَوفٍ كلامٌ، فقال
خالِدٌ لِ
عَبدِ الرَّحمَنِ: تَستَطيلونَ علينا بأيَّامٍ سَبَقتُمونا بها؟ فبَلَغَنا أنَّ ذلك ذُكِرَ لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال:
((دَعُوا لي أصحابي؛ فوالَّذي نَفسي بيدِه لو أنفَقتُم مِثلَ أُحُدِ -أو مِثلَ الجِبالِ- ذَهَبًا، ما بَلَغتُم أعمالَهم)) [1517] أخرجه أحمد (13812)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (35/270)، والضياء في ((الأحاديث المختارة)) (2046). صحَّحه الألباني في ((صحيح الجامع)) (3386)، وصحَّح إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (13812)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (19/10)، والشوكاني في ((در السحابة)) (38): رجاله رجال الصحيح. .
ومَعلومٌ أنَّ إسلامَ
خالِدِ بنِ الوَليدِ المواجَهِ بهَذا الخِطابِ، كانَ بَينَ صُلحِ الحُدَيبيَةِ وفَتحِ مَكَّةَ)
[1518] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/12). .
وقال
السَّعدي: (المُرادُ بالفَتحِ هُنا هو فَتحُ الحُدَيبيَةِ، حينَ جَرى مِنَ الصُّلحِ بَينَ الرَّسولِ وبَينَ قُرَيشٍ مِمَّا هو أعظَمُ الفُتوحاتِ الَّتي حَصَلَ بها نَشرُ الإسلامِ، واختِلاطُ المُسْلِمينَ بالكافِرين، والدَّعوةُ إلى الدِّينِ مِن غَيرِ مُعارِضٍ، فدَخلَ النَّاسُ من ذلك الوَقتِ في دينِ اللهِ أفواجًا، واعتَزَّ الإسلامُ عِزًّا عَظيمًا، وكانَ المُسْلِمونَ قَبلَ هَذا الفَتحِ لا يَقدِرونَ عَلى الدَّعوةِ إلى الدِّينِ في غَيرِ البُقعةِ الَّتي أسلَمَ أهلُها، كالمَدينةِ وتَوابِعِها، وكانَ من أسلَمَ من أهلِ مَكةَ وغَيرِها من ديارِ المُشرِكينَ يُؤذى ويُخافُ؛ فلِذلك كانَ من أسلَمَ قَبلَ الفَتحِ وأنفَقَ وقاتَلَ أعظَمَ دَرَجةً وأجرًا وثَوابًا مِمَّن لم يُسلِمْ ويُقاتِلْ ويُنفِقْ إلَّا بَعدَ ذلك، كما هو مُقتَضى الحِكْمةِ؛ ولِذلك كانَ السَّابِقونَ وفُضَلاءُ الصَّحابةِ غالِبُهم أسلَمَ قَبلَ الفَتحِ)
[1519] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 839). .
2- قال اللهُ سُبحانَه:
وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة: 100] .
قال
الشَّوكانيُّ: (في الآيةِ تَفضيلُ السَّابِقينَ الأوَّلينَ مِنَ المُهاجِرينَ والأنصارِ، وهمُ الَّذينَ صَلَّوا القِبْلَتينِ في قَولِ
سَعيدِ بنِ المُسَيِّبِ وطائِفةٍ، أوِ الَّذينَ شَهِدوا بيعةَ الرِّضوانِ، وهيَ بيعةُ الحُدَيبيَةِ في قَولِ الشَّعبيِّ، أو أهْلُ بَدرٍ في قَولِ مُحَمَّدِ بنِ كَعبٍ وعَطاءِ بْنِ يَسارٍ، ولا مانِعَ من حَملِ الآيةِ عَلى هَذِه الأصنافِ كُلِّها، قال أبو مَنصورٍ البَغداديُّ: أصحابُنا مُجْمِعونَ عَلى أنَّ أفضَلَهمُ الخُلفاءُ الأربَعةُ، ثُمَّ السِّتَّةُ الباقونَ، ثُمَّ البَدريُّون، ثُمَّ أصحابُ أُحُدٍ، ثُمَّ أهْلُ بَيعةِ الرِّضوانِ بالحُدَيبيَةِ...
ومَعنى
الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ: الَّذينَ اتَّبَعوا السَّابِقين الأوَّلين مِنَ المُهاجِرينَ والأنصارِ، وهمُ المُتَأخِّرونَ عنهم مِنَ الصَّحابةِ فمَن بَعدَهُم إلى يَومِ القيامةِ، ولَيسَ المُرادُ بهِم التَّابِعينَ اصطِلاحًا، وهم كُلُّ من أدرَك الصَّحابةَ ولَم يُدرِكِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بَل هم من جُملةِ مَن يَدخُلُ تَحتَ الآيةِ، فتَكونُ
مِن في قَولِه:
مِنَ الْمُهَاجِرينَ عَلى هَذا لِلتَّبعيضِ، وقيلَ: إنَّها لِلبَيانِ، فيَتَناوَلُ المَدحُ جَميعَ الصَّحابةِ، ويَكونُ المُرادُ بالتَّابِعينَ: مَن بَعدَهُم مِنَ الأمَّةِ إلى يَومِ القيامةِ)
[1520] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (2/ 453). .
3- قال اللهُ عزَّ وجَلَّ:
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ [الأحزاب: 32] .
قال
ابنُ عَبَّاسٍ: (يُريدُ: ليسَ قَدرُكُنَّ عِندي مِثلَ قَدْرِ غَيرِكُنَّ مِنَ النِّساءِ الصَّالِحاتِ، أنتُنَّ أكرَمُ عليَّ وأنا بَكُنَّ أرحَمُ وثَوابُكُنَّ أعظَمُ)
[1521] ذكره الواحدي في ((التفسير الوسيط)) (3/469). .
ففي الآيةِ دَلالةٌ عَلى تَفضيلِ نِساءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَلى سائِرِ الصَّحابيَّاتِ رَضِيَ اللهُ عنهنَّ.