الفرعُ الثالثُ: فَضْلُ عَبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوفٍ رَضِيَ اللهُ عنه
مَناقِبُه وفَضائِلُهُ رَضِيَ اللهُ عنه كثيرةٌ، وقَد ورَدَتْ أحاديثُ بذِكرِها؛ مِنها:
1- تَقديمُ الصَّحابةِ لهُ في إمامةِ الصَّلاةِ، وصَلاةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَلفَهُ.
عنِ المُغِيرةِ بن شُعبةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه غَزَا مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَبُوكَ، قال:
((فتَبرَّزَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قِبَلَ الغائِطِ فحَمَلْتُ مَعَهُ إداوةً قَبلَ صَلاةِ الفَجْرِ، فلَمَّا رَجَعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَيَّ أخَذْتُ أُهريقُ عَلى يَدَيه مِنَ الإداوةِ وغَسلَ يَدَيه ثَلاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ غَسلَ وَجْهَه، ثُمَّ ذَهَبَ يُخرِجُ جُبَّتَهُ عن ذِراعَيه، فضاقَ كُمَّا جُبَّتِهِ، فأدخَلَ يَدَيه في الجُبَّةِ، حَتَّى أخرَجَ ذِراعَيه من أسفَلِ الجُبَّةِ، وغَسلَ ذِراعَيه إلى المِرفَقَينِ، ثُمَّ توَضَّأ عَلى خُفَّيه، ثُمَّ أقبَلَ. قال المُغِيرةُ: فأقبَلْتُ مَعَهُ حَتَّى نَجِدَ النَّاسَ قَد قَدَّموا عَبدَ الرَّحمَنِ بنَ عَوفٍ، فصلَّى لهم، فأدرَكَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إحدى الرَّكعَتينِ، فصَلَّى مَعَ النَّاسِ الرَّكعةَ الآخِرةَ، فلَمَّا سَلَّمَ عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ عَوفٍ قامَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُتِمُّ صَلاتَهُ، فأفزَعَ ذلك المُسْلِمينَ فأكثَروا التَّسبيحَ، فلَمَّا قَضى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَلاتَهُ أقبَلَ عليهِم، ثُمَّ قال: أحسَنتُمُ، أو قال: قَد أصَبتُم، يَغبِطُهم أن صَلَّوُا الصَّلاةَ لوقَتِها. وفي رِوايةٍ: قال المُغِيرةُ: فأرَدتُ تَأخيرَ عَبدِ الرَّحمَنِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: دَعْهُ )) [1741] رواه مسلم (274). .
قال
ابنُ عَبدِ البَرِّ: (فيه جَوازُ أن يُقَدِّمَ النَّاسُ في مَساجِدِهِم إمامًا لأنفُسِهِم بغَيرِ إذْنِ الوالي، وأنَّ ذلك ليسَ كالجُمُعةِ الَّتي هيَ إلى الوُلاةِ، ولا يُفتاتُ عليهِم فيها إلَّا أن يُعَطِّلوها أو تَنزِلَ نازِلةُ ضَرورةٍ، وفيه جَوازُ ائتِمامِ الوالي في عَمَلِه برَجُلٍ من رَعِيَّتِه... وفيه فضلٌ ل
عَبدِ الرَّحمَنِ؛ إذ قَدَّمَهُ جَماعةُ الصَّحابةِ لأنفُسِهِم في صَلاتِهِم بَدَلًا من نَبيِّهِم عليه السَّلامُ)
[1742] يُنظر: ((الاستذكار)) (1/ 215). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (ثَبَت في الصَّحيحِ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَلَّى وراءَهُ الرَّكعةَ الثَّانيةَ من صَلاةِ الفَجْرِ في بَعضِ الأسفارِ. وهَذِه مَنْقَبةٌ عَظيمةٌ لا تُبارى!)
[1743] يُنظر: ((البداية والنهاية)) (10/ 255). .
2- من مَناقِبِه رَضِيَ اللهُ عنه دِفاعُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنه.
عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: كانَ بَينَ
خالِدِ بنِ الوَليدِ، وبَينَ
عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ عَوفٍ شَيءٌ، فسَبَّهُ
خالِدٌ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا تَسُبُّوا أحَدًا من أصحابي؛ فإنَّ أحَدَكم لو أنفَقَ مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، ما أدرَكَ مُدَّ أحَدِهم ولا نَصيفَه )) [1744] رواه البخاري (3673)، ومسلم (2541) واللَّفظُ له. .
قال ابنُ أبي العِزِّ: (النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ ل
خالِدٍ ونَحوِه: لا تَسُبُّوا أصحابي، يَعني
عَبدَ الرَّحمَنِ وأمثالَه، لأنَّ
عَبدَ الرَّحمَنِ ونَحوَهُ همُ السَّابِقونَ الأوَّلونَ، وهمُ الَّذينَ أسلَموا من قَبلِ الفَتحِ وقاتَلوا، وهم أهلُ بَيعةِ الرِّضوانِ، فهم أفضَلُ وأخَصُّ بصُحبَتِه مِمَّن أسلَمَ بَعدَ بيعةِ الرِّضوانِ، وهمُ الَّذينَ أسلَموا بَعدَ الحُدَيبيَةِ، وبَعدَ مُصالَحةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أهْلَ مَكَّةَ، ومِنهم
خالِدُ بنُ الوَليدِ، وهَؤُلاءِ أسبَقُ مِمَّن تَأخَّر إسلامُهم إلى فتحِ مَكَّةَ، وسُمُّوا الطُّلَقاءَ، مِنهم أبو سُفيانَ وابناهُ يَزيدُ و
مُعاويةُ.
والمَقصودُ أنَّه نَهى من لهُ صُحبةٌ آخِرًا أن يَسُبَّ من لهُ صُحبةٌ أوَّلًا؛ لامتيازِهِم عنهم مِنَ الصُّحبةِ بما لا يُمكِنُ أن يَشرَكوهم فيه، حَتَّى لو أنفَقَ أحَدُهم مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ما بَلَغَ مُدَّ أحَدِهِم ولا نَصيفَهُ.
فإذا كانَ هَذا حالَ الَّذينَ أسلَموا بَعدَ الحُدَيبيَةِ، وإن كانَ قَبلَ فتحِ مَكَّةَ، فكَيفَ حالُ من ليسَ مِنَ الصَّحابةِ بحالٍ مَعَ الصَّحابةِ؟! رَضِيَ اللهُ عنهم أجمَعينَ. والسَّابِقونَ الأوَّلونَ -مِنَ المُهاجِرينَ والأنصارِ- همُ الَّذينَ أنفَقوا من قَبلِ الفَتحِ وقاتَلوا، وأهلُ بَيعةِ الرِّضوانِ كُلُّهم مِنهم، وكانوا أكثَرَ من ألفٍ وأربَعِمِائةٍ)
[1745] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (2/ 691). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ: (المُرادِ بقَولِه أوَّلًا:
((أصحابي)) أصحابٌ مَخصوصونَ، وإلَّا فالخِطابُ كانَ للصَّحابةِ، وقَد قال: لو أنَّ أحَدَكم أنفَقَ، وهَذا كقَولِه تعالى:
لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ الآية، ومَعَ ذلك فنَهْيُ بَعضِ من أدرَكَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وخاطَبَه بذلك عن سَبِّ مَن سَبَقَه يَقتَضي زَجْرَ من لم يُدرِكِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولَم يُخاطِبْهُ عن سَبِّ مَن سَبَقَه مِن بابِ الأَولى)
[1746] يُنظر: ((فتح الباري)) (7/ 34). .
3- ومِن مَناقِبِه رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَعا اللهَ لهُ أن يَسقيَهُ من سَلْسَبيلِ الجَنَّةِ.
عن
أمِّ سَلَمةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ لأزواجِه:
((إنَّ الَّذي يَحنو عليكُنَّ بَعدي لهوَ الصَّادِقُ البارُّ، اللَّهمَّ اسقِ عَبدَ الرَّحمَنِ بنَ عَوفٍ مِن سَلْسَبيلِ الجَنَّ ةِ)) [1747] رواه أحمد (26559) واللَّفظُ له، والطبراني (23/378) (896)، والحاكم (5357). صحَّحه الحاكم، وحسَّنه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (26559)، ووثق رجال إسناده الشوكاني في ((در السحابة)) (190). .
وعن
عائِشةَ:
((أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كانَ يَقولُ: إنَّ أمرَكُنَّ مِمَّا يُهِمُّني بَعدِي ولَن يَصبِرَ عليكُنَّ إلَّا الصَّابِرونَ، قال: ثُمَّ تَقولُ عائِشةُ: فسقى اللهُ أباكَ من سَلْسَبيلِ الجَنَّةِ، تُريدُ عَبدَ الرَّحمَنِ بنَ عَوفٍ، وكانَ قَد وصَلَ أزواجَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمالٍ بِيعَت بأربَعينَ ألفًا)) [1748] رواه الترمذي (3749) واللَّفظُ له، وابن حبان (6995)، والحاكم في ((المستدرك)) (5360). صحَّحه الترمذي، وابن حبان، والحاكم على شرط الشيخين. .
قال الطِّيبيُّ: (فيه دَلالةٌ بَيِّنةٌ عَلى فضلِ التَّصَدُّقِ لا سِيَّما الإحسانِ والبِرِّ إلى أهلِ البَيتِ، وعَلى فضلِ
عَبدِ الرَّحمَنِ رَضِيَ اللهُ عنه)
[1749] يُنظر: ((شرح المشكاة)) (12/ 3897). .
4- من أجَلِّ مَناقِبِه وأعلاها شَهادةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لهُ بالجَنَّةِ.
عن
عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ عَوفٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أبو بَكْرٍ في الجَنَّةِ، وعُمرُ في الجَنَّةِ، وعُثمانُ في الجَنَّةِ، وعَليٌّ في الجَنَّةِ، وطَلْحةُ في الجَنَّةِ، والزُّبَيْرُ في الجَنَّةِ، وعَبدُ الرَّحمَنِ بنُ عَوفٍ في الجَنَّةِ ...)) الحَديثِ
[1750] رواه الترمذي (3747) واللَّفظُ له، وأحمد (1675). صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (7002)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3747)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (3/136)، وشعيب الأرناؤوط على شرط مسلم في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (7002). .
قال
المُناويُّ: (إنَّما بَشَّرَ العَشَرةَ بكَونِهِم فيها مَعَ أنَّ عامَّةَ أصحابِه فيها ولَم يُبشِّرْهم؛ لأنَّ عَظمةَ اللهِ قَد مَلَأت صُدورَ أولَئِكَ فلَم تَضُرَّهمُ البُشْرى، وأمَّا غَيرُهم فلَم يَأمَنْ نُفوسَهم فكتَمَ عنهم)
[1751] يُنظر: ((التيسير بشرح الجامع الصغير)) (2/ 132). .